مجلة إشكالات في اللغة والأدب
مرحبا بزوار المنتدى وقراء مجلة [ إشكالات ].. نرجو منكم الانضمام إلى أعضائه والتواصل مع أسرة المجلة.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

مجلة إشكالات في اللغة والأدب
مرحبا بزوار المنتدى وقراء مجلة [ إشكالات ].. نرجو منكم الانضمام إلى أعضائه والتواصل مع أسرة المجلة.
مجلة إشكالات في اللغة والأدب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

جماليات التكرار في شعر ابن دراج

اذهب الى الأسفل

جماليات التكرار في شعر ابن دراج Empty جماليات التكرار في شعر ابن دراج

مُساهمة  مدير المنتدى الجمعة مايو 22, 2015 8:57 pm

جماليات التكرار في شعر ابن دراج

د. محمد الرقيبات
جامعة جرش/ الأردن

ملخص:
يهدف هذا البحث إلى دراسة جماليات التكرار اللفظي في شعر ابن دراج القسطلي، وتتبع مواطنه بمستوياته المختلفة؛ بدءاً بتكرار الحرف، وتكرار الأدوات، ثم تكرار الكلمة، وانتهاء بالتكرار المركب، ودور كل منها في تشكيل بنية النص الدلالية والموسيقية والجمالية.
كلمات مفتاحية: (التكرار، ابن دراج).

The Aesthetics
The aim of this research is to examine the aesthetics of verbal repetition in the poetry of ibn darraj, tracking its locations at different levels; starting from the repetition of the letter, the tools, and then the word, to the compound repetition, and their respective roles in the formation of the semantic, rhythmic and aesthetic structure of the text.
Key words: (repetition, ibn darraj)


-------------

ثمة علاقة وثيقة تربط التكرار مع السياق العام الذي يتواجد فيه، حيث يكتسب التكرار قيمته ودوره من السياق الشعري للقصيدة، وقد أشارت نازك الملائكة إلى أهمية ارتباط التكرار بالسياق العام للنص الشعري( )، فالحديث عن دور التكرار في منح النص قيمة جمالية أو موسيقية أو ترابطية لا بدَّ أن يتم في إطار علاقة وثيقة بين التكرار وبين النص الذي يحتويه، (إن التكرار يخدم وظيفة مهمة للسياق الشعري، وهي جذب انتباه القارئ إلى كلمة أو لفظة يود الشاعر أن يؤكد عليها أو ينبه القارئ إليها)( )، وهذا يقود إلى أن التكرار داخل النص ينبغي أن يكون بعيداً عن التكلف، ويجنح إلى البساطة، وألا يكون غاية في حد ذاته.
واستخدام التكرار في الشعر يختلف عنه في النثر؛ حيث ( إن لغة الشعر ترنو إلى تحقيق أكبر قدر من المماثلة الصوتية)( )، كما أن طبيعة بناء القصيدة والقيود التي ينبغي على الشاعر أن يلتزم بها، تجعل هذا الاستخدام مختلفاً شكلاً ووظيفة، فالتكرار يعتلي مكانة رفيعة في النص الشعري ( وإذا كان التكرار ينهض بوظيفة الإشعار والتأثير والتعبير بدل الإخبار والتقرير، اتضح لنا سرّ العلاقة بين الشعر والتكرار...)( ).
وللتكرار حضور لافت في الجانب الجمالي؛ حيث ( يسهم التكرار إذا ما برز في النص الشعري في إضاءة عتمته وإنارة مصابيحه من جانبين: الأول منهما يتعلق بإظهار الوحدة العضوية للنص بحيث تبدو الأبيات في داخل النص متماسكة يمسك بعضها برقاب بعض وكأنها قد انتظمت في عقد فريد. وأما الجانب الآخر فهو لا شك متصل بالقيمة الجمالية التي يحدثها أسلوب التكرار من خلال الكشف عن مشاعر الذات الشاعرة وإدهاش المتلقي بشعرية الشعر)( )، لذلك لا يمكن إغفال الأثر الذي يحدثه التكرار داخل النص الشعري، فهو يسير في عدة جوانب، وتختلف نسبة تحقيقه من شاعر لآخر، كما تختلف النسبة عند الشاعر الواحد باختلاف النص الذي يستخدم فيه التكرار.
وموضوع هذه الدراسة هو: جماليات التكرار في شعر ابن دراج القسطلي، وهو موضوع جدير بالدرس في شعره؛ حيث يمثل جانباً مهماً من جوانب تشكيله للنص الشعري، وهو يتخذ أشكالاً عدة، فمن تكرار الأوزان والتركيز على أبحر دون سواها، إلى نظم الشاعر في الموضوع الواحد على أبحر مختلفة، إلى النظم في المواضيع المختلفة على بحر واحد، ومن تكرار الحرف إلى تكرار الكلمة إلى التركيب وما سوى ذلك من أشكال التكرار، واتجهت هذه الدراسة لاختيار التكرار اللفظي بمستوياته المتعددة موضوعاً لها، وأوضحت دوره في تشكيل الدلالة، ودعم الجانب الموسيقي، كما أشارت إلى دور التكرار في تحقيق الترابط والتماسك داخل النص الشعري.
1- تكرار الحرف:
لا يمثل الحرف بذاته قيمة دلالية، ولتكراره قيمتان، تتأتى أهميتهما من خلال الدور الذي تؤديانه داخل الكلمة؛ فللحرف ( مزية سمعية وأخرى فكرية، الأولى ترجع إلى موسيقاها والثانية إلى معناها)( )، بمعنى ارتباط المزية السمعية بالجانب الإيقاعي، وارتباط المزية الفكرية بالجانب الدلالي. أما الإيقاع الداخلي المتحقق من خلال تكرار الحروف فإن ( تردد بعض الحروف أو الكلمات قد يكسب الشطر لونا من الموسيقى تستريح إليه الآذان وتقبل عليه)( )، وتتجلى مقدرة الشاعر على الإبداع في الإيقاعات الداخلية عبر تكثيف عنصر إيقاعي مهم في نصه الشعري يتمثل في تكرار الحروف.
ويظهر الجانب الآخر لتكرار الحروف من خلال المعنى الذي يؤديه داخل النص الشعري، وقيمة الصوت الدلالية يستنتجها المتلقي من خلال معرفته وفهمه للتجربة الشعرية التي جعلت الشاعر يختار ألفاظاً تتضمن تكرار حروف معينة، وهذه القيمة الدلالية غاية في الدقة؛ إذ إن ( عزل الصوت عن المعنى افتراض لا يمكن إثبات صحته، ولا يمكن التوصل معه إلى نظرية ثابتة مقننة)( )، وإشكالية العلاقة بين الصوت والمعنى قديمة، التفت إليها النقاد واللغويون في فترة مبكرة، يقول ابن جني( فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع، ونهج مُتْلئِبّ( ) عند عارفيه مأموم. وذلك أنهم كثيرا ما يجعلون أصوات الحروف على سَمْتِ الأحداث المعبر بها عنها، فيعدّلونها بها، ويحتذُونها عليها. وذلك أكثر مما نقدره، وأضعاف ما نستشعره)( ) .
والأنموذج الذي نقدم من خلاله مثالا على تكرار الحرف، أبيات من قصيدة مدحية لابن درّاج، حيث يقول( ): ( الطويل)
إلى أيِّ ذكــــــــرٍ غـيرِ ذكـرِكَ أرتـــــــــــــــــــــــــــــــاحُ ومن أيّ بحرٍ بعد بحــــــــــــرِكَ أمتـاحُ
وفي ماِئكَ الإغــداقُ والصَّفـــــــــوُ والرَّوى وَفِي ظلِّكَ الريحــــــانُ والرَّوحُ والرَّاحُ
فأغـدَقَ للـظمــــــــآنِ مَـــــــــحـْياً ومَـــــــــشـرَبٌ وأفْصَحَ بالضَّاحِي غُصُونٌ وأدواحُ*
ولا أسـهَكَتهُمْ فـِـــــــــــي ســــــــــبيلِـك لِبــــــسةٌ بإسهاكِها طابوا ومن رِيحها فاحوا**
حَكَــــــــمتَ بـِرَدِّ الحــــقِ عنهــــا فأسمَحَتْ ولولا ظُبَاكَ الحُمـــــــرُ مَا كَانَ إسماحُ
غـــــــداةَ طَمَسـتَ الـغَيَّ مـــــــنهـم بوقـــــعَةٍ وَمَا قَـدْرُ مصبـــــــاحٍ إذا لاح إصْباحُ
يتكرر في هذه الأبيات حرف المد (الألف) بشكل واضح، حيث (تنماز أصوات المد بقدرتها العالية على الإسماع فهي تتصدر المركز الأول لدرجات الإسماع في الأصوات اللغوية)( )، وهذه القدرة التي تمتلكها حروف المد تلعب دوراً بارزاً في شد انتباه المستمع، وتهيئته إلى الدخول إلى مضمون الصورة الشعرية التي يشكلها الشاعر، كما أن الانسيابية في النطق والسمع التي يتركها تكرار حرف المد، يشي بحالة من الارتياح التي تملأ نفس الشاعر في حضرة الممدوح.
إضافة إلى أن هذا التكرار المكثف لحروف المد يساهم ( في إيجاد نوع من النغم والإيقاع المؤثر عاطفيا في النفس، من جراء ما تتركه هذه الحروف وتكرارها المتناسق، من امتدادات نفسية موحية)( )، والأثر النفسي الذي تتركه حروف المد يسهم في تحقيق غاية نفعية تتمثل في إيصال أفكار الشاعر وصوره الشعرية إلى المتلقي بأسلوب ينم عن مهارة وقدرة على ترتيب ألفاظه بالشكل المطلوب، وإشراك المتلقي بالمعاناة التي يعانيها الشاعر، وإدخاله إلى جو القصيدة والاستحواذ على مشاعره، إلى جانب الغاية الجمالية المتحققة من خلال الإيقاع المتشكل نتيجة توالي هذه الحروف.
وتجدر الإشارة إلى أن الحديث عن تكرار الحروف وأثرها داخل النص الشعري دلالياً، إنما هو حديث يعتمد على الذوق في المقام الأول، ويبقى باب الدرس والبحث فيه مفتوحاً، وتعدد الآراء دليل على غنى الموضوع وثرائه، ( ومهما كانت المناقشات، حول "الرمزية الصوتية " فإن الباحثين لم يضعوا بعد شروطاً ضرورية وكافية لحصرها وضبطها، وإنما تبقى دراستها ذوقية لا نملك البرهنة عليها لإثبات وجاهتها)( ).
2- تكرار الأداة:
وهذا اللون من التكرار هو من أكثر أشكال التكرار حضورا في شعر ابن دراج، وتتجلى أهميته في الكشف ( عن فاعلية كبيرة في زيادة تلاحم النص الشعري، وتعميق وحدته العضوية حيث يقوم مثل هذا النوع من التكرار بإبراز تسلسل الأفكار، وتتابعها، فيجعل المتلقي مصغيا لأفكار الشاعر متابعا لانفعالاته المختلفة)( )، ومن الأدوات التي رصدتها هذه الدراسةSad يا، وإن، ولا النافية).
وتم اختيار بعض النماذج الشعرية التي وردت فيها هذه الأدوات، وقد جاء موقع الأدوات المكررة في النماذج المختارة في مطلع الأبيات الشعرية غالباً، ومثل هذا اللون من التكرار، والموقع الذي جاء فيه يُعد أكثر ارتباطاً ببناء القصيدة من أنواع التكرار الأخرى؛ ( فهو يكشف عن فاعلية قادرة على منح النص الشعري بناءً متلاحماً، إذ إن كل تكرار من هذا النوع قادر على إبراز التسلسل والتتابع الشكلي لدى السامع، وهذا التوقع من شأنه أن يجعل السامع أكثر تحفزاً لسماع الشاعر والانتباه إليه)( ).
والبداية مع قصيدة تعزية لابن درّاج، حيث يقول ( ): ( الطويل)
يـَا( ) صَفـْوَةَ الأَجفانِ مـــــن عَبَراتِها ومُـدَّخَــــــــــرَ الأَضلاعِ مــــــن زَفَـرَاتِها
هلُمـِّي إِلَــــــــى أُمِّ الـــــــــرَّزَايا فأَسْــــــــعـِدِي نفوساً يضيقُ الدَّهْرُ عـن حَسَراتِها
لخطبٍ رمـى فِـي آلِ خَطَّاب سَهْمَه فـَفُجِّعَـــــــــــــــتِ الدُّنـــــــيا بأَسْــــرى سَـرَاتِها
فيـَا عَبْرَةَ الأَيَّـــــــــامِ بالـقَـــــــــمَـــــــرِ الـَّذِي بِــــهِ عــــــــاذَتِ الأَيَّــــــامُ مــــــــن عَبَراتِها
ويـا غَمْرَةً لِلـْمَوْتِ غـالَ حِـــــــــمامُهــــا فتىً أَنْـقَـــــــــذَ الأَحـــــــرارَ مـن غَمَراتِها
ويـا دَوْحَةَ العِـزِّ الَّتِي قادَتِ المُــــنى إِلَـى باسِقِ الأَغصانِ من شَجَراتِها
لَئِنْ فاتَني صَـــــــرْفُ الحِـمـامِ بِظِلِّهـا لقد أَخْـلَفَتْ لـي مــــن جَنى ثَمَرَاتِها
وإِن غـاضَ عَيْنَيْ مـاءِ دِجْلَةَ حَيْنُها لقد أَغرقَــــــــــــتْ أَرْضَيَّ بَعْـــــــــدَ فُرَاتِهـا
ثمة أشكال من تكرار الأدوات في هذه القصيدة؛ الأول: تكرار (يا) النداء في مطلع أربعة أبيات هي: الأول والرابع والخامس والسادس، والثاني: تكرار أداة الشرط (إن) في بداية البيتين السابع والثامن، وتكرار جواب الشرط المبدوء ﺒ(قد) بداية عجزيهما مسبوقاً باللام.
أما النداء ففيه ( لون من ألوان الرغبة في التواصل والاستغاثة واسترجاع الصلة المفقودة)( )، وقد استطاع الشاعر من خلال تكرار أسلوب النداء أن يكرس فكرته في هذه المرثية، وأن يخلع صفات حميدة على المرثي، ولا يقتصر التكرار هنا على أداة النداء وحدها، فتكرار أداة النداء يستدعي تكرار المنادى الذي اختلفت صورته اللفظية في هذه الأبيات.
أما الصلة التي تجمع بين الأبيات التي تصدرتها أداة النداء وبين الأبيات التي خلت من النداء، فأداة النداء في البيت الأول التي تبعها المنادى ( صفوة الأجفان ) جاء الأمر لها (هلمي...) مطلع البيت الثاني، وجاء البيت الثالث ليبين سبب الدعوة التي وجهت في البيت السابق (لخطبٍ...)، وهكذا كانت أداة النداء وسيلة للربط بين الأبيات الثلاثة الأولى، أما الأبيات الرابع والخامس، فقد تكرر المنادى فيهما في نهاية البيت لفظاً ومعنىً، وفي البيت السادس تكرر المنادى معنىً لا لفظاً:
4- فيا عبرة...... ......من عبراتها
5- ويا غمرة...... ......من غمراتها
6- ويا دوحة...... ......من شجراتها
ويرتبط البيتان السابع والثامن مع البيت السادس من خلال الضمير (ها) الذي تكرر في نهاية الأشطر الأربعة لهما، وهو يعود على المنادى (دوحة) في البيت السادس، وإذا كان المنادى في البيتين الرابع والخامس قد تكرر دون تغيير، فإن اختلاف اللفظ بين المنادى وبين الكلمة الأخيرة في البيت السادس قد حقق أمرين:
الأول: استطاع الشاعر أن يكرر حرف الراء الذي ألزم نفسه بتكراره إلى جانب الروي، إذ إن تكرار المنادى نفسه (دوحة... ...دوحاتها) لا يحقق ذلك.
والآخر: نجح الشاعر في كسر رتابة التكرار، وجاءت نهاية البيت السادس مخالفة لما يتوقعه السامع أو القارئ الذي سمع أو قرأ البيتين السابقين ( إن تكرير عنصر من العناصر كفيل بأن يولد نسقا وسياقا داخل النص، وهو سياق الانتظام ولا شك أن كسر هذا النسق أو السياق "الانحراف عنه " سيشكل ملمحا أسلوبيا يستثير المتلقي...، إذ يخالف النص توقعات القارئ بعد أن وضع له القانون أو النمط)( ).
أما تكرار أداة الشرط (إن) في مطلع البيتين السابع والثامن، فهو مرتبط بالمنادى في البيت السادس، وفي مقابلة كل منهما تكرر جواب الشرط (قد) في مطلع العجز مسبوقاً بحرف اللام، وإذا نظرنا إلى تكرار الأداة وما يرتبط به من متعلقات نجده ينتظم النص من بدايته إلى نهايته، وبهذا يتحقق شكل من أشكال التماسك على مستوى النص، حيث يبرز دور تكرار الأداة في تشكيل المعنى وتقديمه، ومن الطبيعي أن ينشأ نتيجة لهذه الأشكال من التكرار إيقاعٌ داخليٌ يمنح النص – على قصره – جرساً مؤثرا في السمع.
وحول استخدام الشاعر لزوم ما لا يلزم ( وهو في الشعر أن تتساوى الحروف التي قبل روي الأبيات الشعرية)( )، فقد راعى الشاعر في هذه الأبيات ألف التأسيس، وهي بمثابة حرف وحركة قصيرة، ثم حرف الراء قبلها مع حركة الفتح، وبذلك يكون ما يتكرر في هذه الأبيات عبارة عن: حركتين + ثلاثة حروف، ونحن نتحدث هنا عن التزام الشاعر خمسة أصوات عبر قصيدته، وهذا يكفل مزيداً من الجرس الموسيقي المتحقق للأبيات، يفوق ما يمكن أن يحققه تكرار حرف الروي منفرداً.
ويقول ابن درّاج من قصيدة في مدح منذر بن يحيى( ):
(الطويل)
فلا رَجَعَتْ عَنكَ الأَمانِي حَسِيرَةً ولا فُـزِّعَتْ مِنَّا لَـــــــدَيْكَ التَّمـــــائِمُ
ولا خَتَمَتْ عَنكَ الليالــــي سَـــــرِيرَةً ولا فَضَّتِ الأَيَّامُ مَا أنتَ خاتِمُ
ولا نَـــــظَمَ الأَعْدَاءُ مـَا أَنــــتَ نـــاثِـرٌ ولا نَـثَرَ الأَعداءُ مَا أَنـــــــتَ ناظِمُ
ولا عَـــــدِمَ الإِشْــــــرَاكُ أَنَّــــكَ ظـــــافِـرٌ ولا عَـــــدِمَ الإِسْـــــلامُ أَنّـَكَ ســــالِمُ
ولا زالَ للسيـــــــفِ الحَنــــــــيفيِّ قائِـمٌ وأَنـــــتَ بـِهِ فِي طاعَــــــــــــــة اللهِ قائِمُ
تكررت (لا) النافية في مطالع الأبيات الخمسة، وفي مطالع أربعة من أعجازها، وتكرار هذه الأداة - إلى جانب ألوان أخرى من التكرار - شكل إيقاعاً انتظم الأبيات من البداية إلى النهاية، ففي البيت الأول والثاني ختمت الأفعال الماضية التي تلت (لا) النافية بتاء التأنيث الساكنة ( فلا رَجَعَتْ، ولا فُـزِّعَتْ، ولا خَتَمَتْ، ولا فَضَّتِ( )) ، أما البيتان الثالث والرابع فقد جاءت الأفعال ماضية مبنية على الفتح (ولا نَظَمَ، ولا نَـثَرَ، ولا عَـدِمَ، ولا عَـدِمَ) وفي البيتين الثاني والثالث نجد طباقاً بين الفعل الذي ورد في الصدر والفعل الذي جاء في العجز (خَتَمَتْ، فَضَّتِ) و (نَظَمَ، نَـثَرَ) ، وجاءت عروض البيتين الأول والثاني متوافقة (حَسِيرَةً، سَـرِيرَةً) ، وعروض البيتين الثالث والرابع (ناثِـرٌ، ظافِـرٌ) أما البيت الخامس فهو مصرع (قائِـمٌ، قائِـمُ) .
ويكشف تكرار حرف النفي بهذه الصورة عن الرابط بين الأبيات، حيث المعنى الإجمالي للأبيات هو الدعاء للممدوح، وبعد كل تكرار للأداة يرد دعاء جديد، كما أن تكرار الأداة على هذا النمط يجعل المستمع يتوقع ورود دعاء جديد بعد كل مرة ترد فيها، وربما أن الشاعر لجأ إلى عدم تكرار (لا) في عجز البيت الأخير- خلافاً للأبيات السابقة- ليعلن نهاية هذا النمط الذي استخدمه في الأبيات السابقة، ونهاية القصيدة في آن واحد، وهكذا نجد أن الدور الذي يؤديه تكرار الأداة لم يقتصر على الجانب الإيقاعي، بل يتجاوزه من أجل الإسهام في تشكيل المعنى، ومن شأن ذلك منح الأداة دوراً أكبر ( لتصبح أداة موسيقية- دلالية في آن معاً)( ).
3- تكرار الكلمة:
يسهم التكرار اللفظي في أداء وظائف عدة داخل القصيدة، وبما أن لكل لفظ معنى يحمله، فإن تكرار اللفظ يؤكد ذلك المعنى ويوضحه، وأمر آخر يؤديه تكرار اللفظ وهو تقوية الجانب الموسيقي داخل البيت أو القصيدة، حيث إن تكرار حروف الكلمة وحركاتها يسهمان في خلق إيقاع موسيقي، وكلما ازدادت حروف الكلمة وحركاتها، ازداد النغم الناتج عن ذلك، وإلى جانب ذلك يؤدي مكان الكلمة المكررة دوراً في طبيعة الموسيقى المتشكلة، فمجيء الكلمة المكررة في بداية مجموعة من الأبيات مثلاً، يمثل قيمة مختلفة عن مجيئها بصورة غير منتظمة، علاوة على أن تكرار الكلمة يوحي بأنها تلح على فكر الشاعر وتسيطر عليه، ولها دلالاتها الخاصة عند الشاعر وعند المتلقي.
3-1: تكرار الاستفهام:
يمثل تكرار الاستفهام نمطاً آخر من أنماط التكرار في شعر ابن دراج، ويدخل الاستفهام في مجالات عدة منها: المعرفة، والاستنكار، والتهكم، وغيرها من أنواع الدلالات الأخرى، وتكرار الاستفهام في بداية مجموعة من الأبيات، وفي مواضع مختلفة من القصيدة ( يستطيع أن يثير في النفس تساؤلات على المستوى الانفعالي، كما أن زخمه ينبئ عن الموقف الذي يقفه الشاعر، كما أنه يشكل بناءً متماسكاً يستطيع أن يعكس ترابط الأبيات بصورة واضحة)( ).
لقد تفنن الشعراء في أساليب اختيارهم للجمل داخل قصائدهم، وأساليب الجمل متباينة في نغماتها الموسيقية، حيث إن(جملة الاستفهام تنتهي بصعود الصوت وجملة النفي بانحداره)( )، ولبيان دور تكرار الاستفهام في ترابط أبيات القصيدة وتماسكها، ودوره في الكشف عن انفعالات الشاعر، واستجابة القارئ لمثل هذه الانفعالات، ندرس الأبيات التالية التي تمثل هذا اللون من التكرار في شعر ابن درّاج في مدح مبارك ومظفر صاحبي بلنسية( )، حيث يقول( ): (الطويل)
أَنُورُكِ أَمْ أَوْقَـــــــدْتِ بالليلِ نـــــــــارَكِ لباغٍ قِــــــــراكِ أَوْ لباغٍ جـــــــــوارَكِ
وَرَيَّاكِ أَمْ عَرْفُ المجامر أَشْعَلَتْ بعــــــــود الكِـــــــبـاءِ والأَلُوَّةِ نـــــــارَكِ*
وَمَبسِمُكِ الوضَّاحُ أم ضوءُ بارِقٍ حَـداهُ دُعائي أن يجودَ ديـــــارَكِ
وخَلْخالَكِ اسْتَنضَيْتِ أَم قَمَرٌ بـدا وشمْسٌ تبدَّتْ أَمْ أَلَحْتِ سِوَارَكِ
وَطُرُّةُ صُبـــــــحٍ أَم جبينُكِ ســـــافِـــراً أَعَرْتِ الصَّباحَ نورَهُ أَمْ أَعارَكِ**
تمثل الأبيات السابقة مقدمة القصيدة، وهي مقدمة غزلية افتتح الشاعر قصيدته من خلالها، وجاء الاستفهام فيها من خلال الهمزة، والتي يطلب من خلالها التصور كما يطلب بها التصديق، ثم توالى بعد ذلك العطف على هذا الاستفهام باستخدام أداة العطف (أم) ، ويعبِّر الشاعر في هذه المقدمة الغزلية عن غرض القصيدة الرئيس وهو المدح، فهي مقدمة رمزيّة يشير الشاعر بوساطتها إلى بعض المعاني المدحية التي يتوجه بها إلى ممدوحَيْه ( مبارك ومظفر ) ، ولا بأس هنا من التعامل مع المقدمة على ظاهر معناها وهو الغزل.
تتوالى الأسئلة في هذه الأبيات، وهذه الأسئلة ليست سؤال من يجهل الإجابة؛ إنما يقصد بها إثبات بعض الصفات للمحبوبة، وحين يتساءل الشاعر عن مصدر الضياء الذي يتبدى وسط ظلام الليل، هل هو نور وجه المحبوبة، أم هو من النار التي أشعلتها لكي تكون دليلاً للضيوف العابرين، أو الباحثين عن مكان يقيمون فيه، إنما يريد بذلك أن يتصور المستمع صفات الجمال والكرم وحسن الجوار التي تتمتع بها المحبوبة، وكذلك الأمر في البيت الثاني؛ فالتساؤل عن مصدر الرائحة الطيبة التي تشبه الرائحة المنبعثة من إحراق أجود أنواع الطيب، فيه إشارة واضحة إلى معاني المدح.
ويدلل الشاعر في البيت الثالث على أمرين: بشاشة الممدوح أمام من يستضيفهم، ودعاء الشاعر لديار الممدوح بالسقيا، وكيف كُتب لهذه الدعوة الاستجابة، أما البيت الرابع فيدل على علو منزلة المحبوبة وجمالها فهي (قمر، وشمس) ، وإذا كان هذا الجمال الأخاذ ينبعث من بعض متعلقاتها (خلخال، وسوار) ، فكيف بأثر جمالها نفسه؟ وفي البيت الخامس يعود الشاعر مرة أخرى للسؤال عن سرّ الضياء الذي يراه أمامه، وهو ما فعله في البيت الأول، هل استعارت المحبوبة جمال وجهها من نور الصباح؟ أم أنّ الصباح استعار نوره من بهاء وجهها؟
وهكذا نرى أن الاستفهام المتكرر في هذه الأبيات الخمسة، كان الهدف منه إثبات مجموعة من صفات الحسن والجمال والكرم للمحبوبة/ الممدوح، وحين يطلب الشاعر التعيين من خلال السؤال، فإنه يعطي للمحبوبة مكانة أسمى على الطرف الآخر الذي يعقد المقارنة معه.
3-2: تكرار الفعل:
لعل الفعل الماضي هو الأكثر تكراراً في شعر ابن دراج في النماذج التي تمثل تكراراً للفعل، يليه الفعل المضارع، ثم فعل الأمر، والتكرار المشار إليه هنا يكون بتكرار الفعل نفسه غير مرة، أو من خلال تكرار مجموعة من الأفعال التي تنتمي فاعليتها إلى الزمن نفسه، أو الصيغة نفسها، وتكرار الفعل يشمل مساحة زمنية أكبر من تلك التي يشملها تكرار الحرف أو الأداة، وهذا يؤدي بدوره إلى فاعلية أكبر في صياغة المعنى، وإسهام أوضح في تشكيل الموسيقى الداخلية للقصيدة، حيث ينشأ عن تكرار الفعل تتابع إيقاعات صوتية تسهم في إيجاد شكل من الإيقاع الداخلي، إضافة إلى أن الفعل ومتعلقاته ( الفاعل، والمفعول به) تغطي جزءاً أكبر من البيت الشعري، والنماذج التالية توضح إسهام هذا اللون من التكرار في تشكيل المعنى والإيقاع وتحقيق الترابط.
في الأبيات الثلاثة التالية يعدد ابن درّاج مجموعة من المشاهدات التي رآها أحد الأمراء حين وفد على المنصور منذر بن يحيى، حيث يقول( ):
(الكامل)
ورأى صَريعَ الخَطْبِ كيْـفَ تُقِلُّهُ ورَأَى عُثُورَ الجَدِّ كيْــــــفَ تُقِيلُهُ
ورأى ذَلــــــيلَ الحَـقِّ كيْـــــــفَ تُعِزُّهُ ورأَى عَزِيزَ الشِّرْكِ كيْفَ تُدِيلُهُ
ورأَى صُدُوعَ الدِّينِ كيْـفَ تَلمُّها ورأى كَثِيبَ الكُفْرِ كيْـفَ تُهِيلُهُ
لا يقتصر التكرار في الأبيات السابقة على الفعل الماضي (رأى) الذي تكرر في بداية الأشطر السابقة جميعاً، إنما يشمل التركيب الذي يمثل بنية الشطر، وجاء على النحو التالي: ورأى+ المفعول به+ المضاف إليه+ كيف+ الفعل المضارع+ الضمير العائد على المفعول به
وقد تمكن الشاعر من خلال هذه البنية أن يقدم صورة جديدة في كل شطر، وجعل الصورة الواردة في الشطر الثاني من كل بيت تقابل الصورة الواردة في الشطر الأول من البيت نفسه، فالممدوح يمتلك القدرة على فعل الشيء ونقيضه، فهو يمتلك القدرة على أن يعز ذليل الحق، وفي الوقت نفسه يستطيع أن يذل عزيز الشرك.
وتبرز خصوصية الفعل المكرر (رأى) في أن الأمور التي يجري الحديث عنها قد تحققت على أرض الواقع، ويمكن للجميع إدراكها ورؤيتها، ويشير الشاعر من خلال استخدام هذا اللون من التكرار إلى ( ثبات مادة الفعل وتغير الصور الشعرية التالية لها،... كما أن التكرار يساعد الشاعر على البداية من جديد، والتنويع في نفس الوقت( )، ويحمل القصيدة إيقاعاً موسيقياً منتظماً متتالياً)( )، وهكذا يقدم الشاعر صوراً شعرية متعددة من خلال فعل ثابت في مادته وموقعه ومعناه، هذا إلى جانب أن ثبات موقع الفعل المكرر في بداية الأشطر الستة أسهم في تشكيل إيقاع موسيقي داخلي منتظم، والذي يتضافر مع الإيقاع الخارجي، ليشكل في نهاية المطاف بنية إيقاعية متميزة.
ووظيفة التكرار الشعري في هذه الأبيات لا تنحصر في تقديم صورة جديدة في كل مرة، أو في تحقيق التناسق الإيقاعي للأبيات، إنما تسعى إلى تأكيد المعاني ومظاهر القوة التي يراها الشاعر متحققة في ممدوحه، وبذلك يكون الشاعر قد نجح في ترسيخ صورة الممدوح الذي يتسم بالشجاعة والعدل والحمية، من خلال تقديم مجموعة من الصور التي تبين حاله في أوضاع مختلفة، وبطبيعة الحال ينسجم ما جاء في هذه الأبيات مع الجو العام للقصيدة، حيث اختار الشاعر مجموعة من المعاني المدحية التي تبرز مواطن القوة التي يتميز بها المنصور أمام عدوه، وهذه الصور تندرج ضمن السياق العام للقصيدة وتسانده، وبذلك يسهم التكرار في تحقيق وحدة النص، ولفت الانتباه إلى المعاني التي يريد الشاعر أن يبرزها داخل قصيدته.
3-3: تكرار الصيغة الصرفية:
ثمة صيغ صرفية ذات حضور لافت في لغتنا، والمقصود بالصيغ ( الهيئات النوعية التي يؤخذ لها ميزان عام في الصرف من مادة (فعل) ينطبق كل منها حيثما وجد على هذا المدلول المفروغ من العلم بمطابقته، إلا عند قيام القرائن على استعماله مجازاً وتوسعاً لعلاقة قائمة)( )، ولكل صيغة من هذه الصيغ وظيفة تنهض بها، وإلى جانب هذه الوظيفة فإن تكرارها داخل البيت أو القصيدة، سواء اتفق الجذر أو اختلف، يمنحها أهمية أكبر، ويدعو إلى تتبع أثر ذلك في بنية النص الشعري ومعناه وإيقاعه، ومن الصيغ التي تشير إليها هذه الدراسة: صيغة اسم الفاعل، وصيغة اسم المفعول، وصيغة المبالغة.
ولعل ما يمنح مثل هذه الصيغ أهمية داخل القصيدة هو أنها تحمل دلالة مزدوجة في داخلها، حيث تشير صيغة اسم الفاعل إلى الحدث ومن يتصف به، وصيغة اسم المفعول تدل على الحدث والموصوف به، أما صيغة المبالغة فتحمل معنى التكثير والزيادة، ولعل صيغة المبالغة الأقرب إلى معنى التكرار؛ حيث تشير إلى معنى فعل الشيء مرة بعد أخرى.
كما أن تكرار الصيغ يسهم في إشاعة إيقاع موسيقي داخل البيت أو القصيدة؛ حيث يتردد الإيقاع الصوتي ذاته، وهذا من شأنه لفت انتباه السامع أو القارئ، ومثل هذا النوع من التكرار يسهم في ترسيخ الفكرة التي يريدها الشاعر، لأن تكرار ( الكلمات التي تنتمي إلى فئة تحتفظ أياً كان معناها بجوهر دلالي مشترك)( )، وأول الصيغ التي سيتم الإشارة إليها هي صيغة اسم الفاعل، وهي ( صفة تؤخذ من الفعل المعلوم، لتدل على معنى وقع من الموصوف بها أو قام به على وجه الحدوث لا الثبوت)( )، ومن النماذج التي وردت في ديوان ابن درّاج وفيها تكرار لصيغة اسم الفاعل، قوله في إحدى قصائد المدح( ): (البسيط)
يـــــا واصِلاً بالنـدى مَا اللهُ وَاصِــــلُهُ وقاطِـعاً بالظُّبى مَــــــا اللهُ قاطِـــــعُهُ
اسْعدْ بفخرٍ وفِطـرٍ أنت حاصِدُهُ مِنْ برِّ فتـحٍ وصَوْمٍ أَنـــــــتَ زارِعُـهُ
ومَشهـــــــدٍ لِلْمُصلَّى قَـدْ طَـلَعـــــــتَ لَهُ كالبـــــــدرِ مُـشــــــرِقَةً مِـنهُ مطـــــــالعُــهُ
في جيشِ عـزٍّ ونصرٍ أَنـــــت غُرَّتُهُ وشمـلِ ديـنٍ ودُنيا أَنــــــــتَ جامِعُـــهُ
مُعظَّمُ القَدْرِ فِي الأَبصارِ باهِـــــــرُهُ وخافِضُ الطَّرْفِ للرَّحمنِ خاشِعُهُ
ومَـــــوقفٍ لَكَ فِــــي الـدَّاعــــينَ رَفَّــــــعَهُ إِلَـــى السـمـــــواتِ رائـيهِ وســـــامِــــــعُـــهُ
بكَ استُهِلَّ بِهِ فصلُ الخطابِ وَمَا أَسَرَّ ســـــــاجِـدُهُ الـدَّاعِـــــي وراكِـــــعُـــهُ
استخدم الشاعر في البيت الأول اسم الفاعل الذي يشير إلى الممدوح (يا واصلاً)، وفي المرة الثانية ارتبط اسم الفاعل بلفظ الجلالة (ما الله واصله)، والأمر نفسه نجده في العجز (وقاطعاً) و (وما الله قاطعه)، فصيغة اسم الفاعل التي تشير إلى أن الممدوح يحكم بما أمر الله، فيها رفعة لمكانة الممدوح وشأنه، ومن حقه أن يفخر بما هو (حاصده)؛ لأنه نتيجة لما هو (زارعه)، وحين يخرج الأمير لصلاة عيد الفطر، فإنه يبدو كالبدر (مشرقة منه مطالعه)، ونلاحظ أن معاني المدح التي يقدمها الشاعر ترتبط بصيغة اسم الفاعل، وهي تدل على صفة جديدة للأمير في كل مرة.
فالأمير الذي يبدو متميزاً وسط جيشه، هو من يجمع شمل الدين والدنيا (أنت جامعه)، وإلى جانب ما يمتاز به من علو المنزلة والمكانة، وطلعة للأبصار (باهرة)، فهو يتصف بتواضعه (خافض الطرف)، وخشيته لله (للرحمن خاشعه)، ومن أجل ذلك فإن (الداعين) يلهجون بالدعاء له على مواقفه النبيلة، التي يرونها ويسمعون بها (رائيه وسامعه)، وفي البيت السابع تتكرر صيغة اسم الفاعل ثلاث مرات متتالية (ساجده الداعي وراكعه)، في إشارة إلى أن الدعاء للأمير وسيرته الطيبة تمثل محوراً لحديث المتكلمين في خطابهم، وفي دعاء الداعين في سجودهم في الصلاة وركوعهم.
ويمكن القول إن لمجيء صيغة اسم الفاعل في نهاية البيت الشعري دوراً في كثرة استخدام هذه الصيغة داخل أبيات القصيدة، والأبيات السابقة تدعم مثل هذا القول، كما أن الحضور المكثف لصيغة اسم الفاعل يدعم فكرة فاعلية الحدث ويجعله حاضراً بقوة في التعبير عن المعنى المراد، واستخدام اسم الفاعل في قصيدة المدح لا يقتصر على الإشارة إلى ذات الممدوح، فهو يأتي أيضاً للتعبير عن حال الشاعر، أو من يحيط بالممدوح من أشخاص.
اسم المفعول:
صيغة اسم المفعول ( صفة تؤخذ من الفعل المجهول، للدلالة على حدثٍ وقع على الموصوف بها على وجه الحدوث والتجدد، لا الثبوت والدوام)( )، وهذه الصيغة كسابقتها كان لها حضورها في شعر ابن دراج، وحين يجري تناول مثل هذه الصيغ بالدرس، فإن الاختيار يتجه نحو النماذج التي يشكل تكرار مثل هذه الصيغ ملمحاً بارزاً في بنيتها.
في الأنموذج التالي يزاوج ابن درّاج بين ذكر اسم الفاعل واسم المفعول، يقول( ): (المتقارب)
إِلَى المُستجَــار مــــن المُستَجــيرِ إِلَــــى المُستَقَال مِــــــنَ المُــــستَقِيلِ
إِلَى المُستضاف المَلِيكِ العزيزِ من المُسْتَضيفِ الغريب الذليلِ
ســـلامٌ وأَنـــــــتَ ابنُ بَــــــدْءِ السَّلا مِ منْ ضيفِهِ المكرَمِينَ الدُّخولِ
في البيتين الأول والثاني نجد صيغة اسم المفعول (المُستجَار، المُستَقَال، المُستضاف) المسبوقة بحرف الجر (إلى)، وهي تشير إلى الممدوح، في مقابل صيغة اسم الفاعل (المُستَجيرِ، المُستَقِيلِ، المُسْتَضيفِ) المسبوقة بحرف الجر (من)، والتي تشير إلى الشاعر، وأمر آخر نلحظه هنا، وهو أن بناء عجز البيت الأول متماثل مع بناء صدر البيت نفسه: إلى + اسم المفعول + من + اسم الفاعل .
أما البيت الثاني، فالصدر: إلى + اسم المفعول + نعت أول + نعت ثانٍ
والعجز: من + اسم الفاعل + نعت أول + نعت ثانٍ
وبطبيعة الحال فإن هذا الانتظام في البناء من شأنه أن يدعم الموسيقى الداخلية للبيت، من خلال الإيقاع المنتظم الذي يتوالى بين صدر البيت وعجزه، وأن يبرز المعنى بصورة أفضل.
وفي قصيدة أخرى يقول ابن درّاج( ):
(الكامل)
ومُبَشِّرُ الأَيامِ أن تـبقى لَهَـــا ومبشّرُ الإِسلامِ أن تبـقى لَـنَا
ولمن مُناهُ أَن تعيشَ مؤيِّداً ومـــــــؤَيَّـداً ومـــــؤمِّــــــــناً ومــــــؤمَّــــــنا
ومعظَّماً ومكـرَّماً ومحـكَّمـــاً ومــــــسلَّـماً ومـــــــغنَّـماً ومـــــمكَّـنا
تكررت في الأبيات السابقة ثماني صيغ لاسم المفعول، وتكرار هذه الصيغة مرتين في البيت الثاني، وست مرات في البيت الثالث كفيل بإثارة انتباه المتلقي إلى ما يريده الشاعر، وتجدر الإشارة إلى أن صيغتي اسم المفعول في البيت الثاني قد سبقتا بصيغة اسم الفاعل من الجذر نفسه، وكأن الشاعر يشير إلى أن هذا النسق موجود في البيت الثالث، ولكنه اكتفى بذكر ست صيغ لاسم المفعول، ومجموع هذه الصيغ في الأبيات السابقة (12 كلمة) من أصل ( 24 كلمة) تمثل عدد كلمات الأبيات الثلاثة، وبنسبة 50٪ ، وهي نسبة مرتفعة جداً، وتكشف عن دور صيغة اسم الفاعل واسم المفعول في الإشارة إلى الدلالة التي يريدها الشاعر، وهي تأكيد علو قدر الممدوح ورفعة مكانته، ومدى محبة الناس له، لأن هذه المعاني هي ما تشير إليه صيغتا اسم الفاعل واسم المفعول المكررتان.
صيغة المبالغة:
تحمل صيغة المبالغة دلالة التكثير والزيادة، وفيها إشارة إلى تكرار حدوث الفعل، وتبقى دلالة مثل هذه الصيغة مرتبطة بالمعنى العام الذي ترد فيه، فهي تأتي في سياق المدح من أجل إبراز معاني الكرم والشجاعة والقوة، ولا يختلف الأمر كثيراً في باب الرثاء إلا أن هذه الصفات تنسب إلى المرثي في هذه الحالة، وكذلك الأمر في بقية أغراض الشعر الأخرى، فلكل منها توظيفه الخاص لصيغ المبالغة التي ترد فيه، ومن الأمثلة التي تشير إلى استخدام هذه الصيغة في شعر ابن درّاج قوله( ):
(الكامل)
وَضَرَبْتَ عنهمْ كُلَّ جبَّارٍ عتا فحـباكَ بيضةَ مُلـكـــــــهِ الجبَّارُ
في جَـــــحْفَلٍ كـاللَّيلِ جرَّارٍ لَـــهُ من عِزِّ نَصركَ جحفلٌ جَرَّارُ
إن استخدام الشاعر لصيغة المبالغة المكررة في البيت الأول، في إشارة إلى أعداء الممدوح الذين حلَّت بهم الهزيمة، يدل على عِظَم الانتصار الذي حققه على ذلك العدو الذي يتسم بالجبروت، وإذا نظرنا إلى المصير الذي آل إليه ذلك الجبّار، وجدنا أن التكرار جاء هنا للتحقير، لأن مصير ذلك الجبّار هو الاستسلام والخضوع، بينما جاءت صيغة المبالغة المكررة في البيت الثاني من أجل المدح، في إشارة إلى جيش الأمير الذي يتسم بالضخامة وكثرة عدد أفراده، وإلى جانب هذا التفوق العددي، فإن هذا الجيش يقاتل بعزم الأمير وسيرته الحافلة بالانتصارات، وهكذا فقد وظّف الشاعر صيغة المبالغة ليشير إلى العدو المنهزم تارة، وليشير إلى قوة الممدوح وبأسه الشديد تارة أخرى.
وهكذا نجد أن استخدام الصيغ المتماثلة يشكل (نبرات موسيقية متوازية، وهذا من شأنه أن يمنح المعنى قوة وأن يرفد الإيقاع الموسيقي الداخلي، فليست الموسيقى الخارجية هي التي تشكل إيقاع القصيدة، وإنما يتعاضد الإيقاع الداخلي مع الإيقاع الخارجي ليصبح التأثير أعمق وأشمل وأقوى)( ).
التكرار المركب:
يشمل التكرار المركب تكرار كلمتين (جزء من الشطر) فأكثر في الشطر نفسه، أو بين شطري البيت، وقد يمتد مثل هذا التكرار ليشمل عدة أبيات متتالية، وتأتي أهمية مثل هذا النوع من التكرار من حيث إنه يغطي مساحة مكانية وزمانية أكبر من تلك التي يشملها تكرار الكلمة المفردة، كما أن قدرته على ضبط الإيقاع كبيرة، ولأنه ليس مفترضا أن يغفل عنه المتلقي، وذلك لقرب تأتيه وسهولة استقباله.
وتحت هذا العنوان (التكرار المركب) تتم الإشارة إلى تكرار العبارة أو الجملة، وتكرار الصيغة النحوية، لما لهما من أهمية داخل القصيدة، ولأنهما يحضران بكثافة في شعر ابن دراج، ونشير إلى بعض الأبيات التي تمثل مثل هذا اللون من التكرار، لنتبين أثر ذلك في القصيدة، ومن النماذج التي تمثل تكرار الجملة في ديوان ابن درّاج، قوله في إحدى قصائد الرثاء، حيث تتخذ العبارة المكررة من بداية البيت الشعري موقعاً لها في ستة أبيات( ): (الطويل)
فلَهفِي عَـــــــلَـيْهِ والكُــــــــمَاةُ تـــــهـابُــــهُ ولهفي عَلَيْهِ والملـوكُ مُطِيعُــــــــــــوهُ
ولهفي عَلَيْهِ والـــــــوغى تَــــــسْتَخِـفُّهُ ولهفي عَــــلَــــيْهِ والكـتائِـــــبُ تَقــــفُوهُ
ولهفي عَـــــلَيْهِ والضُّيُــوفُ تـــــــــــزورُهُ ولهفي عَـــلَيْهِ والرَّكائِــــــبُ تَنْـحُوهُ
ولهـــفي عَلَيْـــــهِ والأَمــــانِي تَـــــؤُمُّــــــــــــهُ ولهفي عَلَيْهِ والخــــلائِقُ ترجُــــــــــــوهُ
ولهفي عَلَيْهِ والمصاحِفُ حَــــــــــــوْلَهُ يخُــــطُّ كتـــــابَ اللهِ فِيـهَا ويــــتـــــــلُـوهُ
ولهفي عَلَيْهِ حاضِـراً كُلَّ مَسْـــــجِدٍ وداعُــــوهُ أَشــــــياعٌ لَـــهُ ومُـــــصَــــــــــــــلُّوهُ
تَلَهُّفَ قلبٍ لَيْـــسَ يشـفــــــي غليلَهُ سوابِقُ دمعٍ لاعِجُ الحزنِ يحــــــــدوهُ
من خلال التكرار السابق يقدم الشاعر صورة جزئية جديدة للمرثي في كل مرة ، وهذه الصور مجتمعة تشكل الصورة العامة للمرثي، وقد كرّر الشاعر عبارة (ولهفي عليه) في مطلع صدور الأبيات الأربعة الأولى وفي مطلع أعجازها، واكتفى بتكرارها مطلع البيتين الخامس والسادس، ليتضح مدى لهفة الشاعر على المرثي في أحواله كافة؛ قائداً بطلاً، وكريماً مضيافاً، وخاشعاً متعبداً.
وإذا كان التكرار يناسب موقف الرثاء كما أشرنا في موضع سابق، فإن تكرار كلمة تحمل معنى الحزن والفجيعة يضاعف من قيمة مثل هذا التكرار في الجانب الموسيقي والجانب الدلالي، كما هي الحال في الأبيات السابقة، والتكرار بهذه الصورة قد حوّل الإيقاع الموسيقي إلى ما يشبه حالة الندب والتفجع التي تصدر من الإنسان عند وقوع المصائب، والطقوس التي يمارسها النادبون أو النادبات تحديداً، ( لأن الغاية من التكرير أصلاً تهدف إلى إحداث إيقاع نغمي أولاً ثم الاشتراك في إيقاع الدلالة ثانياً بغية إيصال الرسالة الشعرية إلى المتلقي على أحسن صورة)( ).
وحول تكرار الصيغة النحوية، وهو أن يتكرر بناء الجملة دون ألفاظها، قول ابن درّاج في باب المدح( ):
(السريع)
جِهادُكَ حُـكم اللهِ، من ذا يَـرُدُّهُ؟ وعَزْمُكَ أَمْـرُ اللهِ، مَـــــــــــنْ ذا يَصُدُّهُ؟
وطائِـرُكَ اليُمْنُ الَّـــــــــذِي أنـتَ يُمنُهُ وطَـالِعُكَ السَّعدُ الَّذِي أنـتَ سَعدُهُ
وبَيعةُ رِضْـوَان رَعَـــــــــــــى الله حَقَّهــا لمَـنْ بَيعةُ الرِّضْوَانِ إِذْ غـــــــــــــابَ جَدُّهُ
فإن هذا اللون من التكرار لا يقل قيمة عن تكرار الجملة، سواء في الجانب الدلالي أو في جانب الموسيقى الداخلية، إضافة إلى أن تكرار الجملة، بلفظها أو ببنائها النحوي، يُمكِّن الشاعر من تكرار التفعيلة نفسها، دون أية تغييرات عليها بين شطري البيت، وبذلك يحقق لأبياته نغماً وإيقاعاً متوازناً، وهذا يمثل قيمة أخرى يوفرها تكرار التراكيب بأشكاله المختلفة، وتكتسب بعض الصيغ المكررة ( أهمية خاصة ويصبح تكرارها ليس مجرد توقيع موسيقي رتيب، بل هو إمعان في تكوين التشكيل التصويري للقصيدة وإدغام لمستوياتها العديدة في هيكل متراكب)( ).
وهكذا فقد كان التكرار اللفظي باعثاً قوياً من بواعث الإيقاع الصوتي الداخلي في شعر ابن دراج؛ من خلال التناغم بين الكلمات المكررة وجرس الحروف الناشئ عن ذلك، كما أسهم التكرار اللفظي بمستوياته المختلفة في بناء النص الشعري عند ابن دراج؛ وذلك بإبرازه لفكرة معينة أرادها الشاعر وألحّ عليها، وهذه الجماليات إذ تتظافر في نص من نصوص الشاعر فإنها تمنحه جمالاً وتزيده قوة، خاصة أنها جاءت منسجمة مع السياق العام للقصيدة، بمعنى أنها لم تكن خارجة عن المألوف.
ومن النتائج العامة التي توصلت إليها الدراسة: أن أغلب التكرارات كان لها حضور دلالي مقصود في النص الشعري، وهي ليست دليلاً على عجز الشاعر وضحالة معجمه اللغوي، بل تعبيراً عن قدرته وبراعته في امتلاك ناصية اللغة والتفنن في تشكيل الدلالة والإيقاع، وعدم الاكتفاء بالإيقاع الناتج عن الوزن الشعري المتمثل بالبحر وتفعيلاته.
ومثّل تكرار الحرف وتكرار الأدوات النماذج الأكثر دوراناً في شعر ابن دراج، أما تكرار الأفعال فكان الفعل الماضي هو الأكثر حضوراً في النماذج التي تمثل التكرار، وكلما ازدادت مساحة النص المكرر (بيت، شطر) قلَّ حضوره في الشعر وتضاءلت أمثلته، ويمتلك التكرار المركب بأشكاله المختلفة قيمة أكبر من أنواع التكرار الأخرى؛ وما يعلل ذلك هو أن قدرة هذا اللون من التكرار كبيرة في تشكيل الجانب الدلالي والجانب الموسيقي، وكان لتكرار العبارة أو الجملة، وتكرار الصيغ النحوية حضور لافت تمت الإشارة إليه.


هوامش:

مدير المنتدى
Admin

عدد المساهمات : 166
تاريخ التسجيل : 18/02/2012
الموقع : rihabalkalimah.cultureforum.net

https://ichkalat.forumalgerie.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى