مجلة إشكالات في اللغة والأدب
مرحبا بزوار المنتدى وقراء مجلة [ إشكالات ].. نرجو منكم الانضمام إلى أعضائه والتواصل مع أسرة المجلة.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

مجلة إشكالات في اللغة والأدب
مرحبا بزوار المنتدى وقراء مجلة [ إشكالات ].. نرجو منكم الانضمام إلى أعضائه والتواصل مع أسرة المجلة.
مجلة إشكالات في اللغة والأدب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تحكم الأنساق الثقافية والاجتماعية في الشعر الجزائري الحديث

اذهب الى الأسفل

تحكم الأنساق الثقافية والاجتماعية في الشعر الجزائري الحديث Empty تحكم الأنساق الثقافية والاجتماعية في الشعر الجزائري الحديث

مُساهمة  مدير المنتدى الخميس يناير 28, 2016 7:05 pm

تحكم الأنساق الثقافية والاجتماعية في الشعر الجزائري الحديث

د/ بوحوش مرجانة
جامعة أم البواقي


مقدمـة:
إن الأنساق الثقافية والاجتماعية هي التي تمنح مختلف فنون القول -المنظوم والمنثور- شرعية الوجود والقبول والتلقي، فالكلام "لا يصير نصا، إلا داخل ثقافة معينة" ؛ أي أن المدلول اللغوي وحده غير كافٍ ليكون الكلام نصا. بل إن الثقافة السائدة هي التي ترتقي بالكلام إلى مصاف النص. أي من اللاشرعية إلى الشرعية؛ من اللانص إلى النص. لأن النسق الثقافي يشبه المؤسسة الاجتماعية أو الاقتصادية أو العسكرية التي تبنى على قوانين وتحكمها تشريعات، وكل منتسب إليها يلتزم بمعاملها ويقف عند حدودها. ومن ثمَّ يمتلك شرعية الانتساب إليها. فالنسق الثقافي عبارة عن "مواضعة اجتماعية، دينية، أخلاقية، استيتيقية... تفرضها، في لحظة معينة من تطورها، الوضعية الاجتماعية، والتي يقبلها ضمنيا المؤلف وجمهوره" . هذه المواضعة تشبه العقد الاجتماعي بين المؤلف وجمهوره وأيّ إخلال بطقوسها يخرج الكلام من النصية؛ أي القبول الاجتماعي.
وحجتنا في ذلك (المقامة العربية) التي أبدعها "الهمذاني" في القرن الرابع للهجرة، والتي اكتملت بنيتها السردية على يد "الحريري" في القرن السادس للهجرة، لم تكن لتوجد وتكسب شرعيتها إلا بعدما استجابت للأنساق الثقافية السائدة. فالثقافة التي سادت وقتئذٍ؛ والتي تواضع عليها المجتمع هي التي فرضت على "الهمداني" الجمع بين المنظوم والمنثور، مع الميل إلى معتاص الكلام ومصنوع اللفظ وهو ينشد مقاماته.
وهذا هو السبب الذي جعل "الهمذاني" ينقص من شأن "الجاحظ" ومن بلاغته، لأنه "في أحد شقيّ البلاغة يقطف. وفي الآخر يقف. والبليغ من لم يُقصر نظمه عن نثره. ولم يزر كلامه بشعره" . ويقول في موضع آخر من المقامة الجاحظية نفسها "هلموا إلى كلامة (أي الجاحظ) فهو بعيد الإشارات قليل الاستعارات، قريب العبارات منقاد لعريان الكلام يستعمله، نفور من معتاصه يهمله" . فما أعابه الهمذاني على الجاحظ من تقصير بلاغي ونفور من معتاص الكلام أسس عليه مقاماته الفائقة. فنالت من الشهرة والقبول ما لم يتحقق لغيرها من فنون القول في القرن الرابع للهجرة. فقد قال عنه صاحب اليتيمة: "لم يُر ولم يرو أن أحدًا، بلغ مبلغه من لبّ الأدب وسرّه، وجاء بمثل إعجازه وسحره" . والثعالبي -كما هو معروف- معاصر "للهمذاني". وهذه الطقوس البلاغية التزم بها المقاميون العرب، شان: الحريري، السرقسطي، ابن الجوزي، أحمد بن المعظم، ناصيف اليازجي...الخ. لأن النسق الثقافي فرض هذه المواضعة. كما أن المقامات جسدت الاضطراب الاجتماعي وقسوة العيش التي كان يعاني منها المبدع في القرن الرابع للهجرة وما تلاه من القرون. وهذا ما دفع بالمقاميين العرب إلى جعل أبطالهم مثالاً للاستجداء والتطفل شأن: أبو الفتح الإسكندري بطل مقامات "الهمذاني" الذي قال:
ساعة الـزم محـرابا وأخـرى بيت حان
وكذا يفعل من يعقل في هـذا الزمـان
أو ما قاله الحريري على لسان بطله أبي زيد السروجي:
تعارجت لا رغبة في العرج ولكن لأقـرع باب الفرج
وألقي حبلـي على غاربي وأسلك مسلك من قد مرج
هذا التناغم القائم بين المقامة العربية والأنساق الثقافية هو الذي أكسبها شرعية الوجود عشرة قرون كاملة؛ فكانت مقامات الحريري -مثلا- تحفظ كما تحفظ السورة من القرآن الكريم. وهذه الأنساق يجب أن تحضر في أي قراءة لهذا المنتوج الإبداعي مهما كانت المناهج والأدوات الإجرائية التي نعتمدها في القراءة.
هذا المثال -المقامة- الذي تعمدنا الإطالة فيه يشكل أرضية صلبة ننطلق منه للحديث عن الشعر الجزائري الحديث، وعن الأنساق الثقافية التي تحكمت في إنتاجه، والتي يجب على المتلقي (ناقد أو قارئ) أن يتمثلها، وهو يتلقى هذا الخطاب الشعري اليوم.
الشعر الجزائري الحديث وأنساقه الثقافية والاجتماعية:
يميل جمهور النقاد إلى تحديد البداية الزمنية للشعر الجزائري الحديث بظهور جريدة المنتقد سنة 1925 خاصة، وبداية أول حركة إصلاحية (فكرية، اجتماعية، وطنية) في الجزائر عامة، هذه الحركة التي استطاعت أن تجمع خيرة المفكرين والأدباء والشعراء. يقول ابن باديس زعيم هذه الحركة: "... الحقيقة التي يعلمها كل أحد، أن هذه الحركة الأدبية، ظهرت واضحة من يوم أن برزت جريدة "المنتقد" فمن اليوم ذاك عرفت الجزائر من أبنائها كتابا وشعراء ما كانت تعرفهم من قبل..." . فكانت "المنتقد" ملتقى الأدباء والشعراء، على صفحاتها تنشر إبداعاتهم.
واستمر الشعراء في نشر قصائدهم في الصحف التي تعاقبت، وكانت على خط المنتقد؛ شأن: الشهاب، وصدى الصحراء (1926)، ووادي ميزاب (1924)، والإصلاح (1927)...الخ. والجيل الأول من هؤلاء الشعراء جمع أشعارهم، محمد الهادي الزاهري (1926-1927) في كتابه: "شعراء الجزائر في العصر الحاضر" المنشور في جزئين، أبرز في مقدمة الكتاب أسباب تأليفه، فقال: "جئت هذا العمل بعد أن رأيت شعراء فطاحل يمثلون للشعر دورًا عربيا وينفثون سحرًا بابليا. لا تسمع لهم على من مات وهو في الرحم رثاء، ولا في المسيئين هجاء، ولا في أحد مدحًا، ينكرون الأول، ويصفحون عن الثاني، ويتشامخون عن الثالث... تنبو بهم أقلامهم عن ذلك كلّه إلى كل جديد في الحكمة والرحمة وغيرهما مما أصبحت الإنسانية تتطلبه، والعربية تتعشقه، ونهضة اليوم في الشرق تدعو إليه..." .
الملاحظ أن "الزاهري" على وعي تام بالنسق الثقافي السائد في المجتمع، فهو لم يجمع من الشعر في كتابه إلا ما توافق والمأساة الاجتماعية، شعراء ابتعدوا عن نفاق المدح وسخافة الهجاء، وذاتية الرثاء. بالمقابل تراهم يتطلعون، إلى ما تطلبه الإنسانية وتتعشقه العربية. من هؤلاء: محمد العيد آل خليفة، محمد اللقاني، ابن السائح، محمد السعيد الزاهري، والجنيد أحمد مكي، وأبو اليقظان، والطيب العقبي، مفدي زكرياء، حمود رمضان...الخ. قدّم لنا هذا الديوان (كما يسمى) إنتاج اثنين وعشرين شاعرًا "يختلف شعرهم، عما ألفه الناص ممن سبقوهم، أصالة وانطلاقا، مضمونا وشكلا" ؛ أي شعرا ابتعد عمّا ألفه الناس من قصائد شعراء المشايخ الذين ينتدبون من طرف الإدارة الفرنسية للتدريس بالجوامع الكبيرة، والتي استطاع أن يصفها الإبراهيمي وصفا نقديا في قوله: "اطلعنا على أكثرها فإذا هي من لون واحد، وإذ هي منصرفة في الغالب إلى مدح المشايخ والكبراء وإذا هي أخت الأشعار الملحونة الرائجة في السوق لأنها منقطعة الصلة بالشعر في أعاريضه وأضربه، منقطعة الصلة بالعربية في ألفاظها ومعانيها، ومنقطعة الصلة بالخيال في تصرفه واختراعه" مضامينه بعيدة عن الأصالة والعمق وأساليبه بعيدة عن الجزالة والرونق.
ثم جاء بعدهم: محمد الصالح باويه، حمزة بوكوشة، الطاهر بوشوشي، الربيع بوشامة، عمر بن قدور، مبارك جلوح...وغيرهم. واستمر العطاء حتى غداة استقلال الجزائر، لأن بعد الاستقلال كما هو معروف أصيبت الحركة الأدبية بضعف وانكماش لم تتخلص منهما إلا مع منتصف السبعينيات من القرن الماضي. شعر متعدد الأغراض (إصلاحي، ديني، اجتماعي، سياسي...) تماشيا والنسق الاجتماعي. كما تطور هذا الشعر من الناحية الفنية "فاستطاع بعض الشعراء أن يستجيبوا ويتفاعلوا مع بعض الاتجاهات التي قد تعتبر جديدة آنئذ كالاتجاه الوجداني الرومانسي... وحاول بعضهم أن يدخل نوعا من التجديد في الوزن والقافية..." . والمقصود بهذه الاتجاهات الحاضنة للشعر الجزائري الحديث هي: الاتجاه التقليدي المحافظ والاتجاه الوجداني والاتجاه التجديدي، وكل اتجاه له مزاياه على مستوى التشكيل الموسيقي واللغة الشعرية والتصوير الفني.
ولعل خير توصيف لهذا الشعر ما قاله المؤرخ الجزائري الكبير مبارك الميلي: "شعر شعراؤنا بحياة جديدة فنفضوا أيديهم من ذلك الأدب البالي المشوه بلغة التأليف، ونفذوا إلى الأدب الغض، واستمدوا منه شعورهم الرقيق الطاهر... وعلى أمثال هؤلاء الشباب نعلق آمالنا في تجديد الأدب الجزائري ورفع مستواه" . هذا الوابل الشعري ما كان له ليستمر ويتألق إلا لأنه مثّل وتعايش مع الأنساق الثقافية والاجتماعية السائدة في المجتمع الجزائري يومئذ.
فالمأساة الاجتماعية التي فرضها المستعمر الفرنسي على الشعب الجزائري، وما خلفته من جهل وفقر ومرض وحزن وتشاؤم والتي استطاع أن يصوّرها الصحفي الجزائري أبو اليقظان بعد جولته في ربوع الوطن سنة 1937 بقوله: "في سياحتي هذه شاهدت أينما حللت كلحا في الوجوه، وتعقدا في الألسنة، وتبرمًا في النفوس، وتذمرًا عاما... حتى كان من الناس لهذه الأزمة العصيبة، من يفكر في الهجرة تمامًا من هذه البلاد... ومنهم من كاد يتجاوز حدود العقل والدين، ويميل إلى الانتحار تخلصا في ظنه من هذا الموت..." هذه المأساة فرضت على الشعراء كتابة الشعر السياسي والاجتماعي والإصلاحي. يقول محمد العيد آل خليفة: "إن المجتمع في تلك الفترة فرض علينا أن نطرق مواضيع معينة، ولذا جاءت أشعارنا توجيهية تربوية اجتماعية..." أي أن الكتابة في هذه الأغراض دون غيرها ناتج عن وعي قبلي بالواقع وما يفرضه هذا الواقع. فساد الشعر الوطني وتضاءل الشعر الوجداني وشعر الطبيعة. وهي الحقيقة التي أكدها صالح خرفي: "الشعر الوطني يكون العمود الفقري للإنتاج الشعري ففي الجزائر. بينما يتضاءل الفرعان الباقيان -شعر الطبيعة وشعر الوجدان- تحت وطأة التقاليد من ناحية، والانصهار في مأساة الشعب من ناحية أخرى" حتى على مستوى الأداء الفني، فقد جاءت اللغة الشعرية بسيطة واضحة لا تعقيد فيها. وهو ما أشار إليه أبو القاسم سعد الله في حديثه عن (حسان الحركة الإصلاحية)، أي محمد العيد آل خليفة "إنك تقرأ شعره، فلا تحتاج معه إلى قاموس ينجدك في تفسير الغامض من الألفاظ، ولا تحتاج إلى كد ذهني للوصول إلى ما يريد من المعاني، فهو شعر قريب من النفس لبعده عن التكلف من ناحيتي الأسلوب والمعنى..." . تراه في شعره خصب الخيال، متسع جوانب الفكر، متين التركيب فحل الأسلوب، محكم النسج، مترقرق القوافي، يدافع عن كينونة وأمجاد وطنه، شعره سجل أمين لصور كفاح الشعب الجزائري. وهذا لا يخص شعر "محمد العيد" فحسب بل إن معظم الشعراء نهجوا هذا المنهج، ومن ثمَّ تجد معجمهم الشعري يحتضن ما وضح من الألفاظ، وما رقّ من العبارات.
هذا النسق العام هو الذي فرض على "محمد الهادي الزاهري" في كتابه الجامع للشعر الجزائري الحديث أن يخرج منه أغراض المدح والهجاء والرثاء معللاً ذلك بقوله: "أخرجت هذه المواضيع لما بينها وبين الحقيقة اليوم من التباين، لما في المديح من التنازل عن الكرامة، وفي الهجاء من البذاءة وفي الرثاء من التعداد الذي قلما يصدق فيه قائله والجميع في الأكثر لا يفيدنا معنى اجتماعيا ولا غيره وعلى الأخص في بيئتنا" ، إن معيار القبول والرفض الذي استند إليه الزاهري هو النسق الثقافي والاجتماعي. فما تناغم مع هذا النسق ضمّه إلى كتابه وما تعارض رده وأبى تدوينه. فجاءت قصائد الكتاب كلّها بعيدة عن المدح والرثاء والهجاء... غارقة في الهم الاجتماعي. من هذه القصائد ما قاله "محمد اللقاني بن السائح":
بني الجزائر هـذا المـوت يكفينا لقد أغلت بحـبل الجهـل أيدينا
بني الجزائر هـذا الفقـر أفقدنا كل اللذائـذ حينا يقتفـي حينا
بني الجزائر هـذا اللهـو أوقعنا في سـوء مهلكـة عمت نوادينا
بني الجزائر ما هـذا التقاطع من دون البرايا. عـيوب جمعت فينا
فقر!! وجهـل!! وآلام ومسغبة يا رب رحماك هذا القدر يكفينا
بل إن صوت الشعب ومأساة الأمة دعت بالشاعر إلى القول:
ألا فدع التغزل في غوانٍ فتلك طـريقة المستهرينا
وما شأن المدامة في كؤوس بها تستنزف العقل الثمينا
فمن صوت البلاد لنا نداء يكاد المـرء يسمعه أنينا
هذه هي وظيفة الشعر، ورسالته في الحياة كما يراها "اللقاني" ومن عاصره من الشعراء. فالشاعر لم يكن يلتفت إلى مشاعره الخاصة، بل كان يرى في الشعر أداة للإصلاح من جهة والتعبير عن المأساة الاجتماعية من جهة أخرى.
لقد تركت المآسي التي شهدتها الجزائر أثرا عميقا في نفوس الشعراء. فجاء شعرهم تعبيرًا عن إرادة رافضة للواقع الذي كرسه المستعمر.
حتى الشاعر "حمود رمضان" والذي عرف بميوله التجديدية وثورته على من حوّلوا الشعر عن مساره وأفرغوه من محتواه
أتوا بكـلام لا يحـرك سامـعا عجوز له شطر وشطر هو الصدر
وقد حشروا أجزاءه تحـت خيمة كعظم رميـم ناخـر ضمه القبر
وزين بالـوزن الذي صار مقتفى بقافيـة للشـط يقـذفها البحر
وقالوا وضعنا الشعر للناس هاديا وما هو شعـر ساحـر لا ولا نثر
ولكنـه نظـم وقـول مبعثـر وكذب وتمـويه، يموت به الفكر
رغم هذه النزعة التجديدية وثورته على "عبيد التقليد" إلا أنه لم يخرج عن النسق الثقافي العام. فلو عدنا إلى ديوانه وأشعاره لوجدنا فيها تناغما بديعا مع المأساة الاجتماعية؛ كقوله:
ما لشعـبي الكئيب بات حزينا يرسـل الدمـع تارة والأنينا
بات يشكو الهـوان والليل داج مثل حظ الشقـي والبائسينا
قلت: هـوّن فأنت كالبدر فينا أنت منـا أب ونحـن البنونا
أيّها الضاحكـون والشعب باك من صـروف تشيـب الجنينا
ذاب قلبي ومات جسمي شهيدًا من هموم تنهال كالغيث فينا
ومن قصائده، بل من زفراته التي يبكي فيها مآل الشعب الجزائري قصيدة طويلة عنوانها "دمعة على الأمة" يقول فيها:
بكيت ومثلـي لا يحـق له البكا علـى أمـة مخلوقـة للنـوازل
بكيت عليـها رحمـة وصبـابة وإني علـى ذاك البكا غـير نادم
ذرفـت عليها أدمعا مـن نواظر تساهر طول الليل ضوء الكواكب
وهي ثورة صريحة على الهوان والوهن الذي أصاب الأمة.
فهذه البكائية وهذا التشاؤم لم يكن انتصارًا لجرح ذاتي أصاب الشاعر أو لفقدان حبيب، بل:
بكيت عليهم إذ رأيت حياتهم مكدرة مملؤة بالعجائب
فالمعاناة الذاتية "تنصهر في المعاناة القومية، فتتلاشى ملامح الشاعر في ملامح مأساة وطنه، فتنساب الأبيات طعينة جريحة" .
استجابة شعراء الجزائر –في هذه الفترة- للأنساق الثقافية والاجتماعية كانت سببا من أسباب إشادة وإعجاب كبار النقاد والمفكرين العرب بالشعر الجزائري الحديث. يقول شكيب أرسلان عن شعر محمد العيد آل خليفة: "كلما قرأت شعرًا لمحمد العيد الجزائري أخذتني هزة طرب تملك عليّ جميع مشاعري، وأقول إن كان في العصر شاعر يصح أم يمثل البهاء زهيرًا في سلاسة نظمه وخفة روحه ورقة شعوره وجودة سبكه، واستحكام قوافيه التي يعرفها القارئ قبل أن يصل إليها، وأن التكلف لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه يكون محمد العيد الذي أقرأ له القصيدة المرتين والثلاث ولا أمل وتمضي الأيام وعذوبتها في فمي" . هذه شهادة عارف بالشعر العربي عامة والشعر الجزائري خاصة. يمكن أن نسجل حولها ملاحظتين الأولى: أن شكيب أرسلان مدرك لحقيقة الشعر، فالشعر من عناصره الثابتة عنصر التخييل، والتخييل كما عرفه ابن سينا: هو الكلام الذي تذعن له النفس من غير روية أو إعمال فكر. فشكيب أرسلان نلمح تأثره بشعر محمد العيد؛ فأنفاسه تهتز، ومشاعره تتأثر.
الأخرى: أن المعايير التي استند إليها شكيب أرسلان في جودة شعر محمد العيد هي السلاسة في النظم والجودة في السبك والرقة في المشاعر، واستحكام القوافي والابتعاد عن التكلف.
هكذا ينبغي أن يقرأ شعر محمد العيد وفق الأنساق الثقافية التي أحاطت بإنتاجه، لأن من الحيف والظلم أن يحاكم بمعايير فنية بعيدة ؤكل البعد عن أنساقه، فهو "شاعر مستكمل الأدوات، خصيب الذهن، رحب الخيال، متسع جوانب الفكر، مشرق الديباجة، متين التركيب... بارع الصنعة في الجناس والطباق، وإرسال المثل والترصيع بالنكت الأدبية والقصص التاريخية..." .
حتى حركة الشعر الحر في الجزائر لم تكن ثورة على الوزن الرتيب والقافية المطردة فحسب، بل كانت ثورة على القيود التي فرضها المستعمر، وتفاعلا إيجابيا مع التطورات السياسية والاجتماعية والثقافية التي شهدتها الجزائر في بداية الخمسينيات من القرن الماضي. فجاء الشعر الحر تعبيرًا عن "تمرد أصحابه وتحررهم من المفاهيم السائدة ليس في الشعر فحسب، ولكن في مختلف أوجه الحياة، إنه جزء من ثورة، أو شكل من أشكال الثورة" وهذا ما نراه جليا في أول نص شعري نشر في الصحافة الوطنية، واعني به قصيدة "طريقي" لأبي القاسم سعد الله، المنشورة في جريدة البصائر بتاريخ 25 مارس 1955 يقول فيها:
يا رفيقي
لا تلمـني عن مروقي
إذ أنا اختـرت طريقي
وطريقي كالحياة
شائك الأهداف مجهـول السمات
عاصف الأرياح وحشـي النضال
صاخب الشكوي وعربيد الخيال
وهي قصيدة طويلة تقع في "74 سطرا" رسم فيها طريقه النضالي، ووصف مشروعه الشائك الأهداف المجهول السمات طريق عانق فيه شعاع المجد الأحمر:
إن هـذا هو ديني
فاتبعوني أو دعوني
في مروقي
فقد اخترت طريقي
الخط نفسه، بل الروح الثورية الرافضة لكل جبروت، نجدها في نص "أحمد الغوالمي" الذي عبّر فيه عن رفضه للواقع المرير وعنوانه "أنين ورجيع" نشر في جريدة البصائر، مما جاء فيه:
بئسما نأتيه من خزي وعار
وذوونا أركسوا في شر نار
عالم الغيب طواهم
بنعيم قد حباهم
من أنين للضحايا
ورجيع للسفوح
وعلى نهجيهما سار الشعراء أمثال: أبو القاسم خمار، ومحمد الصالح باوية، والطاهر بوشوشي، ومحمد الأخضر عبد القادر السائحي...إلخ، في تصوير بطولات الشعب الجزائري،
يقول أبو القاسم خمار:
لا تفكر... لا تفكر
يا لهيب الحرب زمجر... ثم دمر
في الذرى السمراء في أرض الجزائر
لا تفكر
مزق الأحياء اشلاء، وبعثر
حطم الطغيان، كسر
وانشر الإرهاب، والنيران. أكثر
ثم أكثر.
لغة قوية حادة لا يقل وقعها عن وقع القنابل والمدافع، وأستسمح القارئ في اقتباس أسطر من قصيدة حرة كتبها الشاعر محمد الصالح باوية سنة 1958، تحت عنوان "الإنسان الكبير" مما جاء فيها:
قال شعبي يوم وحدنا المصير
أنت إنسان كبير...
يا جراحي
أوقفي التاريخ أنا نبع تاريخ جديد
يزرع الكون سلاما وابتساما وبطولات شهيد
من ضلوعي من دمي عبر الجزائر
من خطي طفلٍ جريء يحمل المدفع في أرض الجزائر
يا جراحي
في دمي كنز السنابل
ينحني شوقا إلى صوت المناجل
ينحني للشمس للفجر إلى خلجة ثائر
ينحني شوقا إلى قبلة طفلي وزغاريد وشاعر
... يا أنا يا ثورتي
يا أغاني طفلتي
أنا إنسان كبير
قال شعبي يوم وجدنا المصير
إننا أمام عنوان -الإنسان الكبير- استفزازي، صدامي. عنوان يدفع المتلقي إلى البحث في غياهب النص عن مدلولاته.. فهو عنوان مفتوح، توفّر على خاصية (الإيجاز بالحذف) فالمبتدأ حاضر في العنوان (الإنسان) أما الخبر... أما المنتهى فهو موجود في أسطر النص. أمره متروك للمتلقي، فهو الذي ينسج معالمه من خيوط الألفاظ والعبارات. إننا لا نجد توصيفا أبلغ لهذا العنوان إذا ما وضعناه في سياقه التاريخي (القصيدة نشرت 1958) غير القول: إننا أمام عنوان فحل، بكل ما تحمله هذه الكلمة من مدلولات كالقوة، الحيوية، التجاوز. فهذا الإنسان الكبير... هذا الشعب الكبير؛ جراحه أوقفت التاريخ؛ تاريخ الذل والهوان، فاتحة بذلك تاريخا جديدا (يزرع الكون سلاما، وابتساما وبطولات شهيد). كما أن قوة النص تبرز في حضور الرؤيا الاستشرافية. فالشاعر يتحدث عما هو آتٍ
ملء كفي حزمة مطوية من عزمات وشراع
وغصون وبقايا ذكريات وشعاع
قبضتي هذي، سماء وتراب، وعصارات متاعي
وبقلبي ثورة تمتص معنى العاصفات
ثورة إنسانية الغلات تسقي أمنياتي
والربى والصبح من نبع الحياة...
حتى الشاعر الكبير "مفدي زكرياء" الذي هزّه صوت الرصاص، والذي كان يطل علينا بقصائده المجيدة أثناء الثورة، كهذه الإطلالة التي يتناص فيها مع قصيدة فتح عمورية لأبي تمام:
السيف أصدق لهجة من أحرف كتبـت، فكان بيـانها الإبهام
والنار أصدق حجة، فاكتب بها ما شئت، تُصعق عِندها الأحلام
إن الصحائف للصفائح أمـرها والحِبْرُ حَـرْبٌ، والكلام كِلام
هذا الشاعر بُعيد الاستقلال مباشرة همَّ بتحطيم مزهريته وتكسير أقلامه تناغما مع الواقع المأساوي الذي دب بين الإخوة قادة الثورة (خلاف وتناحر وتدابر)
أنا حطمت مزهـري. لا تسلـني وسلـوت ابتسامـتي. لا تلمـني
مذ تراءى الشقاق، حطمت كاسا تي، على مبسمـي، وأحرقت دني
مذ رأيت الغصـون ينعي بها البو م، تجـافيتها، وودعت غصـني
ورأيت الرؤوس طافـت بها حمـ ى الكـراسي، ونالها مس جـنٍ
فالشاعر المقوال الذي لم يخضع لجبروت الاستعمار، بل كان يقرع حصونه بين الفينة والأخرى بقصائده القاهرة -أثناء الثورة- هذا الشاعر همّ يوقف أشعاره وتحطيم كاساته يوم أن دب الخلاف والشقاق بين الإخوة الفرقاء... إنه التعايش مع الأنساق المحيطة فهي المتحكم الأساس في الإنتاج الإبداعي.
خاتمـة:
أريد أن أركز في مختتم مقالنا هذا على نتيجتين أساسيتين، هما:
الأولى: أن الشعر الجزائري الحديث (1925-1962) تحكمت في إنتاجه أنساق ثقافية واجتماعية. عنوان هذه الأنساق هو (المأساة الوطنية) والتي كان الشاعر الجزائري على وعي تام بها. فجاء شعره صدى لهذا النسق العام فتقبله النقاد واستحسنوه، وأقبل عليه القراء فحفظوه.
هذه الأشعار تفرض على أي قارئ اليوم مراعاة الأنساق الثقافية والاجتماعية التي أنتجتها. فالقراءة الواعية لهذا المنتوج؛ هي القراءة التي تستحضر هذا النسق العام. فمن الخطأ أن يأتي دارس أو قارئ ويحاول قراءة هذا الخطاب الشعري بأنساق مغايرة، فيضر بالمنتوج من جهة وبآليات القراءة من جهة أخرى. فلا مانع من قراءة الشعر الجزائري الحديث قراءة جديدة وفق آليات ومناهج معاصرة شريطة مراعاة النسق الثقافي العام لهذا المنتوج الشعري. فلا تعارض بين متعة نص حديث ومتعة القراءة المعاصرة.
الأخرى: أن الشعر الجزائري المعاصر إذا أريد له التميز والتألق. على شعرائه الوعي بالنسق الثقافي والاجتماعي السائد في مجتمعنا اليوم. فالشعر الجزائري الحديث انتهى بانتهاء أنساقه. فمن الخطأ ومن الوهم أن يحاول شاعر جزائري اليوم الكتابة الشعرية وفق أنساق منتهية الصلاحية. فالواجب اليوم في اعتقادنا، هو أن يدرك الشاعر الجزائري المعاصر الأنساق المحيطة به وأن يتفاعل معها في إبداعه الشعري. بهذا فقط يكون عندنا شعر معاصر أو لا يكون.
فالزمنية والمغايرة والتشكيل النثري وحدها لا ترقى بالإبداع الشعري إلى مصاف الحداثة، إنما الذي يرقى بالشعر الجزائري المعاصر إلى مصاف الحداثة هو استشراف المستقبل والميل إلى الشكل الدرامي من خلال إنتاج القصائد الطوال مع التركيز على التجادلية؛ أي فهم العالم والوجود من منظور متناقض. ورؤية العالم في وحدته القائمة على التناقض والصراع. في كلمة واحدة نقول إن الشعر الحداثي هو الشعر الذي يسعى إلى تشكيل جديد للكون والحياة بوساطة اللغة.

هوامش:

مدير المنتدى
Admin

عدد المساهمات : 166
تاريخ التسجيل : 18/02/2012
الموقع : rihabalkalimah.cultureforum.net

https://ichkalat.forumalgerie.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى