مجلة إشكالات في اللغة والأدب
مرحبا بزوار المنتدى وقراء مجلة [ إشكالات ].. نرجو منكم الانضمام إلى أعضائه والتواصل مع أسرة المجلة.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

مجلة إشكالات في اللغة والأدب
مرحبا بزوار المنتدى وقراء مجلة [ إشكالات ].. نرجو منكم الانضمام إلى أعضائه والتواصل مع أسرة المجلة.
مجلة إشكالات في اللغة والأدب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

التداولية: نشأة المفاهيم والتصورات

اذهب الى الأسفل

التداولية: نشأة المفاهيم والتصورات Empty التداولية: نشأة المفاهيم والتصورات

مُساهمة  مدير المنتدى الجمعة يناير 29, 2016 6:22 pm

التداولية: نشأة المفاهيم والتصورات

أ‌. مزايتي مريم
المركز الجامعي لتيسمسيلت/ الجزائر


تمايزت الدراسات اللغوية بعد ظهور البحث اللساني المعاصر، وتميزت بنوع من التوسع مما أدّى إلى تفرع المجالات البحثية إلى عدة اتّجاهات مارست سلطة حول النص بقراءتها المتجددة والآنية، نتيجة القراءة الحداثية للنصوص بأشكالها المختلفة، إلا أننا نلمس توجها فرض نفسه من خلال المنهج الذي تمت به القراءة.
ومن بين هذه المناهج التي فرضت نفسها في الآونة الأخيرة نجد المنهج التداولي ماثلا أمامنا بمعطياته المعرفية والآلية في إعادة النظرة الفكرية والمعرفية حول طبيعة قراءة بعض النصوص الأدبية واللغوية على السواء.
والمقال الذي بين أيدينا حاولت من خلاله استجلاء عناصر وأسس بعض المفاهيم المعرفية حول غايات هذا المنهج وأهدافه.




تقديم
كانت اللغة منذ القدم محل اهتمام العلماء، رغبة في دراسة قضاياها، وحل مشكلاتها بهدف الوقوف على أسرارها والإفادة من كنوزها، لأنها كانت أكثر الوسائل أهمية في تحقيق التواصل، بين البشر، وقد اعترضهم الكثير من المشكلات منها صعوبة تحديدها " أهي مقصورة على ما يتجسد في تلك الأحاديث المتبادلة بيننا كتابة ومشافهة، أما أنها تشمل أنواعا أخرى كتلك التي نسميها لغات في تعبيراتنا ... من ذلك ما يعرف بلغة العيون ولغة الإشارات... "( )، ولعل الإفصاح بلغة مفهومة وحده يحقق الفهم والإفهام؛ ففي قضايا الإجرام مهما توفرت الأدلة والبراهين يبقى الاعتراف دليلها، وإن كان الكثير منا يجهل قيمتها، لأنه يعدها شيئا مألوفا عاديا كالتنفس والمشي ولكنها تبقى إحدى المميزات الأساسية للكائن البشري التي تجعله مختلفا عن باقي الكائنات، "إذ من خلالها ندرك العالم ويحور الكون ويتطور وتعمل آليات التفكير والذاكرة ونتواصل فيما بيننا ونشتغل وننتج ونترجم تجاربنا ومشاعرنا"( ).
وقديما عرّفها ابن جني بأنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم( )، وعرّفها ابن خلدون بأنها "عبارة المتكلم عن مقصوده وتلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد لإفادة الكلام، فلابد أن تصير ملكة في العضو الفاعل لها وهو اللسان، وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم"( )، وعلماؤنا العرب تفطنوا إلى الجوانب المميزة للغة بما في ذلك مادتها الطبيعية ووظيفتها الاجتماعية، ممثلة في إقامة التواصل بين أفراد المجتمع فكان أن "اهتموا برصد العلاقة بين بنية اللغة ووظيفتها على أساس أن التراكيب اللغوية وسائل للتعبير عن أغراض تواصلية معينة تختلف حسب السياق الذي وردت فيه"( ).
لقد توسع البلاغيون والنقاد في الحديث عن مقتضيات الكلام بما في ذلك المرسل والمستقبل "فذكروا أن على الأديب ألا يطلق الكلام على عواهنه بل يجب أن يتأكد من مستقبل رسالته كما فعل الأصوليون نفس الفعل عند بحثهم عمن يدخل في الأوامر الإلهية ومن لا يدخل"( ).
وقد عني بموضوع التواصل النحاة والمفسرون والمناطقة ولعل القاسم المشترك بينهم "هدف واحد يتمثل في فهم النص القرآني... وفي تناول ظواهر مشتركة كالترادف والاشتراك باعتبارهما ظاهرتين تتصلان بالدلالة المعجمية وبالأساليب الإنشائية وتعدّد قراءات النص الواحد..."( )؛ فهم قد سخّروا جميع أدواتهم النحوية والبلاغية والأصولية لرصد ظاهرة التواصل اللغوي، وما يتصل بها وبمعانيها.
منزلة معاني الكلام في النظرية النحوية العربية
يقول الجرجاني: "اعلم أن معاني الكلام كلها معان لا تتصور إلا فيما بين شيئين، والأصل الأول هو الخبر ومن الثابت في العقول والقائم في النفوس أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبر به، ومخبر عنه، لأنه ينقسم إلى إثبات ونفي والإثبات يقتضي مثبتا، ومثبتا له، والنفي يقتضي منفيا ومنفيا عنه"( )، ويقول في موضع آخر "وجملة الأمر أن الخبر وجميع معاني الكلام معان ينشئها الإنسان في نفسه"( )، ووضع أحمد بن فارس بابا أسماه: «باب معاني الكلام»، قال فيه: "وهي عند بعض أهل العلم عشرة: خبر واستخبار، وأمر ونهي، ودعاء وطلب، وعرض وتحضيض، وتمن وتعجب"( ).
ومعاني الكلام هي المعاني المختلفة التي ينعقد بها الكلام من إخبار أو استخبار أو شرط أو تمن ونحوها من المعاني المتعددة( )؛ فالنحاة العرب كانوا "على صلة وثيقة بمعاني الكلام، وبأغراض الأسلوب، ومقاصده ... ولم يفهموا من اللغة أنها منظومة من القواعد المجردة فحسب، وإنما فهموا منها أيضا أنها لفظ معين يؤديه متكلم معين في مقام معين لأداء غرض تواصلي إبلاغي معين"( )؛ فنفوا بذلك صفة التجريد عن النحو العربي الذي اتّهم بأنه مجرد قوالب شكلية تخلوا من معاني الحياة؛ "فصناعة النحو قد تكون فيها الألفاظ مطابقة للمعاني وقد تكون مخالفة لها إذا فهم السامع المراد، فيقع الإسناد في اللفظ إلى شيء هو في المعنى شيء آخر إذا علم المخاطب غرض المتكلم وكانت الفائدة في كلا الحالين واحدة"( )، وفي جانب التحليل النحوي يقول ابن هشام: "متى بني على ظاهر اللفظ ولم ينظر في موجب المعنى حصل الفساد"( ).
كما توسع النحاة في الاهتمام بالظاهرة اللغوية، فأشار بعضهم إلى "المعاني والأغراض العميقة الكامنة وراء الألفاظ والمباني ، من ذلك إشارة سيبويه إلى أن القسم لا يعدو أن يكون تأكيدا للكلام ... وأن للاستفهام عدة وظائف تواصلية منها: التنبيه، ومن ذلك إشارة كلّ من الخليل بن أحمد الفراهيدي، ورضي الدين الأسترباذي إلى أن القسم لا يراد لذاته وإنما يراد به إما الإلحاح في الطلب، وإما تأكيد الخبر"( ).
وهو ما نستشفه في تحليل النحاة العرب للجمل، فمنهم من كان على " صلة وثيقة بمعاني الكلام وبأغراض الأسلوب ومقاصده، وبطرق وأحوال الاستعمال اللغوي، وبطبيعة العلاقة بين المتكلمين والمخاطبين، وبملابسات الخطاب ودلالاته وأغراضه ولم يكن نحوهم كلّه نحوا شكليا خالصا، إذ لم تكن عبقرية نحوهم أنه يفصل فصلا صارما بين الشكل البنيوي للجملة وبين مقامات وأحوال استعمالات الجملة كخطاب تواصلي كما يصوّره بعض الباحثين المعاصرين"( ).
ولم يقتصر الأمر على النحاة، بل إن غيرهم من علماء العربية، فطنوا إلى قضية القصد من اللغة ووجوه استعمالها، وكذا أثر السياق ، يقول الآمدي معرّفا الخطاب بأنه:" اللفظ المتعارف عليه، المقصود به إفهام من هو متهيّئ لإفهامه"( )؛ فالعرب كانت "تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان ... ليحترز بالوقوف عليها من الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره"( )، ويرى الشاطبي أن "معرفة مقاصد الكلام إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال"( ) بما يعين على ذلك من تحديد سياق الكلام بناء على القرائن والملابسات التي تعين على فهم مراد المتكلم وترفع أي لبس، حيث اشترط العلماء على المفسرين والمجتهدين معرفة علاقة النص بعالمه الخارجي للوقوف على مقاصده( )، وهو الهدف من التواصل، وجعل حازم القرطاجني الإفهام ضروريا لتحقيق القصد من الكلام أو المنفعة حيث اشترط أن "يكون المتكلم يبتغي إما إفادة المخاطب أو الاستفادة منه أو بعضها بالقول"( )؛ فحصول الفائدة بين المتخاطبين وربط القصد بالغرض الذي يبتغيه المتكلم يترتب عليه اختلاف الأساليب والسياقات، وفي هذا يقول القرطاجني:"يكون المقصدين غير منصرفين إلى محل واحد أو غير منبعثين من محل واحد، فلكل واحد منهما هدف معين لا يتحقق إلا في إطاره ولا يمكن تحققه في إطار غيره"( ).
وقد حرص البلاغيون على استيفاء المواقف التواصلية التي يهدف إليها المتكلم من خلال ما عرف عندهم بمقتضى الحال، فكان علم المعاني المجال الخصب لتناول تلك القضايا لكونه "يعنى بتمحيص تراكيب الكلام العربي المبين وما تلحقه من صور تضفي عليه معاني أخرى مناسبة لسياق الكلام وتتماشى ونفسية المستمع"( ).
التواصل اللغوي في الفكر اللساني الحديث
جاء في المعجم اللساني الفرنسي لجون ديبوا بأن التواصل هو تبادل كلامي بين متكلم محدث لملفوظ موجه إلى متكلم آخر، وهذا المخاطب يلتمس الاستماع إليه، أو جوابا ظاهرا أو باطنا حسب نوع ملفوظه، لذلك كان التواصل بين شخصين، ومن جهة علم النفس اللغوي هو عملية ربط المتكلم الدلالة بالأصوات، ويتم عكس ذلك بالنسبة للمستمع حيث يربط هذه الأصوات المنطوقة بدلالتها( ).
وتعتبر اللغة وسيلة لا مثيل لها للتواصل، فمن خلالها وبواسطتها يتم التعبير عن كل ما يتعلق بحياة الفرد سواء تعلق الأمر بمعيشته اليومية أو بمناظر جميلة أو سيئة كان قد رآها في زمن ما، أو حتى عن أشياء لم يكن قد فكر فيها من قبل، فاللغة حسب دي سوسير هي نسق من العلامات والإشارات هدفها التواصل.
ويذكر أن التواصل ظهر في اللغة الفرنسية في النصف الثاني من القرن الرابع عشر، فالمعنى الأصلي الذي هو "«تشارك في» قريب جدا من الفعل اللاتيني communicare وتعني الوضع داخل وحدة ما"( ) ثم انتقل مفهوم communier communion إلى المشاركة في الآراء والعاطفة أو وحدة الشعور، لتصبح كلمة communication دالة على الوسيلة التي تمكننا من الجمع بين الأشياء ضمن إطار واحد، وبالنسبة لمدرسة أكسفورد (أوستين Austin، سورل Searle وغريس Grice) فإن فعل الكلام لا يروم إفهام الغير بواسطة دوال Signifiants بقدر ما يهدف إلى التأثير في هذا الغير"( )، فالتواصل بالنسبة لبوديشون (J.Beaudichon) هو "سلوك يهدف إلى التأثير في الغير، في إطار قواعد اجتماعية من طرف وضعية الشريك وخصوصياته، فهو يكتسي تعاقدا ضمنيا وتشاركا بين الفاعلين الأساسيين"( )؛ فالأمر لا يقتصر على اكتساب أدوات اللغة والقواعد التركيبية، ولكن على كيفية استعمال هذه الأدوات خلال أنشطة التواصل.
استراتيجيات التواصل غير اللغوي
ولكن هل تبقى اللغة وحدها وسيلة لإحداث التواصل؟ ماذا عمن هم عاجزون عن استعمال اللغة كالأطفال، والصم البكم؟.
لقد تنبه اللغويون عامة إلى أن عملية التواصل لا تعتمد فقط على اللغة، بل هناك وسائل غير لغوية كالإشارات والحركات الجسمية المصاحبة للكلام، وحتى الصمت، فالإنسان يتكلم بجسمه كما يتكلم بلسانه، يقول الجاحظ: "... والإشارة واللفظ شريكان، ونعم العون هي له ونعم الترجمان... وفي الإشارة بالطرف والحاجب وغير ذلك من الجوارح مرفق كبير ومعونة حاضرة، في أمور يسترها بعض الناس عن بعض ويخفونها من الجليس وغير الجليس، ولولا الإشارة لم يفهم الناس معنى خاص الخاص ولجهلوا هذا الباب البتة"( ).
والحركات الجسمية تساهم في فهم وإدراك مقاصد المتكلم وهدفه التواصلي، فإذا كنا نستطيع إخفاء مشاعرنا بواسطة اللغة المنطوقة، فإن الإشارات الجسمية تكشف في غالب الأحيان عما نخفيه في باطننا من أحاسيس( ).
ويعتبر الجاحظ أوّل من تنبه لظاهرة الإشارات الجسمية من القدماء، لما لها من أهمية في فهم الكلام، حيث يقول في بيان دور الإشارة "وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة، وحسن الاختصاص ودقة المدخل يكون إظهار المعنى، وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح وكانت الإشارة أبين وأنور كان أنفع وأنجح"( ).
وتعتبر العين أهم وسيلة من وسائل الاتصال غير اللفظي، وقد اقترح أركايل 1984 تصنيفات للوظائف التي يؤديها النظر:
-إرسال المعلومات مثل النظرة التحذيرية.
-الحصول على المعلومات التي تفيد في فهم السلوك الاتصالي للطرف الآخر والحصول على تغذية راجعة حول مدى تجاوب الطرف الآخر مع السلوك الاتصالي للفرد.
تنظيم التفاعل بين الأفرادSad )
التخاطب وجها لوجه قد يفصح عن أمور كان ينوي أحدهما عدم الإفصاح عنها، يقول ابن جني: "أو لا تعلم أن الإنسان إذا عناه أمر فأراد أن يخاطب صاحبه وينعم تصويره له في نفسه استعطف ليقبل عليه، فيقول له: يا فلان، أين أنت؟ أرني وجهك؟ أقبل علي أحدّثك، فلو كان استماع الأذن مغنيا عن مقابلة العين، مجزءا عنه لما تكلف القائل ولا تكلف صاحبه الإقبال عليه والإصغاء إليه، وعلى ذلك قال الشاعر:
العين تبدي الذي في نفس صاحبها *** من العداوة أو ودّ إذا كانا"( )
ولا يتوقف الأمر على لغة العيون، بل هناك إشارات أخرى كإيماءات الوجه، مثل: الابتسامة، والضحك والتكشير والغضب والضحكة الصفراء مع تقطيب الحاجبين، وجحوظ العينين( )؛ فمنها ما تكون عفوية لا إرادية، ومنها ما تكون إرادية تحمل دلالات متفق عليها، ويخلص الباحثون جملة من الوظائف يمكن أن تقوم بها الإشارات والحركات الجسمية:
 تحقيق وتدعيم المعاني والدلالات التي يقصدها المتكلم .
 إكمال القصور وجبر العجز اللذين قد يشعر بهما المتكلم تجاه لغته الأم أو اللغة الأجنبية التي لا يعرفها حق المعرفة عندما ينتقل إلى مجتمع آخر.
 النيابة عن الكلمات في بعض المواقف التي يلجأ خلالها المتكلم إلى استبدال الكلام بالإشارة في حالة الخجل والاضطراب أو عندما يتعمد إخفاء ما يريد قوله.
 التعبير عن ضلال المعاني التي يريدها المتكلم أو ما سماه الجاحظ معنى خاص الخاص( ).
وقد يتخذ الصمت لغة للتعبير، "فإذا كان يعني الموافقة والرضا في ثقافة ما فإنه يدل على عدم الموافقة في ثقافة أخرى، ويعتبر دافيد كريستال أن الصمت الذي يصدر عن ذوي المراكز الاجتماعية العليا تعبيرا عن الرفض، أما الذي يصدر عن المراكز الاجتماعية الدنيا فهو تعبير عن القبول؛ فالصمت كثيرا ما يحمل دلالات متباينة، وبهذا اعتبره الدارسون شكلا من أشكال التواصل اللغوي.
مفهوم التّداولية
البراغماتية والذرائعية وعلم المقاصد والنفعية والتداولية كلها ترجمات لمصطلح Pragmatics ( )، مع الاختلاف بين الباحثين في اختيار ترجمة عن أخرى، واختلافهم في التصورات العلمية بينها أما عن تحديده فيكاد يجمع الباحثون على أنه عصي الضبط، لأن التداولية نظرية صعبة التقنين؛ لتفسير مناهجها، وحصر أهدافها كونها تخضع لهيمنة طائفة من التيارات العلمية المختلفة تمس أسسها المنهجية( ).
ويرجع مصطلح التداولية في العربية إلى مادة: دول التي وردت في معجم مقاييس اللغة على أصلين: "أحدهما يدل على تحول الشيء من مكان إلى آخر، والآخر يدل على ضعف واسترخاء؛ قال أهل اللغة: اندال القوم، إذا تحولوا من مكان إلى مكان، ومن هذا الباب: تداول القوم الشيء بينهم؛ إذا صار من بعضهم إلى بعض، والدَّولة والدُّولة لغتان، ويقال: الدُّولة في المال، والدَّولة في الحرب، وإنما سمي بذلك من قياس الباب، لأنه أمر يتداولونه فيتحول من هذا إلى ذاك، ومن ذاك إلى هذا"( ).
وجعله بعض العلماء قسيما للفعل (دار) الذي من دلالته نقل الشيء وجريانه، نحو قولنا: دار على الألسن، أي: جرى عليها، وخلصوا إلى أن المعنى الذي حمله الفعل هو التواصل، ومقتضى التداول( ).
وتلك حال اللغة متحولة من حال لدى المتكلم إلى حال أخرى لدى السامع ومتنقلة بين الناس يتداولونها بينهم"( ).
أما عن تحديد اللفظ اصطلاحا فيكاد يجمع الكثيرون على تشعب دائرة اهتمامات التداولية كونها تمثل همزة وصل بين حقول معرفية كثيرة مما صعّب حصر أهدافها وضبط مناهجها؛ فالتداولية "ليست علما لغويا محضا بالمعنى التقليدي، علما يكتفي بوصف وتفسير البنى اللغوية، ويتوقف عند حدودها وأشكالها الظاهرة، ولكنها علم جديد للتواصل يدرس الظواهر اللغوية في مجال الاستعمال ويدمج مشاريع معرفية متعددة في دراسة ظاهرة التواصل اللغوي وتفسيره"( ).
ويذكر أن المحاضرات التي ألقاها أوستين عام 1955 في جامعة هارفارد هي الانطلاقة الحقيقية للتداولية، فقد نشرت بعد وفاته تحت عنوان: «كيف نصنع الأشياء بالكلمات» حيث كان يطمح إلى الكشف عن الجوانب التي ننجزها باللغة محدثا تطورا في نطاق الفلسفة أنذاك القائلة بأن اللغة لا تهدف إلا إلى وصف الواقع( ).
ثم واصل الفيلسوف الأمريكي سيرل ما بدأ مواطنه، وألح على أن "العمل اللغوي هو الوحدة الدنيا الأساسية للتواصل اللساني، وبناء على ذلك لا يمكن دراسة الجملة ودلالاتها بمعزل عن إنتاج العمل اللغوي الذي لا يكون إلا في مقام معين"( )؛ كما اعتبر"التكلم بلسان ما هو تبن لشكل السلوك القصدي الذي يسيّره نظام من القواعد"( )، ثم تبعهما الفيلسوف بول غرايس (Paul Grice) بجهوده البارزة التي طوّر بها الدرس التداولي، وأبرزها وضع أصول المحادثة maxims of conversation عام 1975( )، ثم نجد كذلك ما يسمى بالنظرية "الحوارية التي تمثل الوجه الحقيقي للبراغماتية اللسانية التي تأثرت بالفلسفة التحليلية"( ).
والتداولية هي ترجمة عن المصطلح الفرنسي Pragmatique والإنجليزي Pragmatics وليست ترجمة لمصطلح Pragmatisme الفرنسي؛ لأن هذا الأخير يعني "الفلسفة النفعية الذرائعية" وقد ترجم إلى "الفوائدية والنفعية والعلمية"( )، وهناك من ترجمه بالبراغماتية للدلالة على المفهوم Pragmatics.
وقد عرّفها موريس بأنها "العلم الذي يعالج العلاقة بين الأدلة ومؤوليها، في حين اعتبرها فان جاك تخصصا يتناول اللغة بوصفها ظاهرة خطابية وتبليغية واجتماعية في الوقت نفسه"( ).
فالتداولية تعنى"بدراسة الكلام وما يتعلق به من سياق لغويي وغير لغوي، لتحقيق كمال الاتصال بين المتكلم (المرسل) والمستمع (المستقبل)"( )، وتمتد علاقاتها إلى علوم شتى منها "الفلسفة التحليلية ممثلة في فلسفة اللغة العادية، ومنها علم النفس المعرفي، ومنها علوم التواصل، ومنها اللسانيات بطبيعة الحال"( ).
والمنهج التداولي يتجاوز الوضع الأصلي والمباشر إلى المعنى السياقي غير المباشر "وهذه المعاني لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال فهم اللغة في سياق الاستعمال السياقي الذي يحدد قصد المتكلمين والوضع اللغوي وحده لا يكفي لتحقيق هذا المعنى"( ) لأن "المعاني اللغوية (التي هي معان وضعية تفهم من مفردات اللغة وتراكيبها) تنضوي في إطار اهتمامات علم الدلالة؛ لأن استنباطها لا يحتاج إلى عناصر خارج البنى اللغوية، أما مقاصد المتكلمين فلا يمكن التوصل إليها إلا بمعرفة السياقات التي قيل فيها الكلام ومعرفة المخاطِب والمخاطَب عند التعامل مع الكلام"( ).
أهم مهام التداولية وأهدافها:
تتلخص مهام التداولية في:
 دراسة اللغة أثناء التلفظ بها في السياقات والمقامات المختلفة.
 بيان أفضلية التواصل غير المباشر وغير الحرفي على التواصل الحرفي المباشر.
 شرح أسباب المعالجة اللسانية البنيوية الصرفة في معالجة الملفوظات .
 شرح كيفية جريان العمليات الاستدلالية في معالجة الملفوظات.
والتداولية تنطلق من مبادئ مستمدة من علم النفس الإدراكي، وأشهر النظريات التداولية هي نظرية المناسبة القائمة على فكرة المردود، فلابد من افتراض اشتمال عمل التواصل على ضمان مناسب من أجل الوصول إلى تفسير يحضى باهتمام المخاطب( ).
أهم جوانب البحث التداولي:
1- الإشاريات:
ويقصد بها أدوات الربط بين أجزاء الجملة وبين مجموعة من الجمل، فعلماء التداولية يعتبرون أن " النص يتألف من عدد من العناصر تقيم فيما بينها شبكة من العلاقات الداخلية التي تعمل على إيجاد نوع من الانسجام والتماسك بين تلك العناصر وتسهم الروابط التركيبية والروابط الزمنية والروابط الإحالية في تحقيقها"( )، فدراسة البعد الإشاري للعلامة اللغوية يمثل جزءا من مقاصد الخطاب؛ فالإشارة في: أنا ، أنت، هنا،... تفهم في سياقها الخارجي، ولا تتحقق إلا من خلال الاستعمال( )، والإشارات عدة أنواع( )، منها:
 الإشارات الشخصية (Personal Deixis) وهي تمثل الضمائر الدالة على المتكلم والمخاطب والغائب، سواء كانت متصلة أم منفصلة.
 الإشاريات الزمنية (Temporal Deixis) وتمثلها ظروف الزمان بصورة عامة، فإذا لم يعرف الزمن التبس الأمر على المتلقين، وقد تدل العناصر الإشارية على الزمان الكوني والنحوي.
 الإشاريات المكانية (Spatial Deixis) وتمثلها بصورة عامة ظروف المكان، ويعتمد استعمالها وتفسيرها على معرفة مكان المتكلم وقت التكلم، أو على مكان آخر معروف للخطاب أو للمخاطب والسامع، ولعل أكثر الإشاريات المكانية الواضحة هي: هذا، وذاك، وهنا، هناك، وتحت...
 الإشاريات الإجتماعية (Social Deixis) وهي ألفاظ أو عبارات تشير إلى العلاقة الإجتماعية بين المتكلمين والمخاطبين من حيث هي علاقة رسمية (Formal) أو غير رسمية (Informal) أو علاقة حميمية (Intimacy) أو غير حميمية (Non-intimacy) أو غير ذلك من مستويات العلاقة.
2- الإفتراض المسبق (Pre-supposition)
بعض الباحثين المعاصرين يطلق عليه مصطلح «الإضمارات التداولية» وهي المعطيات والافتراضات السابقة التي تفهم من سياق الكلام، أو يتضمنها التركيب، وتمثل الخلفية المعرفية لأطراف الحوار( )؛ ففي الملفوظين (1) و (2) مثلا:
(1) ................... أغلق النافذة.
(2) .................. لا تغلق النافذة.
في كلا الملفوظين خلفية «افتراض مسبق» مضمونها أن «النافذة مفتوحة»"( )، ومثاله في القرآن الكريم كما يفسره الشيخ الشعراوي؛ قوله تعالى: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾( )؛ تضمّن قولها أنها رأت منه قوة كبيرة وصفته بها أمام والدها وطلبت استئجاره، وأنه أمين لما رأت من سلوكه، وكشف قولها عن إعجابها بهاتين الخصلتين فيه، فكنّت عن الإعجاب بعرضها على أبيها وقد فهمت المرأة حاجته إلى الأجر لما رأت من حاله، وذكر الطبري أنه قال هذا القول: ﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾( ) وهو محتاج ... وعرض ذلك للمرأتين تعريضا لهما لعلهما أن تطعماه مما به من شدة الجوع( )، وتلك افتراضات المسبقة لا يصرّح بها المتكلمون، فهي تشكل خلفية التبليغ الضرورية لنجاح العملية التواصلية فالمتكلم يوجه "حديثه إلى السامع على أساس مما يفترض سلفا أنه معلوم له"( ).
3- الأقوال المضمرة (Les Sous-entendns)
وترتبط بوضعية الخطاب ومقامه، على عكس الافتراض المسبق الذي يحدد على أساس معطيات لغوية [فـ] "القول المضمر هو كتلة المعلومات التي يمكن للخطاب أن يحتويها، ولكن تحقيقها في الواقع يبقى رهن خصوصيات سياق الحديث"( )، ومثال ذلك قول القائل: إن السماء ممطرة؛ فالسامع لهذا الملفوظ قد يعتقد أن القائل أراد أن يدعوه إلى:
- المكوث في بيته.
- الإسراع إلى العمل حتى لا يفوته الموعد.
- الانتظار والتريث حتى يتوقف المطر.
- عدم نسيان مظلته عند الخروج.
وقائمة التأويلات مفتوحة مع تعدد السياقات والطبقات المقامية التي ينجز ضمنها الخطاب، والفرق بينه وبين الافتراض المسبق أن الأول وليد السياق الكلامي، والثاني وليد ملابسات الخطاب( ) .
4- الإستلزام الحواري (Conversationl Implicature).
ويعرف بالمعنى المستفاد من السياق؛ فهناك من يقصد ما يقول وآخر يقصد عكس ما يقول، وثالث يقصد أكثر مما يقول، فقد لاحظ الفيلسوف غريس أن التواصل الكلامي محكوم بمبدأ عام (مبدأ التعاون) وبمسلمات حوارية وبسلامة القول، وقبوله من قائله، وملاءمته مستوى الحوار، فبعض جمل اللغات الطبيعية في بعض المقامات، تدل على معنى غير معنى تركيبها اللفظي( )، ويتضح ذلك من خلال الحوار بين الأستاذين (أ) و (ب)( ):
الأستاذ (أ): هل الطالب (ج) مستعدا لمتابعة دراسته الجامعية.
الأستاذ (ب): إن الطالب (ج) لاعب كرة ممتاز.
لاحظ غرايس أننا إذا تأملنا الشحنة أو الكم الدلالي لإجابة الأستاذ (ب) وجدنا أنها تدل على معنيين اثنين في نفس الوقت، أحدهما حرفي وهو أن الطالب (ج) من لاعبي الكرة الممتازين، وآخر مستلزم وهو أن الطالب المذكور ليس مستعدا لمتابعة دراسته في الجامعة.
وقد قسّم غرايس الدلالة التركيبية إلى معاني صريحة ومعاني ضمنية؛ فالمعاني الصريحة تحتوي على محتوى قضوي وقوة إنجازية حرفية، وتشير المعاني الضمنية إلى معان عرفية اقتضائية ومعان حوارية استلزامية( )، ومنه في الإنجليزية (Breal the ice) المعنى المباشر (الحرفي) اكسر الثلج، والمعنى المجازي (مهد الأمور أو مهد الطريق لأمر ما) وبعض التراكيب لا يجوز أن تحمل على معناها الحرفي أو المباشر.
5- الفعل الكلامي (Speach act)
وهو كل ملفوظ ينهض على نظام شكلي دلالي إنجازي تأثيري ... فهو فعل يطمح إلى أن يكون فعلا تأثيريا، أي يطمح إلى أن يكون ذا تأثير في المخاطب، اجتماعيا أو مؤسساتيا، ومن ثم إنجاز شيء ما( )؛ فالمتكلم في الواقع "يخبر عن شيء أو يصرح تصريحا ما أو يأمر أو ينهى، أو يلتمس، أو يعد أو يشكر أو يعتذر أو يدعو أو يحمد الله..."( )؛ فالأفعال الكلامية مما قد لا يحكم عليها بصدق أو كذب.
وقد لاحظ أوستين أنه توجد ثلاث خصائص للفعل الكلامي الكامل:
1- إنّه فعل دال.
2- إنّه فعل إنجازي (أي: ينجز الأشياء والأفعال الاجتماعية بالكلمات).
3- إنّه فعل تأثيري (أي: يترك أثارا معينة في الواقع خصوصا إذا كان فعلا ناجحا).
ويقوم كل فعل كلامي على مفهوم القصدية التي غدت قيمة تداولية نصية حوارية، وأصبح مراعاة مفهومها العام وشبكتها المفاهيمية من أبرز المفاتيح المنهجية في الدراسات اللسانية النصية( ).
ملامح التداولية في بعض العلوم العربية
لعل أهم ما ميّز الدرس اللغوي العربي القديم أنه درس اللغة أثناء الاستعمال، فجعل العلماء العرب يتحروا الاستعمال قبل القاعدة، يقول السيوطي "إذا أتاك القياس إلى شيء ما ثم سمعت العرب قد نطقت فيه بشيء آخر على قياس غيره فدع ما كنت عليه"( )؛ فهم قد أولوا اهتماما بالغا بعناصر تمثل مبادئ رائدة في التفكير التداولي اليوم، من ذلك "منزلة المتكلم وعلاقته بالسامع، وحالة كل منهما النفسية والاجتماعية والأدبية (حركة، صمت، ظروف التواصل الزمانية والمكانية...) مما يؤكد أن النحاة والفلاسفة المسلمين والبلاغيين والمفكرين مارسوا المنهج التداولي قبل أن يصبح صيته بصفته فلسفة وعلما ورؤية واتجاها أمريكيا وأوروبيا، فقد وظف المنهج التداولي بوعي في تحليل الظواهر والعلاقات المتنوعة"( ).
وقد كان القرآن الكريم موضوع الدراسة، فتجاوزت الدراسة الوصف اللغوي للجملة المجردة إلى النص بوصفه خطابا متكاملا جمع فيه الدارسون بين قضايا المقام والمقال، وبين خصائص الجمل التصورية وخصائصها التداولية( ).
وقد ذهب جيفري ليتش إلى التسوية بين البلاغة (علم عربي قديم) والتداولية (علم غربي حديث)، واعتبر أن "البلاغة تداولية في صميمها؛ إذ إنها ممارسة الاتصال بين المتكلم والسامع"( )، فهما علمان يتفقان في دراسة "الوسائل اللغوية التي يستعملها المتكلم في عملية التواصل، وعوامل المقام المؤثرة في اختياره أدوات معينة، دون أخرى، للتعبير عن قصده، كالعلاقة بين الكلام وسياق الحال، وأثر العلاقة بين المتكلم والمخاطب على التكلم والمقاصد من الكلام"( ).
وتركزت أعمال البلاغيين العرب على وصف ما بين بنية اللغة و وظيفتها من ترابط باعتبارها "تشتمل على طائفة من الصيغ والأدوات التي يستعملها المتكلم للدلالة على القوة الإنجازية التي يريد تضمينها كلامه كالتقرير والاستفهام والتمني، والإخبار والنفي والإثبات والطلب والترجي، فكان على طوائف من العلماء العرب ولا سيما البلاغيين الدارسين لعلم المعاني أن يتعرضوا للقوى المتضمنة في القول، بغرض تحديد ما يقتضيه حال معين نزولا عند قاعدة «مطابقة الكلام لمقتضى الحال»"( ).
إضافة إلى ذلك تعنى البلاغة بجملة من القضايا التي تعد من صميم البحث التداولي نحو( ):
 صحة اللغة وصوابها، ويشمل الاهتمام بمستويات اللغة جميعا، والعناية بسلامة الألفاظ من العيوب.
 أن يكون المعنى الذي قصده المتكلم مطابقا ومنسجما مع الألفاظ والجمل التي استعملها المتلفظ في خطابه .
 أن يكون المتكلم صادقا في نفسه.
 معرفة أقدار السامعين ومنازلهم ومراعاة ذلك أثناء التلفظ بالخطاب.
 معرفة المقام (السياق) الذي قيل فيه الكلام.
 دراسة مجالات الترابط بين البنية والوظيفة.
 دراسة اللغة العربية بعدّها وسيلة للتواصل والتعبير عن الأغراض والمعاني، فهي ذات قيمة نفعية تعبيرية.
 اعتمادهم مبدأ « لكل مقام مقال».
 اهتمامهم بعناصر الخطاب: المتكلم وقصده، السامع وأحوله، الخطاب ونوعيته، الظروف المحيطة بكل ذلك.
وتعد هذه القضايا الآنفة الذكر من مباحث اللسانيات التداولية التي "تعنى بالشروط اللازمة لكي تكون الأقوال اللغوية مقبولة وناجحة وملائمة في الموقف التواصلي الذي يتحدث فيه المتكلم"( ).
وفي المجال النحوي نجد السكاكي يعرّف النّحو بأنه "معرفة كيفية التركيب فيما بين الكلم لتأدية أصل المعنى ... بمقاييس مستنبطة من كلام العرب"( )، وربط ابن هشام بين المعنى والمبنى في مسألة التحليل النحوي، فقال: "متى بني على ظاهر اللفظ ولم ينظر في موجب المعنى حصل الفساد"( )؛ فالنحاة العرب القدماء لم يتناولوا العبارة اللغوية مجردة عن عملية التواصل؛ بل "ميّزوا بين القدرة اللغوية والقدرة الخطَابية (التواصلية) وهي عندهم (القدرة الخطَابية) تجاوز معرفة أوضاع اللغة إلى معرفة تنظيم الخطاب وأحكام بنيته ... من خلال الكشف عن ملامح نظرية المعنى والوقوف على تطبيقاتها المختلفة"( )، وارتبط النحو بتغير الأساليب والأنماط وتتحكم فيه فنون القول وأساليب الكلام التي تسهم في تحقيق الوحدة الكلية والشمولية للنص القرآني، وتربط العلاقات النحوية بدلالاتها وإيحاءاتها المعنوية( )، وعليه فإن "التداولية بمقولاتها ومفاهيمها الأساسية كسياق الحال وغرض المتكلم، وإفادة المخاطب ... يمكن أن تكون أداة من أدوات قراءة التراث اللغوي العربي في شتى مناحيه ومفتاحا من مفاتيح فهمه بشرط كفايتها الوصفية والتفسيرية لدراسة ظواهر اللغة العربية"( )، ودارت جلّ أبحاث علماء العربية قديما حول عناصر تعد رئيسة اليوم في مجال البحث التداولي تمثلت في:
القصدية
وهي "الوظيفة والهدف من إنشاء النص، والنصوص مرتبطة بالقصد، ومن غيره لا يوجد قصد"( )؛ إذ إن كل فعل قولي أو نتاج لساني يفترض فيه وجود نية للتوصيل والإبلاغ، ومن هنا تتحدد أهمية القصد في عملية الإفهام، والتواصل التي لا تتحقق إلا بوقوع المخاطب على قصد المتكلم من خلال التشكيل اللغوي الذي يضم العناصر المنطوقة والقرائن التي تضم عناصر منطوقة وأخرى غير منطوقة( ).
وقد اعتمدت دلالة الألفاظ والعبارات على معانيها عند العلماء "على المواضعة وقصد المتكلم، والكلام قد يحصل بغير قصد فلا يدل، ومع القصد فيدل ويفيد"( )، ويعتبر مفهوم القصد من المفاهيم التي استأثرت بالنظرية التداولية التي تسعى لاكتشاف بواعث الكلام وآلياته النفسية والجسدية، وهو ما يساعد المتلقي (المخاطَب) على فهم الرسالة، ومن ثم يصبح توفر القصد أو النية مطلبا أساسيا وشرطا من شروط نجاح الفعل اللغوي( )، وقديما حذّر ابن القيم من إهمال قصد المخاطِب قائلا "فإياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه فتجني عليه"( )، واعتبر السكاكي أنه "إذا اندفع المتكلم في الكلام مخبرا لزم أن يكون قصده في حكمه بالمسند للمسند إليه في خبره ذاك إفادته للمخاطَب"( )، وصرّح السيوطي أن "صناعة النحو قد تكون فيها الألفاظ مطابقة للمعاني وقد تكون مخالفة لها إذا فهم السامع المراد فيقع الإسناد في اللفظ إلى شيء هو في المعنى شيء آخر إذا علم المخاطب غرض المتكلم وكانت الفائدة في كلا الحالين واحدة"( ).
لقد كان مراعاة غرض المتكلم من كلامه إحدى القرائن التداولية القوية التي حرص عليها نحاتنا القدماء لفهم الجمل والتراكيب ولاسيما آيات القرآن الكريم "فما يفهم من غير قصد من المتكلم لا يكون مدلولا للفظ عندهم، فإن الدلالة عندهم هي فهم المقصود لا فهم المعنى مطلقا بخلاف المنطقيين، فإنها عندهم فهم المعنى مطلقا، سواء أراده المتكلم أو لا، فظهر أن الدلالة تتوقف على الإرادة مطلقا، مطابقة كانت أو تضمنا أو التزاما"( ).
والجمل الخالية من القصد تنتجها القواعد، ولكنها لا تمثل على الرغم من ذلك كلام المتكلم وإنه ممّا يعاب على النظريات البنيوية عموما والتوليدية خصوصا أنها لا تولي عنايتها لهذا النوع من الجمل، لا لشيء إلا لأنها تمتلك الصحة القاعدية والصحة الدلالية وهما شرطان، وإن عدّا ضروريين في بناء الجملة، لكنّهما غير كافيين من غير قصد يسير بهما لتحديد الدلالة التي يريدها ويقصدها المتكلم( ).
الإفادة
يقول ابن جني:"كل لفظ استقل بنفسه وجنيت منه ثمرة معناه فهو كلام"( )، ويقول رضي الدين الأستراباذي:" الغرض من الكلام إفادة المخاطب مضمون الكلام" ( )؛ فإن لم تفده الجملة معنى مكتفيا بنفسه فلا تسمى كلاما( )، وعليه فالقصدية هي أداة وظيفية موجهة نحو إفهام المخاطب لأن نجاح العملية التواصلية يتطلب إفادة المخاطب بقصد ومراد المتكلم؛ والمتلقي شريك مع المتكلم في إنتاج المعنى والاستدلال على مقاصد المتكلم عن طريق تحري أنظمة النص التركيبية والدلالية والإيقاعية للنفاذ في دلالات النص الفكرية وإيحاءاته النفسية( ).
والإفادة هي حصول الفائدة لدى المخاطب من الخطاب ووصول الرسالة الإبلاغية إليه على الوجه الذي يغلب على الظن أن يكون هو مراد المتكلم وقصده، وهي إحدى أهم الأبعاد التداولية التي ناقشها النحاة العرب( )، من ذلك أنهم عرّفوا الكلام على أنه اللفظ المفيد فائدة يحسن السكوت عليها.
لقد ربط النحاة العرب بين مفهوم الإفادة وبين مقولة التعريف والتنكير؛ [ف]"كرهوا أن يقربوا باب لبس"( ) لئلا يقع تشويش على المخاطب في تلقي الرسالة الإبلاغية؛ وقد اشترط سيبويه أن يكون"المعروف – أي: المعيّن – هو المبدوء به، وعليه فإذا لم تحصل إفادة لدى المخاطب لم يجز الابتداء بالنكرة، أما إذا تحققت الإفادة في النكرة فجاز الإخبار عنها والإسناد إليها"( ).
وقد سنّ النحاة قواعد توجيهية في شكل قوانين عامة تدور حول الفائدة منها:
 الأصل في الكلام أن يوضع لفائدة( ) .
 حذف ما لم يجئ لمعنى أولى.
 متى أمكن أن يكون الكلام جملة واحدة كان أولى من جعله جملتين من غير فائدة.
 تأكيد ما لا يعرف لا فائدة فيه
 حمل الكلام على ما فيه فائدة أشبه بالحكمة من حمله على ما ليس فيه فائدة.
تسييق الوحدة اللغوية
حرص النحاة– منذ وقت مبكر– على الغوص واستكشاف المعاني؛ فاستثمروا ظواهر تداولية ميزت العملية التواصلية، كوضع المتكلم والمخاطب والغوص من الخطاب وكذا السياق بمكوناته المختلفة... فمتى كان هناك اضطراب دلالي، ومتى أشكلت اللفظة على عناصر الخطاب، كان السياق الملاذ والفيصل الذي يحتكم إليه في معظم الأحيان، إذ به يتجسد المعنى جليا، وتتحقق افتراضات دلالية دون أخرى في سبيل ضمان نجاح الرسالة الإبلاغية.
وقد استعان سيبويه على"توضيح معنى التركيب بوصف الظروف المرافقة للتلفظ بالقول كوصف الظواهر الصوتية أو تحديد العلاقة بين المتكلم والمخاطب، أو ذكر أسباب التلفظ بالقول، أو غير ذلك مما ذكره سيبويه عند دراسته لقضايا الحذف أو بيان المعاني المختلفة التي تدل عليها الصيغة الصرفية الواحدة بسبب اختلاف المقام"( )، والنحاة العرب كانوا على وعي متقدم بضرورة أن يتجاوز النص تحليل البنية الداخلية ليشمل بنية السياق والعلاقات القائمة بين البنيتين السطحية والعميقة بما يكون تماسكا دلاليا ملحوظا( )، لأن "الكلام إنما وضع للفائدة، والفائدة لا تجنى من الكلمة الواحدة، وإنما تجنى من الجمل ومدارج القول"( ).
وفي الدراسات الحديثة، وحسب فيرث، فإن المعنى لا ينكشف إلا من خلال تسييق الوحدة اللغوية بوضعها في سياقات مختلفة تحصر مجال التأويلات الممكنة، وتدعم التأويل المقصود( )، وقديما تنبه اللغويون العرب إلى أن "ظاهرة العبارة القرآنية ليس هو كل شيء في تحديد معناها، وأن معاني النصوص لا تتقرر من داخلها ووفقا لما تمليه لغتها المباشرة وحدها، وإنما تتحكم في تحديد النص القرآني كثير من الملابسات والقرائن، منها: المأثور من التفسير، وأسباب النزول، والسياق اللفظي، والقرينة العقلية ..."( ) إلى غير ذلك مما يكسب الألفاظ دلالات جديدة غير معهودة؛ كما أدركوا أن ثمة عناصر غير لغوية لها تأثير في تحديد المعنى، بل هي جزء من أجزاء معنى الكلام، ومنها: شخصية المتكلم، وشخصية السامع، وتكوينهما الثقافي، وشخصيات من يشهد الكلام – إن وجدوا – وعلاقتهم بالموقف اللغوي ... ( )، وهو ما يقترب إلى حد بعيد مع ما حدّده التداوليون للسياق من خصائص، صنّفها هايمس كالآتي:
 المرسل (المتكلم).
 المتلقي.
 الحضور.
 الموضوع.
 المقام (ويعني به زمان ومكان الحدث التواصلي، وكذلك العلاقات الفيزيائية بين المتفاعلين بالنظر إلى الإشارات والإيماءات، وتعبيرات الوجه).
 النظام (اللغة - اللهجة) والغرض ... ( )
فاللغة بقوانين ملفوظاتها مدعوة لكي تمتلك الصحة الدلالية والتداولية على مستوى الكلام، وأن ترتبط بعناصر خارجة عنها، لإنتاج كلام يحمل معنى يريد المتكلم أن يعنيه من جهة، وأن يعبر به عن موقف محدد في إطار سياق محدّد( )، ويذهب الدكتور طه عبد الرحمان إلى أن "القول الطبيعي مجردا عن مقامه تصير معامله كثيرة، ولا يتعين واحد منها إلا بتعيين المقام، حتى إنه يصبح الإدعاء بأن الأصل في القول الطبيعي أن تتعدد معانيه إلى أن يثبت بالدليل خلاف ذلك، وإذا كان كذلك فقد وجب أن تكون صوره الممكنة متعددة، وألا ينحصر تقويمها في حتمية واحدة"( ).
نتائج
-التداولية مصطلح مرتبط بحقيقة الترجمة من اللغة الأجنبية إلى اللغة العربية؛ إذ ليس له وجود اصطلاحي في المدونة العربية بمفهومه الحديث.
-نشأت التداولية ضمن سياق ثقافي غربي مرتبطا بعلم اللسانيات كفرع بحثي داخل دراسة علاقة الأدلة بمتكلميها.
-التداولية إجراء يبحث في نية التّواصل، وبالتالي إعادة توصيف حقيقة الكلام الذي ينشأ من وإلى المتحدث.
- يمكن أن يجري البحث التداولي ضمن علم المقاصد إن لم يكن جزءا منه حتميا داخل إطار البحث الفقهي والبحث اللغوي معا.

الهوامش:

مدير المنتدى
Admin

عدد المساهمات : 166
تاريخ التسجيل : 18/02/2012
الموقع : rihabalkalimah.cultureforum.net

https://ichkalat.forumalgerie.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى