مجلة إشكالات في اللغة والأدب
مرحبا بزوار المنتدى وقراء مجلة [ إشكالات ].. نرجو منكم الانضمام إلى أعضائه والتواصل مع أسرة المجلة.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

مجلة إشكالات في اللغة والأدب
مرحبا بزوار المنتدى وقراء مجلة [ إشكالات ].. نرجو منكم الانضمام إلى أعضائه والتواصل مع أسرة المجلة.
مجلة إشكالات في اللغة والأدب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الإيقاع في الشعر العربي الحديث

اذهب الى الأسفل

الإيقاع في الشعر العربي الحديث Empty الإيقاع في الشعر العربي الحديث

مُساهمة  مدير المنتدى الجمعة مايو 22, 2015 8:51 pm

الإيقاع في الشعر العربي الحديث

د. المير بومدين
جامعة بشار

ملخص:
يعالج هذا المقال مسألة الإيقاع في الشعر العربي في أشكاله المتغيرة، إذ أضحى الحديث عن الأوزان وارتباطها بالشعر أساس الدراسات التي تبحث في مبنى الخطاب الشعري ومعناه، وبدأ الحديث، منذ عصر النهضة، عن الإيقاع الشعري والموسيقى الداخلية والتلونات الإيقاعية والدفقات الشعورية وغيرها، إلى جانب الحديث التقليدي عن الوزن والقافية، وهذه المفاهيم الجديدة إنما هي سنة طبيعية فرضتها شروط القصيدة العربية الحديثة .
الكلمات المفتاحية:
الإيقاع الشعري، التجديد ،شعر التفعيلة ،إيقاع الكلمات، الموسيقى الداخلية، الموسيقى الخارجية، قصيدة النثر.
---------
• الإيقاع الشعري :
ليس الشعر وسيلة للتعبير عما يجيش في النفس الإنسانية من انفعالات ومشاعر، وفي مواجهتها الدائمة مع مظاهر العالم الخارجي وأحداثه فحسب، بل هو طريقة لممارسة الحياة، ومفتاح للدخول إلى أعماقها، فمنذ أن كان الإنسان، كان الشعر. وحيثما وجد الإنسان وجد الشعر .
ولا ريب أن يحاول العرب بين الفينة والأخرى – التعديل والتجديد في الشعر إذ شهد تاريخه منذ صدر الإسلام تغيرات كثيرة ومتوالية، وركزت هذه التغيرات على الصور الموسيقية للقصيدة الشعرية العربية؛ ومن الحركات التجديدية التي وجهت إلى الصورة الموسيقية -على سبيل المثال لا الحصر- للقصيدة العربية الكلاسيكية تجديدات الموشحات الأندلسية التي ظهرت منذ أواخر القرن الثالث الهجري، وإن كانت لم ترج لدى كبار الشعراء إلا فيما بين أواخر القرن الخامس وأوائل القرن الثامن كما يذكر غنيمي هلال.( )
إن المتتبع لمسيرة الشعر العربي الحديث والمعاصر يجد التجديد متصلا دائما، حتى وإن اختلفت سرعة التيار، فقد "داخل شوقي بين الأوزان في مسرحياته الشعرية، كما جاء بأوزان لا عهد للعروضيين بها " ( ) وتلك الأوزان استدعاها المسرح الشعري الذي لا يطيب للشاعر إذا سار على بحر واحد كما لا يمكنه أن يحتفظ بقافية واحدة على امتداد المسرحية، وقد كان لشوقي حسب عبد العزيز المقالح – من المؤهلات الفنية ما يؤهله لأن يضع أسس الحداثة الشعرية من خلال مسرحه الشعري ذلك أن المسرح الشعري نسق جديد يستدعي بنية عروضية جديدة، لكنه (أي شوقي) كان يهرب من الحداثة إلى البداوة ." ( ) بحثا عن أصالة شعرية.
ولم تلبث القصيدة العربية بعد فترة ازدهار الكلاسيكية الجديدة عند شوقي ومدرسته أن تعرضت لثورات عنيفة حول الصورة الموسيقية التقليدية وقدرتها على مصاحبة الانفعالات الشعرية المعقدة المتشابكة نتيجة لما جد على الشعر من مفاهيم غيرت وظيفته ومفهومه، وخاضت القصيدة العربية في ثورتها تجارب عديدة في محاولة الوصول إلى صور موسيقية تتناسب والمفاهيم الشعرية الجديدة، ولكن هذه الثورة لم تستطع أن تحقق نموا سريعا مثلما حققت قضايا أخرى كقضايا المضمون مثلا. وهذا الأمر الطبيعي. يحتاج –بطبيعة الحال – إلى مرحلة طويلة للتعود ومن ثم التذوق. والموقف نفسه صدر الشاعر أحمد زكي أبو شادي الذي ضاق ذرعا بالحدود الضيقة في الشعر، فتخلص في بعض أشعاره من القافية تخلصا نهائيا معلنا ثورته عليها بوصفها كابحة للاسترسال .( ) بيد أن التحرير من أعباء الوزن والقافية كان أكثر تجليا عند شعراء المهجر، حتى أن" أكثر الباحثين يردون إليهم هذا التحرير الجديد، ويعدّ غيرهم من شعراء الوطن العربي المجددين مقلدين لهم ومتأثرين بهم"( )، وشبيه بموقف أولئك موقف جماعة الديوان التي دعت إلى " أن يصدر الشاعر عن روح العصر وطبيعته وأن يتحرر من قيود القافية وذلك بتنويعها "( )، ومن ثم كانت جماعة الديوان حلقة مهمة من حلقات تطور الشعر العربي الحديث.
كان شكري أكثر شعراء جماعة الديوان ثورة على هذه الصورة الموسيقية التقليدية فكتب شعرا بلا قافية، كقصائد كلمات العواطف. ( )كما استخدم القوافي المزدوجة والمتقابلة في عدد من القصائد، ووضع المازني القوافي المرسلة المزدوجة وكتب العقاد في نظام المقطوعات كقصيدة المصرف.( )وحاول المازني أن ينوع في عدد تفاعيل السطر الشعري الواحد أيضا كما في قصيدته "إلى جوارها " وفي قصيدة "ليلة وصباح " التي مطلعها:
خَيمَ الهَمٌ عَلَى صَدرِي المشَوقْ
يَا صَديقِي
ونهج العقاد النهج نفسه في عدد من القصائد منها المصرف ضمن ديوان: عابر سبيل، وقصيدة عدنا والتقينا ضمن ديوان "بعد الأعاصير " التي يقول في مقطع منها :
اِلتَقَينَا
والتَقَينَا
عَجَبًا كَيْفَ صَحَونَا ذَاتَ يَوْمٍ فَالتَقَينَا
بَعْدَ فرْقِ قُطْرَانٍ وَجَيْشَانْ يَدَيْنَـــا
فَتَصَافَحْنَا بِجِسْمَيْنَا عُدْنَا فَالْتَقَيْنَا
بَعْدَ عَصْرٍ
ثار الشعر العربي الحديث على كل أشكال الرتابة، ومن هنا كان رفضه للقوالب العروضية الجاهزة، وجاءت الأشكال الإيقاعية المبتعدة لتكون بديلا عن الأطر المعدة سلفا، ومن هنا كانت "أول ضربة أنزلتها القصيدة الجديدة بالقارئ الكلاسيكي هي تلك الضربة التي تلقتها عيناه، فقد اعتاد أن يرى القصيدة بشكلها الثابت"( ) وهكذا زلزلت طمأنينة القارئ الذي اعتاد نظاما ثابتا. وأرجع إبراهيم أنيس هذه الظاهرة إلى اعتماد الشعر العربي على الموسيقى الخارجية، إلاّ أن عناية العرب بموسيقية الكلام ترجع إلى أنهم لم يكونوا أهل كتابة وقراءة، بل أهل سماع وإنشاد، ويتعاون اللسان في مثل تلك البنية على إيثار العناصر الموسيقية من اللغة، فاعتماد على مسامعهم في الحكم( ) وهو الأصل في تذوق الشعر العربي منذ أزهر الشعر، ولا يمكن للشعر أن ينفك عن هذا الأساس على الرغم من توفيقه بين الإمتاع والمؤانسة من جهة وبين الإفادة والتأثير في الواقع من جهة أخرى، فلهذين الأساسيين وضع الشعر ومن رام غير ذلك فليبحث له عن فن آخر.
دوافع التجديد في إيقاع الشعر العربي
كان من أثر اطلاع العرب على حضارة الغرب أن تغيرت نظرتهم إلى الكثير من الأمور، وبدت الكيانات المختلفة فاقدة الكثير من تماسكها. ومن جملة تلك الكيانات الشعر، الذي أستطاع أن يحافظ على نظامه شبه الثابت لقرون عديدة، وفي هذا الصدد يشير شوقي ضيف " إلى أن الشعراء العرب قد اطلعوا على الآداب الغربية، فكان من أثر ذلك معرفتهم أن اللغات القديمة في تلك الآداب لم يعرف شعرها القافية "( ) كما أن الأدب الأوروبي الحديث فيه شعر مرسل لا يرتبط بالقوافي، وشعر تتقابل فيه القوافي أو تتعانق. وقد نادى الشعراء في القرن العشرين بالتحرر من القافية بوصفها تعيق حرية الشاعر في نظم القصائد القصصية الطويلة ( )، وكان من أثر ذلك أن " أسرع توفيق البكري فصنع قصيدة بدون قافية وسماها ذات القوافي، ثم تلاه الزهاوي وعبد الرحمن شكري فألفا قصيدة من هذا النمط المرسل".( )و أمام هذه المحاولات الكثيرة الطامحة تجاه التغيير والتبديل، كان على بعض من دعاة الحداثة أن يستجمعوا القوى لمحاولة أخرى ،شهد لها بالدقة والقوة ،وهذه المحاولة هي تلك التي تمثلت في الدعوة لما يعرف باسم شعر التفعيلة، لكن قبل ذلك يكون من الواجب أن نقف عند بعض الأمور التي تكون بمثابة المقدمات لما يوسم بالإيقاع الحديث، وأهم هذه المقدمات أن ظهور هذه الدعوة وشعرها تزامن والوجود الاستدماري الذي كانت الأمة العربية والإسلامية رازحتين تحت نيره، مما دفع بهم إلى إحداث الجديد في الفن والإبداع، وتشير نازك الملائكة إلى أن هناك عدة عوامل أدت إلى انبثاق حركة الشعر الحر تحددها في ما يأتي: ( ).
ا- النزوع إلى الواقع : حيث أن الأوزان الحرة تسمح للشاعر أن يرتاد الحقيقة الواقعية ويبتعد عن الأجواء الرومانسية، وأسلوب الشطرين يعيق تحقيق هذه الرغبة نظرا لنظامه الصارم الذي لا يسمح بأي نوع من التجاوز .
ب- الحنين إلى الاستقلال: ويمكن تلخيصه في رغبة الشاعر الحديث في تحقيق التفرد والاستقلال بشخصيته عن شخصية الشاعر القديم، وذلك بالإبداع عن طريق الاستيحاء من حاجات العصر ،و كان السبيل إلى تحقيق ذلك " الثورة على القوالب الشعرية ".
ج- النفور من النموذج: والمقصود هاهنا النموذج الشعري الذي يحبس الشاعر في إطار ضيق، ولذلك عمد الشاعر الحديث إلى إرباك هذا النموذج والخروج على الرتابة وهذا النفور من النموذج ليس خاصا بالشعر وحده، وإنما هو سمة مميزة للعصر.
ح- الهروب من التناظر: الذي يميز بناء الشعر كما يميز بناء البيوت في العالم العربي وتشير نازك إلى أن ثورتها على " طريقة الشطرين الخليلية " إنما كانت بسبب نفورها من المنزل المتناظر الذي يتطابق جانباه تمام التطابق " .
خ- إيثار المضمون: وهذا الإيثار يعدّ ثورة على ما ساد في العصور المتأخرة من تغليب للجانب الشكلي، حيث غلبت على الشعر العربي "القوالب الشكلية والصناعية الفارغة والأشكال التي لا تعبر عن حاجة حيوية " وإذا كان الشاعر القديم يتمسك بالوزن والقافية على حساب المعاني والصور، فإن الشاعر الحديث ينطلق من الحياة ليبدع أشكالا تتلاءم وحاجاته الفكرية الشعورية .
إن هذه العوامل وغيرها جعلت الشعر العربي ينفتح على تجارب جديدة قد تتجاوز عيوب الشكل الشعري القديم والتي لخصها الباحث يوسف نور عوض في ما يأتيSad )
- عدم قدرة الشكل القديم على استيعاب المضمون الحديث، فقد صار هذا الشكل لكثرة الاستعمال مرتبطا بأغراض محددة.
- موسيقى الشكل القديم حادة وبارزة. ذلك أن الغرض من الشعر القديم كان الخطابية في المحافل، وكانت غاية الشعر التأثير في سامعيه.
و إذا كان من النقاد من يعزو عدم قدرة الشكل القديم على استيعاب المضمون الحديث إلى عروض الخليل، فإن محمد عزام ذهب إلى تصحيح النظرة إل عروض الخليل، فأشار إلى أن الخليل لم يقصد وضع قاعدة تراعى في المستقبل، وإنما كان عمله مجرد تاريخ للإيقاعات الشعرية المعروفة حتى أيامه.غير أن الإيقاع، حسب محمد عزام نفسه ،شيء يتجدد كما يتجدد فكر الإنسان، ومن هنا فليس هناك مانع تراثي أو شعري من نشوء إيقاعات جديدة في شعرنا العربي.
ونظرت نازك الملائكة لموسيقى البحور الشعرية من زاوية أخرى إذ تقول " ألم تصدأ لطول ما لامستها الأقلام والشفاه منذ سنين وسنين ؟ ألم تألفها أسماعنا وترددها شفاهنا، وتعلكها أقلامنا حتى مجتها ... منذ قرون ونحن نصف انفعالاتنا بهذا الأسلوب حتى لم يعد له طعم ولا لون، لقد سارت الحياة وتقلبت عليها الصور والألوان والأحاسيس ومع ذلك مازال شعرنا صورة لقفا نبك وبانت سعاد، والأوزان هي هي والقوافي هي هي... وتكاد المعاني هي هي"( ). إذن نستنتج من كل هذا أن الشعر العربي الحديث ومحاولة التجديد في إيقاعه كانت نتيجة لظروف مختلفة أسست لثورة على القديم في سبيل مسايرة الواقع .
ما الجديد الذي جاء به شعر التفعيلة ؟
نود أن نقف للإجابة عن هذا السؤال عند نازك الملائكة بوصفها رائدة هذه التجربة الشعرية، وبوصفها أول من تحدث عن الشعر الحر حديثا مستفيضا، وأول من حاول التنظير له في حديثها عن بدايات الشعر الحر وظروفه. تشير نازك الملائكة أن البداية كانت عام 1947 وانطلقت من العراق لتمتد إلى الوطن العربي كله وادعت في كتابها " قضايا الشعر المعاصر " أن أول قصيدة حرة الوزن تنشر قصيدتي المعنونة "الكوليرا"
وفيما تقول: ( )
سَكَنَ اللّيْلُ
أَصْغَ إَلَى وَقْعَ الأَنَاتْ
فِي عُمْقِ الظُّلُمَةِ، تحتَ الصّمتِ عَلى الأَموَاتْ
صَرَخَاتٌ تَعْلُوا ،تَضْطَرِبُ
حُزْنٌ يَتَدَفَقُ ،يَلْتَهٍبُ
يَتَعَثَرُ فِيهِ صَدَى الآهَاتْ
فِي كُلٍّ فُؤَادٍ غَلَيَانْ
فَي الكُوخِ السَّاكِن أَحْزَانْ
فِي كُلٍّ مَكَانْ رُوحٌ تَصْرُخْ فِي الظُلُمَاتْ
فِي كُلِّ مَكَانْ يَبْكِي صوتْ
هَذَا مَا قَدْ مَزَقَهُ المَوْتْ
المَوْتُ الموتُ الموتْ
وبعد أن تصرح نازك بريادتها لمشروع الإيقاع الشعري العربي الحديث، تواصل قائلة: " نشرت هذه القصيدة في بيروت، ووصلت نسخها ببغداد في أول كانون الأول 1947 وفي النصف الثاني من الشهر نفسه، صدر في بغداد ديوان شاكر السياب (أزهار ذابلة ) وفيه قصيدة حرة الوزن له من بحر الرمل عنوانها: (هل كان حبا )وقد علق عليها في الحواشي بأنها من " الشعر المختلف الأوزان والقوافي " وهذا نموذج منها يقول فيه :
هَلْ يَكُونُ الحُبُّ إِنِي
بِتُ عَبْدًا لِلْتَمَنِي
أَمْ هُوَ الحُبُّ اِطْرَاحُ الأُمْنِيَاتْ
واَلْتِقَاءُ الثَّغْرِ بِالثَغْرِ وَنِسيَانُ الحَيَاةْ
واِختِفَاءٌ العَينِ فِي العَينِ اِنتِشَاءْ
كَانْثِيَال عَادَ يَفْنَى فِي هَدِيرْ
أَوْ كَظِّلْ فِي غَدِيرْ
إذ كان أول ما دعت إليه نازك في محاولة للتجديد هو التحرير من عبودية الشطرين، وقد كان حجتها في ذلك أن التفاعيل الست الثابتة تضطر الشاعر إلى أن يختتم الكلام عند التفعيلة السادسة وإن كان المعنى الذي يريده قد انتهى عند التفعيلة الرابعة، وإضافة إلى هذا التجديد، ارتأت الشاعرة أن تتلاعب بعدد التفعيلات وترتيبها مستخدمة في هذا التلاعب تفاعيل البحور الصافية وهي التفاعيل المفردة الثمانية ،وضربت مثلا بتفعيلة الكامل (متفاعلن) فرأت أنه من الممكن أن تكتب السطور الشعرية متفاوتة القدر من هذه التفاعيل حتى يتمكن الشاعر من الوقوف عند تمام المعنى ويتخلص بالتالي من الحشو الزائد ( ). وأخذت نازك في ضوء مفهومها القائم على شكل من التفلسف النظري، تجرب هذا الشكل الجديد في بعض النماذج الشعرية في هذا الديوان كقصائد جامعة الظلال، أو قصائد لنكن أصدقاء، وتقول في قصيدة: " مرثية يوم تافه"Sad )
لَاحَتْ الظّلمَة فِي الأُفُقْ السَّحِيقْ
واِنْتَهَى اليَومُ الغَرِيبْ
وَمَضَت أَصدَاؤُهُ نَحْوَ كُهُوفِ الذِّكرَيَاتْ
وَغَدًا تَمْضِي كَمَا كَانَتْ حَيَاتِي
شَفَه ظَمْأَى وَكُوبٌ
عَكَسَتْ أَعمَاقَهُ لَونُ الرَّحِيقِ
وإِذَا مَا لَمَسَتهُ شَفَتَايَا
لَمْ تَجِد مِن لَذَةِ الذِكرَياتِ
بَقَايَا لَمْ تَجِدْ حَتَى بَقَايَا
وهنا نرى أنها استخدمت تفعيلة (فاعلاتن) ونوعت في عددها في السطور الشعرية، وذلك في محاولة لتغيير الأطوال الموسيقية الشعرية، للتناسب مع الدفقات الانفعالية على حد تعبيرها، وهذا الترتيب والتصرف الذي تصرفته نازك وغيرها لم تكن تعتقد أنه خارج عن النطاق النسق العروضي الخليلي، بل عدّته هو نفسه سوى إضافة أسلوب جديد في ترتيب تفاعيل الخليل، وإنه شعر ذو شطر واحد ليس له طول ثابت ،وإنما يصح التغيير في كل سطر شعري عدد التفعيلات ويكون هذا وفق قانون عروضي يتحكم فيه( )، وعلى هذه الأسس سار من جاء بعد نازك يحاول أن يقنن لهذا الشعر الحديث إذ لم يتوقف عند هذا الحد بل حاول أن يعطي أمورا جديدة، حيث يشير عز الدين إسماعيل إلى أن التطور الحاصل في موسيقى الشعر المعاصر يمكن تحديده في ثلاث مراحل أساسية:
1- مرحلة البيت الشعري ذي الشطرين المتوازيين .
2- مرحلة التفعيلة التي تتكرر في السطر الشعري تكرارا غير منضبط
3- مرحلة الجملة الشعرية .( )
وتعدّ الجملة الشعرية الصورة المتطورة عن صورة السطر الشعري، ذلك أن السطر الشعري بنية موسيقية مكتفية بذاتها، أما الجملة الشعرية فهي أكبر من السطر، فقد تمتد إلى خمسة أسطر أو أكثر. ( ) وتتحدد بأنها "نفس واحد ممتد يشغل أكثر من سطر، فإذا استعصى من الناحية البيولوجية ..أن يمتد زمن النفس الواحد لكي يكفي لقراءة هذه الأسطر المكونة فيما بينها جملة واحدة، فقد يتحتم عندئذ أن تتخلل هذه الجملة وقفات يستطيع الإنسان عندها أن يلتقط نفسا جديدا ".( )و ليس واجبا أن يحدث ذلك عند نهاية كل سطر، وإنما قد يحدث داخل السطور نفسها فليس لهذا قاعدة ولا يمكن أن تكون له قاعدة " ( )، وحتى يتضح معنى الجملة الشعرية، يورد الناقد مثالا شعريا من قصيد ة للسياب عنوانها"أحبيني " يقول السياب: ( )
وكل شبابها كان انتظارا لي على شط يهوم فوقه القمر
وَتَنعَسُ فِي حِمَاهُ الطَّيرُ رَشً نُعَاسُهَا المَطَرُ
فَنَبَهَهَا، فَطَارَتْ تَمْلَأُ الأَفَاقَ بِالأَصْدَاءِ، نَاعِسَةً
تَؤُجُ النُورُ مُرْتَعِشًا قَوَادِمُهَا، وَتَخفِقُ فِي قَوَافِيهَا
ظِلَالُ اللَّيلْ. أَينَ أَصِيلُنَا الصَّيفِي فِي جِيكُورْ ؟
يوضح الناقد أن السطر الأول قائم موسيقيا بذاته وقد أورده لتوضيح السياق المعنوي ،أما الأسطر الأخرى فتشكل جملة واحدة متصلة عدد تفعيلاتها خمس عشرة تفعليه إذا توقفنا عند كلمة "الليل "في السطر الأخير، وثماني عشرة تفعليه إذا امتدت القراءة إلى نهاية السطر.
وقد أباح يوسف الخال للشاعر أن يستخدم التفاعيل القديمة، لكن بشرط أن يتخلص من الرقابة الخارجية للوزن يقول في ذلك: "إنما الفرق بين المفهوم الحديث لشكل القصيدة والمفهوم القديم، هو أن الوزن التقليدي في القصيدة الحديثة ليس شرطا (سابقا) بل إمكانة بين غيرها من الإمكانات، فهناك الموسيقى التي ترتكز غلى الأوزان الكلاسيكية، ولكن الشاعر يتجرد فيها من رقابة الوزن بتشطيره على الشكل الذي يروق له، مع الاحتفاظ بالجرس الموسيقي الأساسي للوزن ".أما القافية فقد رأى الخال بأنها "جزء من الإيقاع، وأن الشاعر الحديث في استعماله لها إنما يستعملها بملئ حريته، فإذا كان صادقا موهوبا جاء استعماله لها حسنا " .
ونود أن نقف قليلا عند نزار القباني في كتابه " الشعر قنديل أخضر " حيث أتخذ من موسيقى البحور العربية أساسا للتجديد في الأوزان كذلك، مما دفعه لأن يقول "إن بحور الشعر العربي الستة عشر بتعداد قراءاتها وتفاوت نغماتها ثروة موسيقية ثمينة بين أيدينا، بإمكاننا أن نتخذها نقطة انطلاق لكتابة معادلات موسيقية جديدة في شعرنا "( )، وبعد التفصيل الذي عدّه نزار تجديدا راح في كتابه "قصتي مع الشعر " يسرد ما حققته القصيدة العربية الحديثة في مجال الصورة الموسيقية فلخصه فيما يلي:
1- الخروج من الزمن الشعري الواقف إلى زمن تتمدد أجزاؤه وتتسع لكل لحظة .
2- تحرير القصيدة الموسيقية من الجبرية ومن حتمية البحور الخليلية، ووثنية القافية الموحدة في موسيقى هذا الشعر تأتي من فعل الكتابة نفسه ومن المعاناة المستمرة والمغامرة مع المجهول اللغوي والنفسي .
إيقاع الكلمات
إن الحديث عن موضوع إيقاع الكلمة لا يستقيم له حال دون التطرق إلى موضوع التكرار، حيث يعدّ التكرار أهم عنصر الإيقاع، بل هو منبع الإيقاع ( ) فلا إيقاع بلا تكرار ولا تكرار دون إيقاع. ولعل القاعدة الأولية لمثل هذا التكرار أن يكون اللفظ المكرر وثيق الصلة بالمعنى العام للسياق الذي يرد فيه .
ونظر الكثير من المحدثين إلى تكرار اللفظة نظرة أكثر شمولية من سابقتها، ويعدّ أحد الأسس التي يبنى عليها النص الشعري وبهذه النظرة أصبحت اللفظة المكررة داخل النص أساسا ينظر أولا إلى ارتباط غيرها بمعناها لا إلى ارتباطها بمعنى آخر، وهذا لا يعني أن اللفظة المكررة لم يعد لها أي ارتباط بمعنى السياق .بل لقد اكتسبت من الأهمية ما جعل معنى السياق يقوم في كثير من الأحيان عليها ،إنها بهذا التصور عنصر مركزي في بناء النص الشعري بل أكثر من ذلك قد يكون عنوان القصيدة يتكرر أكثر من مرة في القصيدة، ومن أمثلة ذلك قصيدة " الرمادي " لمحمود درويش:
الرَمَادِيُّ اعتِرفٌ وشَبابِيكْ. نِسَاءٌ وَصَعَاِليكْ
والرَمَاِديُّ هُوَ البَحْرُ الذي دَخنَ حُلمِي زَبَدَا
والرَمَادِيُّ هو الشِّعرُ الذي أَجَّرَ جُرحِي بَلَدَا
الرَمَادِيُّ هو البَحرُ هو الشِّعرُ
هو الزَّهرُ هو الطَّيرُ
هو اللَيلُ هو الفَجرُ
الرَمَادِيُّ هو السَّائِرُ والقَادِمْ
والحٌلمُ الذي قَرَرَّهُ الشَاعِرث والحَاكِمِ
مُنْذُ اتَّحَدَا( )
فهذا المقطع قائم على تكرار كلمة الرمادي، وهو أيضا عنوان القصيدة، وإذ تتكرر كلمة (الرَمَادِيُّ ) في هذا المقطع. فلتفصيل رؤية الشاعر لهذا اللون، وما يعنيه وفق فلسفته الخاصة، وكأن الكلمة المكررة هنا قد حملت على عاتقها ما يقوم به المقطع حين يحمل أحد المعاني الفرعية لمعنى العنوان / الموضوع وقد مثلت الكلمة المكررة (الرَمَادِيُّ) مركزا تلتقي فيه كل المعاني الفرعية التي تزيد كل مرة من التعريف بهذا الاسم. وبمحاولة تمثيل هذا التكرار بيانيا لتحديد التطور الدلالي الذي يحدثه تبدو الكلمة المكررة وقد مثلت وحدها نقطة ارتكاز,بينما مثلت بقية الكلمات التي يمكن أن تدخل معها في علاقة محور فروع ,والتغير, ذلك أن تغير الكلمة التي تدخل مع الرمادي في تركيب الجملة متحقق في كل مرة ويؤدي إلى معنى.

هو البحر هو الشعر

اعترف وشبابيك هو السائر والقائم
نساء وصعاليك هو الليل

هو البحر هو الزهر
واللافت للنظر أن هذه البنية التكرارية تتضمن تكرار آخر وهو تكرار ضمير الشأن (هو)، إذ تكرر ثماني مرات، وعلى نحو مطور ليؤذي غرضا مختلفا يتلخص قي التأكيد من على الاسم المكرر .فالتكرار فيهدف إلى التعريف بكلمة (الرَمَادِيُّ) ويأتي هذا التعريف متزامنا مع التأكيد من خلال تكرار ضمير الشأن (هو) عائد على الاسم المكرر (الرَمَادِيُّ) ليعطي إيقاعا خاصا يناسب الموضوع العام للقصيدة، بل يعمل الإيقاع في كثير من الأحيان على تأكيد فكرة ما من خلال تكرارها داخل المقطع الواحد.حيث يقول محمود درويش في قصيدة (أنا آت إلى ظل عينيك ) Sad )
أَنتِ لِي، أَنتِ حُزنِي وأَنتِ الفَرحْ
أَنتِ جُرحِي
أَنتِ قَيدِي
أنتِ طِينِي
أَنتِ لِي أَنتِ لِي
أَنتِ شَمسِي
أَنتِ لَيْلِي
أَنتِ مَوتِي وأَنتِ حَيَاتِي
إن هذا المقطع من قصيدة ( أنا آت إلى ظل عينيك) قائم على التكرار للضمير (أنتِ) ولا يكرره الشاعر هاهنا إلا للتأكيد درجة اقتراب المحبوبة منه؛ فهي حزنه وفرحه وقيده، وجرحه، وشمسه، وليله، إنما بهذا المعنى كل شيء بالنسبة له. لذا نجده يقول في نهاية المقطع:
"أنتِ موتي وأنتِ حياتي "
إن لهذا التكرار أثره الخاص في بناء المعنى وجانبه المتميز في تشكيل الإيقاع العام للنص.
ساهم الإيقاع الصوتي في تطور الشعر العربي، وقد استطاع الشعراء التنويع والتجديد التجريب للوصول إلى الطاقات التعبيرية للغة العربية

الهوامش

مدير المنتدى
Admin

عدد المساهمات : 166
تاريخ التسجيل : 18/02/2012
الموقع : rihabalkalimah.cultureforum.net

https://ichkalat.forumalgerie.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى