الأسطورة الأفريقية ... خصائص ومميزات
صفحة 1 من اصل 1
الأسطورة الأفريقية ... خصائص ومميزات
الأسطورة الأفريقية ... خصائص ومميزات
أ.وردة لواتي
المركز الجامعي لتامنغست
ملخص:
[إن المفهوم المائع للأسطورة جعل الإمساك بحقيقتها والوقوف على مفهوم موحد لها أمرا صعبا، كما أنّ ارتباط ظهورها بغابر الزمان، والبدايات الأولى والآلهة والأبطال الخوارق منحها نوعا من الضبابية واللامعقول نتج عنه كم هائل من الآراء والمجالات التي تجاذبتها، فمنهم من سلم بها وصنفها ونسبها ضمن معارف وعلوم كما هو الحال مع علماء الانثروبولوجيا الذين اعتبروها تاريخا، أو مادة تاريخية توثق لحقيقة قائمة بذاتها ينبغي علينا العودة إليها إذا ما أردنا الوقوف على حقائق تاريخية في فترة إنسانية معينة ارتبطت بأمة من الأمم، خصوصا إذا تعلق الأمر بالأسطورة الإفريقية التي تميزت بميزات خاصة سنحاول الوقوف عليها من خلال النموذج المتمثل في أسطورة العرش المقدس.]
Resumé :
] La notion fluide de mythe rendant difficile à se tenir sur un concept commun. De plus, son apparition qui renvoie aux premiers temps et les débuts des dieux et les héros extraordinaires l’a rendu flou et irrationnel. Tout cela nous a amené de diverses opinions. Certains d'entre eux l’ont acceptée et l’ont classée parmi des connaissances et des sciences, comme les anthropologues qui l’ont considérée comme histoire ou faits historiques d’une réalité indispensable tel est le cas de l’histoire africaine et ses caractéristiques, l’histoire du royaume sacré comme exemple.[
مقدمة:
لقيت الأساطير في الدراسات الحديثة أهمية بالغة وسلطت الأضواء عليها بشكل لافت للانتباه على الرغم من وجودها المتجذر في القدم، ولعل هذا الاهتمام يعود الفضل فيه لعدة عوامل تكاثفت لتزيح اللثام عن هذا الكنز الإنساني المدفون، وإن كان المقام لا يتسع للخوض في هذه العوامل والظروف، فإن الأساطير تعد بحق مصدرا خصبا من المصادر الهامة في دراسة المجتمعات بكل ما تزخر به من ثقافات، وتسهم في تحليل نظرتها للكون والمخلوقات والإنسان.
فمنذ ما يزيد عن نصف القرن ظهرت دراسات جادة تهتم بالأساطير اهتماما لم يسبقها إليها أحد قبلها، فهذه الدراسات اختلفت عن سابقتها في كونها تعاملت مع الأسطورة تعاملا جديدا يجعل منها تاريخا حقيقا وواقعا ملموسا، بدل المفهوم السابق الذي يرى فيها مجرد خيال يتصل بأحلام الإنسان، فالاستعمال الشائع للأسطورة Mythe جعل معناه يحيد عن كل ما هو حقيقي ليرتبط بالتخيل Fiction، والوهم illusion، بينما الدراسات الحديثة منحت الأسطورة روحا جديدة، وبثت فيها مفهوما مختلفا حيث ربطتها بالتاريخ والواقع.
وإن كان الباحثون قد اتفقوا على القيمة العالية للأساطير في مجال المعرفة الإنسانية وتراث الشعوب، فإن الاتفاق غير وارد حول أصل الأساطير ونشأتها وإذا كانت من نتاج الخيال البشري الخلاق، وهي مجرد وهم ولا علاقة تربطها بالواقع والحقيقة، أم انعكاس للحقائق وتفسيرا جلي لإبهام الظواهر الطبيعية وترجمة دقيقة للحوادث التاريخية الحاصلة كان الغرض منها نقل التجارب الأولية.
وفي محاولة للوصول إلى أرضية صلبة يمكن الوقوف فيها على مقاربة لهذا الطرح، فإنه كان من الواجب علينا طرح الإشكالية التالية: ما هو سرّ علاقة الأسطورة الأفريقية بالخيال والتاريخ؟
-مفهوم الأسطورة:
إن مصطلح الأسطورة في حد ذاته يطرح إشكالات عديدة، ومعانيه متعددة، ولهذا وجب الوقوف عنده، وتفحص معانيه، كما تختلف وجهات النظر حول المصطلح نفسه من مفكر إلى آخر، ومن مجال بحث إلى آخر...
أ-مفهوم الأسطورة لغة:
ورد في لسان العرب في باب سطر:<<سطر: السَّطْرُ، الصف من الكتاب، والشَّجر، والنَّخل ونحوها، والجمع من كل ذلك أسْطُرٌ وأَسْطَارٌ وأسَاطِيرُ.والسَّطْرُ: الخط والكتابة، قال الزّجاج في قوله تعالى: "وقالوا أَسَاطيرٌ الأولين" خبر لابتداء محذوف، ومعناه سطره الأولون وواحد الأسَاطِير أٌسطٌورَة، كما قالوا أحدوثة وأحاديث والأسَاطيرٌ:الأباطيل وسَطَرَها:ألفها.الأسَاطيرٌ: أحاديث لا نظام لها واحدتها إِسْطَار وإِسْطَارَة بالكسر وأَسْطِير وأَسْطِيرَة وأُسطُورة بالضم>> ، وورد ت في القرآن الكريم جمعا ولم ترد لفظة أسطورة مفردة في آية. <<وعند ابن كثير أَسَاطِير الأولين: كتب الأولين >> .
ويتضح من خلال هذه التعاريف أنّ كلمة <<أُسطُورة >>ليس لها مدلولاً واحدً، ولا معنى حقيقيا وإذا أمكننا أن نقارب المعاني، فالأساطير هي الأحاديث التي لا نظام لها، وهي كذلك الأباطيل، وهي الحكاية التي لا أصل لها، وهي الأحاديث العجيبة.
وفسرها الزمخشري في كشافه << بالخرافات والأكاذيب >> .
وحتى تتضح الصورة أكثر وجب أن نعرج على معناها في اللغات والمعاجم الأجنبية فنجدها فياللغات الهندوأوربية Myth و هي مشتقة من الأصل اليوناني Mythos<<وتعني حكاية شعبية أو أدبية تضم كائنات خارقة وإجراءات خيالية التي تنقل الأحداث التاريخية >> ، وهي تعني كذلك <<الكلمة المنطوقة، ثم تحدد استعمالها بعد ذلك أصبحت تعني الحكاية التي تختص بالآلهة وأفعالها ومغامراتها. >> .
وكلمة أسطورة لها شبه قريب جدا من كلمة هستوريا Historiaباليونانية ولهما دلالة على القصة أو الرواية أو التاريخ كما تدلان كذلك على ما كتبه الأوائل من روايات وحكايات وهي غالبا تكون أحداث خارقة للعادة وأباطيل. وقد ظهر فرع من فروع المعرفة يعنى بدراسة وتفسير الأساطير <<دعي بالميثولوجيا Mytho-Logy، والشق الأول من الكلمة(Mytho)مأخوذ من الكلمة اليونانية (Mutho) التي تعني حكاية تقليدية عن الآلهة والأبطال أما الشق الثاني (Logy) فيعني علم >> .
ولهذا وجب التمييز بين مصطلح الأسطورة (Myth)، مصطلح الميثولوجيا(Mytho-Logy). وإذا عدنا إلى التاريخ فإننا نجد أن <<أفلاطون أول من استعمل التعبير Muthologia، بمعنى " القول عن " أو " الأخبار عن" أو بمعنى القصص >> .
وإذا عدنا إلى لغات الشرق القديم فإننا نجد صعوبة في تمييز مصطلح خاص بالأسطورة ومن هنا <<تبدأ المشكلة... من أن القدماء أنفسهم لم يعملوا على تمييز النص الأسطوري عن غيره، ولهذا دعوه باسم خاص يساعدنا على تمييزه بوضوح بين ركام ما تركوه لنا من حكايات وأناشيد وصلوات وما إليها >> .
ب - مفهوم الأسطورة اصطلاحا :
إذا كان مصطلح الأسطورة بمفهومه اللغوي يتعدد ويتشعب، فإنه بمفهومه الاصطلاحي أكثر مرونة وزئبقية ويصعب القبض عليه، وهذا طبعا يرجع لكون الأسطورة ظاهرة ثقافية وأدبية غاية في التعقيد.
فقد جاء عن الباحث والفيلسوف مرسيا ايلياد*في كتاب الميثولوجيا السورية تعريف للأسطورة مفادها أن <<الميتوس Mythos وهي عند الإغريق تعني حكاية، والأسطورة تروي قصة مقدسة وحادثا وقع في زمن البدء سواء أكان ما أتى إلى الوجود هو الكون أو جزء منه، ولا يروي الميتوس إلا ما حدث فعلا ويفسر ما هو كائن وموجود فعلا، لذلك فهو قصة حقيقية >> .
إذن فهي عند مارسيا إلياد تدل على أنها <<أحداثا تاريخية حدثت في الزمن السحيق فالأسطورة تروي تاريخا مقدسا، تروي حدثا جرى في الزمن البدائي، الزمن الخيالي هو زمن البدايات، فالأسطورة تحكي لنا كيف جاءت حقيقة ما إلى الوجود بفضل مآثر اجترحتها الكائنات العليا، لا فرق بين أن تكون هذه الحقيقة كلية كالكون أو جزئية كأن تكون جزيرة ونوعا من النبات، أو مسلكا يسلكه الإنسان أو مؤسسة >> .
حيث يرى مارسيا إلياد * أن الأسطورة تاريخ مقدس يروى عن الأصول والبدايات الأولى لكنها لا تتخذ من هذه الأصول والبدايات موقفا ذهنيا وصفيا، بقدر ما تسعى إلى استرجاع هذه الأزمنة المقدسة وذلك عبر الذاكرة الجماعية.
فالأسطورة في رأيه تبين لنا حقيقة كائنات عليا (آلهة) وأفعالها التي قامت بها عبر الزمن السحيق. فهي إذا تروي لنا حقائق مقدسة عن أعمال كائنات مقدسة ترتبط بها الأسطورة ويمكن القول أنهيعتبرها رؤية واقعية تعبر عن ثقافة الإنسان البدائي، وتفاعله مع واقعهوقد ربطها بالإنسان عبر التاريخ، حيث اعتبرها مدونة من صنع تلك العصور لوقائع وأحداث لمجموعات إنسانية. ومن هنا تأتي أهمية ميثولوجيا التكوين لدى الشعوب، وقداسة أسطورة الخلق في النظم الميثولوجية.
ويقول برونوسلاف مالينوفيسكي محاولا أن يعطي تعريفا للأسطورة، وذلك من خلال مميزاتها ودورها في المجتمعات البدائية: <<ليست الأسطورة تفسيرا يراد منه تلبية فضول علمي، بل هي حكاية تعيد الحياة إلى حقيقة أصلية، وتستجيب لحاجة دينية عميقة، تطلعات أخلاقية وواجبات، وأوامرعلى المستوى الاجتماعي، بل وحتى المتطلبات عمليةفي الحضارات البدائية، تملأ الأسطورة وظيفة لا غنى عنها تفسر وتبرر وتقنن المعتقدات تحامي عن المبادئ الأخلاقية وتفرضها، تضمن فعالية الاحتفالات الطقسية وتنتج قواعد عملية لاستعمال الإنسان >> .
فمالينوفسكي لا يرى في الأسطورة مجرد تفسير بوقائع خيالية، بل تبعث الحياة في حقيقة قائمة بذاتها تمكن الإنسان من كشف كنه الممارسات الطقوسية، التي قام بها الإنسان البدائي والتي يؤديها استجابة لأخلاقيات وواجبات معينة كانت سائدة لدى شعوب معينة، وهي إشارة إلى الوظيفة المقدسة للأسطورة، وقد اعتبر<<الدور الذي تلعبه الأساطير ضروريا؛ لأنها بكل بساطة تعبر عن المعتقد،كونها بمثابة التشريع الأول والحقيقي للديانة البدائية>> ، وهنا يلتقي مع مارسيا في الطرح ذاته.
في حين نجد كلود ليفي شتراوس قد دافع عن الشعوب البدائية، حيث اعتبر الأسطورة بمثابة تاريخ مدون، وأن هذه الشعوب المزعومة بلا تاريخ تعرف أفضل منا كيف تتعامل مع المشهد بطريقة تاريخية.
في حين نجد سيغموند فرويد في كتابه (تفسير الأحلام)الذي نشر عام 1905يرى <<تشابها في آلية العمل بين الحلم والأسطورة، وتشابه الرموز لكليهما، فهما نتاج العمليات اللاشعورية، النفسية ففي الأسطورة كما في الحلم نجد الأحداث تقع حرة خارج قيود وحدود الزمان والمكان، فالبطل في الأسطورة كما هي حال صاحب الحلم، يخضع لتحولات سحرية ويقوم بأفعال خارقة، هي انعكاس لرغبات وأمان مكبوتة...>> .
فيعتبر فرويد أن وجود الأسطورة كان بدافع براغماتي محض، وهوا لسيطرة على الطبيعة وإخضاعها، مما استدعى لجوئه إلى السحر والشعوذة من أجل تعويض النقص الذي يحسه نتيجة سطو الطبيعة، وبهذا ظهر التفكير النفسي لدى الفرد البدائي. كما أشار فرويد إلى الشبه الموجود بينالأسطورة والحلم من حيث الرمو، هذه الأخيرة تظهر في الأحلام لتعبر عن دوافع غريزية، ولهذا فقد عبر عنها بشخصيات أسطورية، وظهرت قناعته هذه من خلال كتابه (الطوطم والطابو) هذه الشخصيات تمثلت في أوديب، والكترا.
ومن هنا يمكن القول أن سيغموند فرويد قد ركز على جانب معين في مقاربته للأسطورة وهو الجنس والرغبات المكبوتة، كما اتخذ من الأسطورة سبيلا للوصول إلى كنه المكبوتات العميقة في اللاشعور. ونتيجة حديثه عن العلاقة بين اللغة وتجليات اللاوعي في الحلم والإبداع فإنه يتعرض لنقد شارل مورون، حيث يرى هذا الأخير أنه <<لابد من البحث في المؤلفات الإبداعية المتعاقبة لكاتب عن تلك الصور أو الاستعارات المتكررة التي تخلق الطابع المميز لمجموع تلك الأعمال. لقد سمي هذه الصور المهيمنة على مجموع أعمال كاتب واحد بالأسطورة الشخصية Le Mythe Personnel>> ، بمعنى أنه توجهه إلى خصخصة الأسطورة وربطها بالحياة الشخصية للكاتب.
وإذا ما عرجنا على الأسطورة لدى فراس السواح لوجدناها <<حكاية تقليدية تلعب كائنات الماورائية أدوارها الرئيسية >> ، فهو يعتبرها حكاية ضاربة في القدم تتعلق بالإنسان البدائي، تكون فيها كائنات خارقة لا يمكن إدراك أبطالها الرئيسة، فعليها تنبني الأسطورة بكل زخمها.
فهي تنتقل من جيل إلى جيل مشافهة، وهذا ما يجعلها ذات صبغة جماعية، كما تحفظ الموروث الجمعي بكل زخمه، من قيم وعادات وتقاليد وطقوس، وأخلاق ... فتكون بذلك جسر العبور إلى الجيل اللاحق وأداة طيّعة للتأثير على النفوس، فتكون بذلك الأسطورة<<حكاية مقدسة، يلعب أدوارها الآلهة وأنصاف الآلهة، أحداثها ليست مصنوعة أو متخيلة بل وقائع حصلت في الأزمنة الأولى المقدسة، أنها سجل أفعال الآلهة، تلك الأفعال التي أخرجت الكون من لجة العماء، ووطدت نظام كل شيء قائم، ووضعت صيغة أولى لكل الأمور الجارية في عالم البشر. فهي معتقد راسخ، الكفر به فقدان الفرد لكل القيم التي تشده إلى جماعته وثقافته، وفقدان المعنى في هذه الحياة >> .
من خلال ما تقدم من تعاريف للأسطورة يكاد يتضح لنا ذلك الاتجاه الذي سلكه بعض العلماء والباحثون وهم يكونون رأيهم الخاص حول علاقة الأسطورة بالخيال والتاريخ.
2- الأسطورة الأفريقية وميزاتها:
لوعدنا إلى خصائص الأسطورة عامة لأمكننا القول أنها تتألف من رواية أفعال قامت بها كائنات عليا، نجم عن هذه الرواية قصة حقيقية مقدسة، كونها ترتبط بحقائق قامت بها كائنات عليا مقدسة، وهي تتعلق -كما هو متعارف عليه -بالخلق، خلق الكون والإنسان، والكائنات الأخرى... وأصل الأشياء ومنشؤها، والطقوس التي بالإمكان أداؤها من أجل الوصول إلى مبتغى معين .
هذه الميزات والخصائص هي متواجدة في معظم أساطير الشعوب المختلفة كالبابلية، والإغريقية، والمصرية ... فلا تكاد تخلو من جميع هذه الميزات، لكن لو عرجنا على الأسطورة الأفريقية وتلمسناها بتمعن لتبين لنا أمر في غاية الأهمية يثير فضولنا، فهي تنفرد بميزة خاصة بها تمثل في السحر الذي لا مثيل له، والذي شاع وتجذر في المجتمع الأفريقي البدائي وتغلل بكل قوة في تفاصيل الحياة والممات.
إن السحر الكامن في الأساطير الأفريقية هو انعكاس طبيعي للسحر في أفريقيا، الذي يتصف بطابع خاص وقد عرف بنوعيه (السحر والشعوذة) فالسحر<<هو عمل التعويذات لمساعدة الإنسان في مروره بضائقة ما منها: عدم الإنجاب والمرض، وعدم التوافق الأسري، أو نيل شيء عزيز المنال، أو عودة الغائب، أو حفظ المولود، أو سعة الرزق، وغير ذلك من أمور لا تضر بأحد >> .
في حين نجد أن الشعوذة تختلف عنه في كونها <<طقوس شيطانية الغرض منها: إيقاع الأذى بالآخرين بدافع الحقد والحسد، أو الكراهية والغبن، أو محاولة تغيير قدر إلهي >> .من هنا يتبين للوهلة الأولى أن الإنسان الأفريقي البدائي يميز بين نوعين من السحر(السحر النافع والسحر الضار) وقد ربط بين هذا الأخير وبين المرأة ، حيث وصمها بالشعوذة والأذى كونها الوحيدة - حسب اعتقاده - التي تلجأ لمثل هذه الممارسات المشينة التي ينبذها المجتمع، ويرى فيها عيبا وعارا يلحق بممارِسته، ويتضح ذلك من خلال الأساطير التي توثق لهذا الرأي، حيث لا نكاد نلمس أسطورة واحدة تلحق الشعوذة بالرجل، ومن الأساطير التي تدين المرأة نجد أسطورة الرجل والزوجات الثلاث ، وأسطورة الزوجة الساحرة.
في حين ارتبط السحر الإيجابي(النافع) بالرجل-الطبيب<<فثمة أناس على درجة عالية من الذكاء والدهاء، والوعي بمخاوف الناس وحاجتهم إلى من يبث شيئا من الطمأنينة في نفوسهم، أو يساعدهم على تحقيق ما يعجزون عن تحقيقه بما هو متاح لديهم من قدرات أو وسائل، أو العجز عن أخذ حقوقهم ممن هم أقوى منهم، أو رد ظلمهم ...ويدعي هؤلاء الأذكياء القدرة على السحر ويتخذونه مهنة تجعلهم يتمتعون بقدرات خاصة، ويبثون الرهبة منهم في نفوس الناس >> .
فطبيب القبيلة ارتبط ارتباطا وثيقا بالسحر الإيجابي الذي يقدم به العون لأفراد قبيلته في حالة السلم والحرب على حد سواء، فهو المتحكم في مقدرات الأهالي وأقدارهم، وفي حياتهم ومماتهم ... ولا يمكنهم خطو خطوة واحدة دون استشارته والاستعانة به، وفي كثير من الأساطير نجد أنه ارتقى إلى مرتبة الملك أو الزعيم، فالقوة لتي يمتلكها الساحر - الطبيب المتمرس بفنون السحر هي قوة لا محدودة بمجرد تلفظه بتعاويذه السحرية الخاصة يتمكن من تغيير الأمور لصالحه، فيعد الحياة للموتى، ويطرد الأرواح الشريرة، ويوقف الكوارث... فقتواه خارقة وأكيدة.
والسحر في الأساطير الأفريقية ليس منوطا بالبشر فحسب، بل تعداه ليمتد إلى الآلهة التي لا تنفك وتستعين به في لحظات خلقها للكون والمخلوقات، فالإله في أسطورة ألاتنغانا وهي أسطورة حول خلق الأرض والناس لدى شعب كونو التي دونها الكاتب (ب.خولاس) احتوت على عبارة شديدة الوضوح تقول أنه <<من أجل أن يجد مكانا لسكناه خلق بواسطة السحر بحرا هائلا من الأقذار...>> .وقد اعتبر ليفي شتراوس السحر عند البدائي <<كالظل المتحرك للجسم >> فالإنسان البدائي لا يمكنه التخلي عنه تحت أي طارئ، تماما كالماء والهواء الذي يتنفسه.
إن الإيمان بالسحر والقوى التي تجعل السحر ممكنا هو سابق عن الإيمان بوجود الآلهة لدى الإنسان الأفريقي، فالممارسات السحرية ظهرت في وقت لم يكن فيه الإنسان البدائي يعرف للآلهة أسماء ولا شكلا (التشخيص)، وقد كان الفيلسوف الألماني هيجل يدعي في فرضيته بأن <<عصرا ساد فيه السحر قد سبق عصر الدين في تاريخ الحضارة الإنسانية >> وقد ايده في هذا الطرح جيمس فريزر بنظريته حول أصل الدين وعلاقته بالسحر، حيث اعتبر أن الإنسان البدائي مر عليه عهد اعتقد فيه أنه بإمكانه التحكم بقوى الطبيعة من خلال تمكنه من السحر، لكنه اكتشف بعد حين قصور ممارساته، وأن هناك قوى روحانية فائقة التقدير فتحول لعبادتها واسترضائها، وبذلك ظهر الدين.
هذه النظرية وإن كانت تنطبق على شعوب عديدة فإنها تشير إلى حقيقة بعيدة عن المجتمع الأفريقي البدائي، الذي لم يستطع الفصل بين السحر والدين، وبين السحر وحياته الاجتماعية والنفسية والروحية، فكانت أساطيره انعكاس لهذا الإيمان الراسخ ولهذا تعددت الأساطير التي تحمل بين طياتها هذا الإيمان وتنوعت من بلد أفريقي إلى آخر فكانت تتراوح بين السحر والمسوخ (تناسخ الأرواح)، هذا الأخير يعكس اعتقادهم بانتقال الأرواح من مكان لآخر ومن شخص لآخر، ومنها أسطورة من ساحل العاج عن <<امرأة ساحرة اقتربت منيتها فغادرت روحها الشريرة جسدها وتقمصت بومة بينما ظل جسدها في مرقديه، وصادف البومة صياد ماهر فتمكن منها وقتلها فمات الجسد القابع في الفراش>> .
إن الأساطير الأفريقية تتمتع بخصوصية تجعلها تتميز عن غيرها من الأساطير، كون الإنسان الأفريقي معروف بطابعه الخاص الذي صنع له التمييز عن غيره من بني البشر، والمتذوق والدارس لهذه الأساطير يلمح لا محالة هذا الاختلاف الذي يحيطه نوع من الغموض والغرابة.
3-أسطورة العرش المقدس -هبة السماء أنموذجا:
باعتبار الأسطورة تنبني على الحدث التاريخي فإنه يتوجب على الدارس أن يستبعد كل ما هو محسن بديعي، حتى نستخلص منها المادة التاريخية المكتنزة بداخلها، فهذه الأسطورة العرش المقدس - هبة السماء تطرح من الوهلة الأولى علامات استفهام عريضة منها أي عرش هذا، وما سر قدسيته ؟ وهل هو مجرد وهم صنعه خيال الإنسان الأفريقي البدائي؟ أم أنه حقيقة قائمة بذاتها تمتد في تاريخ الشعوب الأفريقية البدائية.
كل هذه التساؤلات المشروعة سنتحرر الإجابة عنها من خلال اقتحام خبايا هذه الأسطورة، فأسطورة العرش المقدس - هبة السماء عرفت لدى قبائل أشانتي بأفريقيا، حيث تقول أن عرشا ملكيا مقدسا كان يملكه الملك أوسي توتو الذي هزم من طرف ملك قبيلة مجاورة عرف بظلمه وجبروته، ما جعل أنوتشي الذي يملك قوى السحر والطب يسعى لخلعه واسترداد العرش، فما كان منه إلا أن استعان بقواه السحرية الخارقة ليستنهض همم أهل قبيلته بما فيهم الملك المهزوم، وذلك من خلال ممارسات سحرية معينة، فتمكنوا من هزيمة الملك الظالم واستعادة كرسي العرش، وقدموا له حلي زوجة الملك الظالم المهزوم على شكل قربان فزينوه به نظرا لاعتقادهم بأنه هبط عليهم من السماء، ووهبهم القوة والسلطان.
قد يتبادر للأذهان أن هذه الأسطورة لا علاقة لها بالواقع والتاريخ وأنها مجرد أوهام وخيال اجترحتها خيالات الإنسان الأفريقي البدائي لغاية من الغايات، لكن الواقع والتاريخ أثبت عكس ذلك فهذه الأسطورة لها علاقة وثيقة بالتاريخ قبائل أشانتي* التي تقطن بغرب أفريقيا (غانا)، ويذكر أنه عندما تم غزو هذه القبائل من طرف البريطانيين قاموا بالاستلاء على هذا الكرسي ما اضطر القبائل للخضوع، والركون إلى الاستسلام خوفا على الكرسي من أن يصبه أذى يؤدي إلى تحطيمه، لكنهم بمجرد أن علموا بخبر محاولة البريطانيين الجلوس عليه انتفضت القبائل وتجندت لمحاربتهم، وقد علم فيما بعد أن العرش الذهبي اختفى ولم يعرف له مكانا ما جعل هذه القبائل تحيك حوله أساطير تكرس اختفاء الكرسي من طرف أرواح الأسلاف، الذين قاموا بإخفائه حماية له وحفاظا عليه .
وتذكر الروايات أن الكرسي أعيد إلى القصر الملكي في كوماسي رمز الأسلاف المقدسين لدى قبائل أشانتي، كما تشير الرويات أنه سنة 1922 أرسلت ملكة أشانتي كرسي مصنوعا من الفضة إلى أميرة بريطانيا في حفل زفافها ومعها رسالة تخبرها فيها أن حبهم وإخلاصهم مكرس للكرسي المطلي بالفضة تماما كما هو الحال بارتباط ارواحهم بمقعدهم المقدس. وقد عرفت بعض قبائل أفريقيا حروبا طاحنة مماثلة راح ضحية العديد من الأرواح كان السبب فيها دائما انتفاضتها ورفضها لتدنيس ما هو مقدس لديهم ، خاصة وأن أساطيرهم توثق ذلك، فما يؤكد هذا الطرح هو ما ثبت عن الشعوب الأفريقية البدائية خاصة في غرب أفريقيا بعض الممارسات الطقوسية المتعلقة بكراسي الأسلاف*، التي يحتفظون بها في المعابد وقد كانت تقدم لها القرابين في طقوس احتفالية مهيبة تتكرر كل سنة، فعند قبيلة الأكان مهرجان خاص بكرسي الأسلاف يسمنونه Adae فاعتقادهم راسخ بأن موت الجد على الكرسي يكسبه مكانة مرموقة ضمن هيكل الأسلاف، كما يقومون بتسويد الكرسي (تلوينه بلون أسود خاص) ثم يوضع ضمن بيت الكراسي ليتم الاحتفال به في السنة القادمة.
فأسطورة العرش المقدس - هبة السماء إذن ضمنت بداخلها جوانب تاريخية ارتبطت بواقع حقيقي، فهي تحوي مادة تاريخية، وتروي حكاية الملك الذي قهر من طرف ملك آخر، لكن بفضل ممارسات الساحر- الطبيب البطولية والمآثر النافعة، الجديرة بالإشادة استطاع العرش المقدس أن يعود إلى أصحابه الأحقين به، فهو بمثابة الكنز الموروث عن السلف المقدس، وبالتالي فشخصية كل من الساحر والملك ليستا خيال وزيف، وإنما حقيقة وواقع، خاصة الساحر- الطبيب فهي شخصية أوتيت أسرار المخلوقات وعناصر الطبيعة، وتكشفت لها بعض الخبايا المتعلقة بالعوالم العليا، وبهذا فهو يحظى بمكانة عليا بين أفراد قبيلته وفي المجتمع عامة.
وإلى جانب هذه الأسطورة الأنموذج هناك أساطير عديدة ومختلفة توثق للرأي القائل بالقيمة التاريخية للأسطورة، ومنها على سبيل الذكر لا الحصر أسطورة جبال كيرنياغا من كينيا والتي عرفت بعد دخول الأوربيين إليها بجبال كليمنجارو، فهي أسطورة عند قبائل كيكويو تروي كيف كانت مسيرة السلف منذ الخلق الأول الذي بدأ بثلاثة رجال وهم كامبا، وماساي، وكيكويو حتى صاروا قبائل وعشائر وبطون، ومنهم قبيلة كيكويو التي كانت فيها المرأة تحظى بمكانة مرموقة، ما أدى إلى ظهور المجتمع الأمومي في بداية عهد المجتمعات الأفريقية.
خاتمة:
لعل ما ينبغي التأكيد عليه هو القيمة العالية للأسطورة التي خطفت الأضواء وحيرت الأذهان، وشغلت الأفكار وقضّت مضاجع العلماء والمفكرين في شتى المجالات، ولعل ما يدعم هذا الطرح هو صعوبة الإمساك بمفهوم يقترب من الاجماع ولو بنسبة ما، فهي تأبى أن تمكنه من ذلك من خلال ميوعة مفهومها، وربما هذا ما يزيد العماء إصرارا للوقوف على كنهها.
فالأسطورة تجاذبتها مجالات عدة، وعلوم و معارف شتى، وكل منها ينظر إليها من وجهة خاصة، وقد يقرّ بها و بما جاءت به، أو يرفضها ويستهجنها، وهذا هو الحاصل مع علماء الأنثروبولوجيا الذين انقسموا بين من يرى فيها مادة تاريخية خصبة استمدت حقائقها من وقائع التاريخ الغابر المتعلق بالبدايات، وبالتالي يمكن الاعتماد عليها في عملية التأريخ لأنها تعد مصدر مصادره، بين من يستهجن الأمر ويعدها مجرد خيال ووهم إنساني عكس تعلق النفس البشرية بالغيبيات والأبطال الخوارق، وارتباطها بكل ما هو روحاني مجهول لتعوض النقص والضعف الجسدي الذي يعانيه البشر.
هذا وبالرغم من وجود مميزات عامة تشترك فيها الأسطورة لدى كثير من الشعوب، كالأسطورة الإغريقية والبابلية والهندية والصينية والمصرية... إلا أننا نلمس ذلك التميز الملحوظ لدى الأسطورة الأفريقية، التي تنبض بالممارسات السحرية والطقوسية، حيث لا نلبث نتصفح أسطورة أفريقية إلا وكان عنصر السحر ماثلا فيها بكل قوة، فنجد أنها تنبني على السحر سواء تعلق بالبشر كممارسة طقوسية سحرية دنيا، أو تعلق بالآلهة من خلال أعمال وممارسات عليا.
ومع كل هذا فإنه بالإمكان أن نقول أن الأسطورة بالرغم مما تحمله من نزعات خيالية فهذا لا يعني أبدا أنها تخلو من قيمة تاريخية، وأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ننفي العلاقة القائمة بين الأسطورة والتاريخ، فهي همزة الوصل بيننا وبين البدايات الأولى للتاريخ الإنساني الذي تتسلل حلقاته ولا نستطيع أن نأخذ بالحلقة الأخيرة دون العودة إلى الحلقات الأولى والأساس، والأسطورة ترجمة لملاحظات واقعية ورصد لحوادث جرت وأوصلت إلينا خلاصة تجارب الأولين في أزمانهم السحيقة، ومع هذا يبقى التاريخ أكثر شمولية وأوسع من الأسطورة، وقد تكون جزء منه وهذا ربما يفتح الباب على مصراعيه لتساؤلاتمشروعة.
الهوامش
أ.وردة لواتي
المركز الجامعي لتامنغست
ملخص:
[إن المفهوم المائع للأسطورة جعل الإمساك بحقيقتها والوقوف على مفهوم موحد لها أمرا صعبا، كما أنّ ارتباط ظهورها بغابر الزمان، والبدايات الأولى والآلهة والأبطال الخوارق منحها نوعا من الضبابية واللامعقول نتج عنه كم هائل من الآراء والمجالات التي تجاذبتها، فمنهم من سلم بها وصنفها ونسبها ضمن معارف وعلوم كما هو الحال مع علماء الانثروبولوجيا الذين اعتبروها تاريخا، أو مادة تاريخية توثق لحقيقة قائمة بذاتها ينبغي علينا العودة إليها إذا ما أردنا الوقوف على حقائق تاريخية في فترة إنسانية معينة ارتبطت بأمة من الأمم، خصوصا إذا تعلق الأمر بالأسطورة الإفريقية التي تميزت بميزات خاصة سنحاول الوقوف عليها من خلال النموذج المتمثل في أسطورة العرش المقدس.]
Resumé :
] La notion fluide de mythe rendant difficile à se tenir sur un concept commun. De plus, son apparition qui renvoie aux premiers temps et les débuts des dieux et les héros extraordinaires l’a rendu flou et irrationnel. Tout cela nous a amené de diverses opinions. Certains d'entre eux l’ont acceptée et l’ont classée parmi des connaissances et des sciences, comme les anthropologues qui l’ont considérée comme histoire ou faits historiques d’une réalité indispensable tel est le cas de l’histoire africaine et ses caractéristiques, l’histoire du royaume sacré comme exemple.[
مقدمة:
لقيت الأساطير في الدراسات الحديثة أهمية بالغة وسلطت الأضواء عليها بشكل لافت للانتباه على الرغم من وجودها المتجذر في القدم، ولعل هذا الاهتمام يعود الفضل فيه لعدة عوامل تكاثفت لتزيح اللثام عن هذا الكنز الإنساني المدفون، وإن كان المقام لا يتسع للخوض في هذه العوامل والظروف، فإن الأساطير تعد بحق مصدرا خصبا من المصادر الهامة في دراسة المجتمعات بكل ما تزخر به من ثقافات، وتسهم في تحليل نظرتها للكون والمخلوقات والإنسان.
فمنذ ما يزيد عن نصف القرن ظهرت دراسات جادة تهتم بالأساطير اهتماما لم يسبقها إليها أحد قبلها، فهذه الدراسات اختلفت عن سابقتها في كونها تعاملت مع الأسطورة تعاملا جديدا يجعل منها تاريخا حقيقا وواقعا ملموسا، بدل المفهوم السابق الذي يرى فيها مجرد خيال يتصل بأحلام الإنسان، فالاستعمال الشائع للأسطورة Mythe جعل معناه يحيد عن كل ما هو حقيقي ليرتبط بالتخيل Fiction، والوهم illusion، بينما الدراسات الحديثة منحت الأسطورة روحا جديدة، وبثت فيها مفهوما مختلفا حيث ربطتها بالتاريخ والواقع.
وإن كان الباحثون قد اتفقوا على القيمة العالية للأساطير في مجال المعرفة الإنسانية وتراث الشعوب، فإن الاتفاق غير وارد حول أصل الأساطير ونشأتها وإذا كانت من نتاج الخيال البشري الخلاق، وهي مجرد وهم ولا علاقة تربطها بالواقع والحقيقة، أم انعكاس للحقائق وتفسيرا جلي لإبهام الظواهر الطبيعية وترجمة دقيقة للحوادث التاريخية الحاصلة كان الغرض منها نقل التجارب الأولية.
وفي محاولة للوصول إلى أرضية صلبة يمكن الوقوف فيها على مقاربة لهذا الطرح، فإنه كان من الواجب علينا طرح الإشكالية التالية: ما هو سرّ علاقة الأسطورة الأفريقية بالخيال والتاريخ؟
-مفهوم الأسطورة:
إن مصطلح الأسطورة في حد ذاته يطرح إشكالات عديدة، ومعانيه متعددة، ولهذا وجب الوقوف عنده، وتفحص معانيه، كما تختلف وجهات النظر حول المصطلح نفسه من مفكر إلى آخر، ومن مجال بحث إلى آخر...
أ-مفهوم الأسطورة لغة:
ورد في لسان العرب في باب سطر:<<سطر: السَّطْرُ، الصف من الكتاب، والشَّجر، والنَّخل ونحوها، والجمع من كل ذلك أسْطُرٌ وأَسْطَارٌ وأسَاطِيرُ.والسَّطْرُ: الخط والكتابة، قال الزّجاج في قوله تعالى: "وقالوا أَسَاطيرٌ الأولين" خبر لابتداء محذوف، ومعناه سطره الأولون وواحد الأسَاطِير أٌسطٌورَة، كما قالوا أحدوثة وأحاديث والأسَاطيرٌ:الأباطيل وسَطَرَها:ألفها.الأسَاطيرٌ: أحاديث لا نظام لها واحدتها إِسْطَار وإِسْطَارَة بالكسر وأَسْطِير وأَسْطِيرَة وأُسطُورة بالضم>> ، وورد ت في القرآن الكريم جمعا ولم ترد لفظة أسطورة مفردة في آية. <<وعند ابن كثير أَسَاطِير الأولين: كتب الأولين >> .
ويتضح من خلال هذه التعاريف أنّ كلمة <<أُسطُورة >>ليس لها مدلولاً واحدً، ولا معنى حقيقيا وإذا أمكننا أن نقارب المعاني، فالأساطير هي الأحاديث التي لا نظام لها، وهي كذلك الأباطيل، وهي الحكاية التي لا أصل لها، وهي الأحاديث العجيبة.
وفسرها الزمخشري في كشافه << بالخرافات والأكاذيب >> .
وحتى تتضح الصورة أكثر وجب أن نعرج على معناها في اللغات والمعاجم الأجنبية فنجدها فياللغات الهندوأوربية Myth و هي مشتقة من الأصل اليوناني Mythos<<وتعني حكاية شعبية أو أدبية تضم كائنات خارقة وإجراءات خيالية التي تنقل الأحداث التاريخية >> ، وهي تعني كذلك <<الكلمة المنطوقة، ثم تحدد استعمالها بعد ذلك أصبحت تعني الحكاية التي تختص بالآلهة وأفعالها ومغامراتها. >> .
وكلمة أسطورة لها شبه قريب جدا من كلمة هستوريا Historiaباليونانية ولهما دلالة على القصة أو الرواية أو التاريخ كما تدلان كذلك على ما كتبه الأوائل من روايات وحكايات وهي غالبا تكون أحداث خارقة للعادة وأباطيل. وقد ظهر فرع من فروع المعرفة يعنى بدراسة وتفسير الأساطير <<دعي بالميثولوجيا Mytho-Logy، والشق الأول من الكلمة(Mytho)مأخوذ من الكلمة اليونانية (Mutho) التي تعني حكاية تقليدية عن الآلهة والأبطال أما الشق الثاني (Logy) فيعني علم >> .
ولهذا وجب التمييز بين مصطلح الأسطورة (Myth)، مصطلح الميثولوجيا(Mytho-Logy). وإذا عدنا إلى التاريخ فإننا نجد أن <<أفلاطون أول من استعمل التعبير Muthologia، بمعنى " القول عن " أو " الأخبار عن" أو بمعنى القصص >> .
وإذا عدنا إلى لغات الشرق القديم فإننا نجد صعوبة في تمييز مصطلح خاص بالأسطورة ومن هنا <<تبدأ المشكلة... من أن القدماء أنفسهم لم يعملوا على تمييز النص الأسطوري عن غيره، ولهذا دعوه باسم خاص يساعدنا على تمييزه بوضوح بين ركام ما تركوه لنا من حكايات وأناشيد وصلوات وما إليها >> .
ب - مفهوم الأسطورة اصطلاحا :
إذا كان مصطلح الأسطورة بمفهومه اللغوي يتعدد ويتشعب، فإنه بمفهومه الاصطلاحي أكثر مرونة وزئبقية ويصعب القبض عليه، وهذا طبعا يرجع لكون الأسطورة ظاهرة ثقافية وأدبية غاية في التعقيد.
فقد جاء عن الباحث والفيلسوف مرسيا ايلياد*في كتاب الميثولوجيا السورية تعريف للأسطورة مفادها أن <<الميتوس Mythos وهي عند الإغريق تعني حكاية، والأسطورة تروي قصة مقدسة وحادثا وقع في زمن البدء سواء أكان ما أتى إلى الوجود هو الكون أو جزء منه، ولا يروي الميتوس إلا ما حدث فعلا ويفسر ما هو كائن وموجود فعلا، لذلك فهو قصة حقيقية >> .
إذن فهي عند مارسيا إلياد تدل على أنها <<أحداثا تاريخية حدثت في الزمن السحيق فالأسطورة تروي تاريخا مقدسا، تروي حدثا جرى في الزمن البدائي، الزمن الخيالي هو زمن البدايات، فالأسطورة تحكي لنا كيف جاءت حقيقة ما إلى الوجود بفضل مآثر اجترحتها الكائنات العليا، لا فرق بين أن تكون هذه الحقيقة كلية كالكون أو جزئية كأن تكون جزيرة ونوعا من النبات، أو مسلكا يسلكه الإنسان أو مؤسسة >> .
حيث يرى مارسيا إلياد * أن الأسطورة تاريخ مقدس يروى عن الأصول والبدايات الأولى لكنها لا تتخذ من هذه الأصول والبدايات موقفا ذهنيا وصفيا، بقدر ما تسعى إلى استرجاع هذه الأزمنة المقدسة وذلك عبر الذاكرة الجماعية.
فالأسطورة في رأيه تبين لنا حقيقة كائنات عليا (آلهة) وأفعالها التي قامت بها عبر الزمن السحيق. فهي إذا تروي لنا حقائق مقدسة عن أعمال كائنات مقدسة ترتبط بها الأسطورة ويمكن القول أنهيعتبرها رؤية واقعية تعبر عن ثقافة الإنسان البدائي، وتفاعله مع واقعهوقد ربطها بالإنسان عبر التاريخ، حيث اعتبرها مدونة من صنع تلك العصور لوقائع وأحداث لمجموعات إنسانية. ومن هنا تأتي أهمية ميثولوجيا التكوين لدى الشعوب، وقداسة أسطورة الخلق في النظم الميثولوجية.
ويقول برونوسلاف مالينوفيسكي محاولا أن يعطي تعريفا للأسطورة، وذلك من خلال مميزاتها ودورها في المجتمعات البدائية: <<ليست الأسطورة تفسيرا يراد منه تلبية فضول علمي، بل هي حكاية تعيد الحياة إلى حقيقة أصلية، وتستجيب لحاجة دينية عميقة، تطلعات أخلاقية وواجبات، وأوامرعلى المستوى الاجتماعي، بل وحتى المتطلبات عمليةفي الحضارات البدائية، تملأ الأسطورة وظيفة لا غنى عنها تفسر وتبرر وتقنن المعتقدات تحامي عن المبادئ الأخلاقية وتفرضها، تضمن فعالية الاحتفالات الطقسية وتنتج قواعد عملية لاستعمال الإنسان >> .
فمالينوفسكي لا يرى في الأسطورة مجرد تفسير بوقائع خيالية، بل تبعث الحياة في حقيقة قائمة بذاتها تمكن الإنسان من كشف كنه الممارسات الطقوسية، التي قام بها الإنسان البدائي والتي يؤديها استجابة لأخلاقيات وواجبات معينة كانت سائدة لدى شعوب معينة، وهي إشارة إلى الوظيفة المقدسة للأسطورة، وقد اعتبر<<الدور الذي تلعبه الأساطير ضروريا؛ لأنها بكل بساطة تعبر عن المعتقد،كونها بمثابة التشريع الأول والحقيقي للديانة البدائية>> ، وهنا يلتقي مع مارسيا في الطرح ذاته.
في حين نجد كلود ليفي شتراوس قد دافع عن الشعوب البدائية، حيث اعتبر الأسطورة بمثابة تاريخ مدون، وأن هذه الشعوب المزعومة بلا تاريخ تعرف أفضل منا كيف تتعامل مع المشهد بطريقة تاريخية.
في حين نجد سيغموند فرويد في كتابه (تفسير الأحلام)الذي نشر عام 1905يرى <<تشابها في آلية العمل بين الحلم والأسطورة، وتشابه الرموز لكليهما، فهما نتاج العمليات اللاشعورية، النفسية ففي الأسطورة كما في الحلم نجد الأحداث تقع حرة خارج قيود وحدود الزمان والمكان، فالبطل في الأسطورة كما هي حال صاحب الحلم، يخضع لتحولات سحرية ويقوم بأفعال خارقة، هي انعكاس لرغبات وأمان مكبوتة...>> .
فيعتبر فرويد أن وجود الأسطورة كان بدافع براغماتي محض، وهوا لسيطرة على الطبيعة وإخضاعها، مما استدعى لجوئه إلى السحر والشعوذة من أجل تعويض النقص الذي يحسه نتيجة سطو الطبيعة، وبهذا ظهر التفكير النفسي لدى الفرد البدائي. كما أشار فرويد إلى الشبه الموجود بينالأسطورة والحلم من حيث الرمو، هذه الأخيرة تظهر في الأحلام لتعبر عن دوافع غريزية، ولهذا فقد عبر عنها بشخصيات أسطورية، وظهرت قناعته هذه من خلال كتابه (الطوطم والطابو) هذه الشخصيات تمثلت في أوديب، والكترا.
ومن هنا يمكن القول أن سيغموند فرويد قد ركز على جانب معين في مقاربته للأسطورة وهو الجنس والرغبات المكبوتة، كما اتخذ من الأسطورة سبيلا للوصول إلى كنه المكبوتات العميقة في اللاشعور. ونتيجة حديثه عن العلاقة بين اللغة وتجليات اللاوعي في الحلم والإبداع فإنه يتعرض لنقد شارل مورون، حيث يرى هذا الأخير أنه <<لابد من البحث في المؤلفات الإبداعية المتعاقبة لكاتب عن تلك الصور أو الاستعارات المتكررة التي تخلق الطابع المميز لمجموع تلك الأعمال. لقد سمي هذه الصور المهيمنة على مجموع أعمال كاتب واحد بالأسطورة الشخصية Le Mythe Personnel>> ، بمعنى أنه توجهه إلى خصخصة الأسطورة وربطها بالحياة الشخصية للكاتب.
وإذا ما عرجنا على الأسطورة لدى فراس السواح لوجدناها <<حكاية تقليدية تلعب كائنات الماورائية أدوارها الرئيسية >> ، فهو يعتبرها حكاية ضاربة في القدم تتعلق بالإنسان البدائي، تكون فيها كائنات خارقة لا يمكن إدراك أبطالها الرئيسة، فعليها تنبني الأسطورة بكل زخمها.
فهي تنتقل من جيل إلى جيل مشافهة، وهذا ما يجعلها ذات صبغة جماعية، كما تحفظ الموروث الجمعي بكل زخمه، من قيم وعادات وتقاليد وطقوس، وأخلاق ... فتكون بذلك جسر العبور إلى الجيل اللاحق وأداة طيّعة للتأثير على النفوس، فتكون بذلك الأسطورة<<حكاية مقدسة، يلعب أدوارها الآلهة وأنصاف الآلهة، أحداثها ليست مصنوعة أو متخيلة بل وقائع حصلت في الأزمنة الأولى المقدسة، أنها سجل أفعال الآلهة، تلك الأفعال التي أخرجت الكون من لجة العماء، ووطدت نظام كل شيء قائم، ووضعت صيغة أولى لكل الأمور الجارية في عالم البشر. فهي معتقد راسخ، الكفر به فقدان الفرد لكل القيم التي تشده إلى جماعته وثقافته، وفقدان المعنى في هذه الحياة >> .
من خلال ما تقدم من تعاريف للأسطورة يكاد يتضح لنا ذلك الاتجاه الذي سلكه بعض العلماء والباحثون وهم يكونون رأيهم الخاص حول علاقة الأسطورة بالخيال والتاريخ.
2- الأسطورة الأفريقية وميزاتها:
لوعدنا إلى خصائص الأسطورة عامة لأمكننا القول أنها تتألف من رواية أفعال قامت بها كائنات عليا، نجم عن هذه الرواية قصة حقيقية مقدسة، كونها ترتبط بحقائق قامت بها كائنات عليا مقدسة، وهي تتعلق -كما هو متعارف عليه -بالخلق، خلق الكون والإنسان، والكائنات الأخرى... وأصل الأشياء ومنشؤها، والطقوس التي بالإمكان أداؤها من أجل الوصول إلى مبتغى معين .
هذه الميزات والخصائص هي متواجدة في معظم أساطير الشعوب المختلفة كالبابلية، والإغريقية، والمصرية ... فلا تكاد تخلو من جميع هذه الميزات، لكن لو عرجنا على الأسطورة الأفريقية وتلمسناها بتمعن لتبين لنا أمر في غاية الأهمية يثير فضولنا، فهي تنفرد بميزة خاصة بها تمثل في السحر الذي لا مثيل له، والذي شاع وتجذر في المجتمع الأفريقي البدائي وتغلل بكل قوة في تفاصيل الحياة والممات.
إن السحر الكامن في الأساطير الأفريقية هو انعكاس طبيعي للسحر في أفريقيا، الذي يتصف بطابع خاص وقد عرف بنوعيه (السحر والشعوذة) فالسحر<<هو عمل التعويذات لمساعدة الإنسان في مروره بضائقة ما منها: عدم الإنجاب والمرض، وعدم التوافق الأسري، أو نيل شيء عزيز المنال، أو عودة الغائب، أو حفظ المولود، أو سعة الرزق، وغير ذلك من أمور لا تضر بأحد >> .
في حين نجد أن الشعوذة تختلف عنه في كونها <<طقوس شيطانية الغرض منها: إيقاع الأذى بالآخرين بدافع الحقد والحسد، أو الكراهية والغبن، أو محاولة تغيير قدر إلهي >> .من هنا يتبين للوهلة الأولى أن الإنسان الأفريقي البدائي يميز بين نوعين من السحر(السحر النافع والسحر الضار) وقد ربط بين هذا الأخير وبين المرأة ، حيث وصمها بالشعوذة والأذى كونها الوحيدة - حسب اعتقاده - التي تلجأ لمثل هذه الممارسات المشينة التي ينبذها المجتمع، ويرى فيها عيبا وعارا يلحق بممارِسته، ويتضح ذلك من خلال الأساطير التي توثق لهذا الرأي، حيث لا نكاد نلمس أسطورة واحدة تلحق الشعوذة بالرجل، ومن الأساطير التي تدين المرأة نجد أسطورة الرجل والزوجات الثلاث ، وأسطورة الزوجة الساحرة.
في حين ارتبط السحر الإيجابي(النافع) بالرجل-الطبيب<<فثمة أناس على درجة عالية من الذكاء والدهاء، والوعي بمخاوف الناس وحاجتهم إلى من يبث شيئا من الطمأنينة في نفوسهم، أو يساعدهم على تحقيق ما يعجزون عن تحقيقه بما هو متاح لديهم من قدرات أو وسائل، أو العجز عن أخذ حقوقهم ممن هم أقوى منهم، أو رد ظلمهم ...ويدعي هؤلاء الأذكياء القدرة على السحر ويتخذونه مهنة تجعلهم يتمتعون بقدرات خاصة، ويبثون الرهبة منهم في نفوس الناس >> .
فطبيب القبيلة ارتبط ارتباطا وثيقا بالسحر الإيجابي الذي يقدم به العون لأفراد قبيلته في حالة السلم والحرب على حد سواء، فهو المتحكم في مقدرات الأهالي وأقدارهم، وفي حياتهم ومماتهم ... ولا يمكنهم خطو خطوة واحدة دون استشارته والاستعانة به، وفي كثير من الأساطير نجد أنه ارتقى إلى مرتبة الملك أو الزعيم، فالقوة لتي يمتلكها الساحر - الطبيب المتمرس بفنون السحر هي قوة لا محدودة بمجرد تلفظه بتعاويذه السحرية الخاصة يتمكن من تغيير الأمور لصالحه، فيعد الحياة للموتى، ويطرد الأرواح الشريرة، ويوقف الكوارث... فقتواه خارقة وأكيدة.
والسحر في الأساطير الأفريقية ليس منوطا بالبشر فحسب، بل تعداه ليمتد إلى الآلهة التي لا تنفك وتستعين به في لحظات خلقها للكون والمخلوقات، فالإله في أسطورة ألاتنغانا وهي أسطورة حول خلق الأرض والناس لدى شعب كونو التي دونها الكاتب (ب.خولاس) احتوت على عبارة شديدة الوضوح تقول أنه <<من أجل أن يجد مكانا لسكناه خلق بواسطة السحر بحرا هائلا من الأقذار...>> .وقد اعتبر ليفي شتراوس السحر عند البدائي <<كالظل المتحرك للجسم >> فالإنسان البدائي لا يمكنه التخلي عنه تحت أي طارئ، تماما كالماء والهواء الذي يتنفسه.
إن الإيمان بالسحر والقوى التي تجعل السحر ممكنا هو سابق عن الإيمان بوجود الآلهة لدى الإنسان الأفريقي، فالممارسات السحرية ظهرت في وقت لم يكن فيه الإنسان البدائي يعرف للآلهة أسماء ولا شكلا (التشخيص)، وقد كان الفيلسوف الألماني هيجل يدعي في فرضيته بأن <<عصرا ساد فيه السحر قد سبق عصر الدين في تاريخ الحضارة الإنسانية >> وقد ايده في هذا الطرح جيمس فريزر بنظريته حول أصل الدين وعلاقته بالسحر، حيث اعتبر أن الإنسان البدائي مر عليه عهد اعتقد فيه أنه بإمكانه التحكم بقوى الطبيعة من خلال تمكنه من السحر، لكنه اكتشف بعد حين قصور ممارساته، وأن هناك قوى روحانية فائقة التقدير فتحول لعبادتها واسترضائها، وبذلك ظهر الدين.
هذه النظرية وإن كانت تنطبق على شعوب عديدة فإنها تشير إلى حقيقة بعيدة عن المجتمع الأفريقي البدائي، الذي لم يستطع الفصل بين السحر والدين، وبين السحر وحياته الاجتماعية والنفسية والروحية، فكانت أساطيره انعكاس لهذا الإيمان الراسخ ولهذا تعددت الأساطير التي تحمل بين طياتها هذا الإيمان وتنوعت من بلد أفريقي إلى آخر فكانت تتراوح بين السحر والمسوخ (تناسخ الأرواح)، هذا الأخير يعكس اعتقادهم بانتقال الأرواح من مكان لآخر ومن شخص لآخر، ومنها أسطورة من ساحل العاج عن <<امرأة ساحرة اقتربت منيتها فغادرت روحها الشريرة جسدها وتقمصت بومة بينما ظل جسدها في مرقديه، وصادف البومة صياد ماهر فتمكن منها وقتلها فمات الجسد القابع في الفراش>> .
إن الأساطير الأفريقية تتمتع بخصوصية تجعلها تتميز عن غيرها من الأساطير، كون الإنسان الأفريقي معروف بطابعه الخاص الذي صنع له التمييز عن غيره من بني البشر، والمتذوق والدارس لهذه الأساطير يلمح لا محالة هذا الاختلاف الذي يحيطه نوع من الغموض والغرابة.
3-أسطورة العرش المقدس -هبة السماء أنموذجا:
باعتبار الأسطورة تنبني على الحدث التاريخي فإنه يتوجب على الدارس أن يستبعد كل ما هو محسن بديعي، حتى نستخلص منها المادة التاريخية المكتنزة بداخلها، فهذه الأسطورة العرش المقدس - هبة السماء تطرح من الوهلة الأولى علامات استفهام عريضة منها أي عرش هذا، وما سر قدسيته ؟ وهل هو مجرد وهم صنعه خيال الإنسان الأفريقي البدائي؟ أم أنه حقيقة قائمة بذاتها تمتد في تاريخ الشعوب الأفريقية البدائية.
كل هذه التساؤلات المشروعة سنتحرر الإجابة عنها من خلال اقتحام خبايا هذه الأسطورة، فأسطورة العرش المقدس - هبة السماء عرفت لدى قبائل أشانتي بأفريقيا، حيث تقول أن عرشا ملكيا مقدسا كان يملكه الملك أوسي توتو الذي هزم من طرف ملك قبيلة مجاورة عرف بظلمه وجبروته، ما جعل أنوتشي الذي يملك قوى السحر والطب يسعى لخلعه واسترداد العرش، فما كان منه إلا أن استعان بقواه السحرية الخارقة ليستنهض همم أهل قبيلته بما فيهم الملك المهزوم، وذلك من خلال ممارسات سحرية معينة، فتمكنوا من هزيمة الملك الظالم واستعادة كرسي العرش، وقدموا له حلي زوجة الملك الظالم المهزوم على شكل قربان فزينوه به نظرا لاعتقادهم بأنه هبط عليهم من السماء، ووهبهم القوة والسلطان.
قد يتبادر للأذهان أن هذه الأسطورة لا علاقة لها بالواقع والتاريخ وأنها مجرد أوهام وخيال اجترحتها خيالات الإنسان الأفريقي البدائي لغاية من الغايات، لكن الواقع والتاريخ أثبت عكس ذلك فهذه الأسطورة لها علاقة وثيقة بالتاريخ قبائل أشانتي* التي تقطن بغرب أفريقيا (غانا)، ويذكر أنه عندما تم غزو هذه القبائل من طرف البريطانيين قاموا بالاستلاء على هذا الكرسي ما اضطر القبائل للخضوع، والركون إلى الاستسلام خوفا على الكرسي من أن يصبه أذى يؤدي إلى تحطيمه، لكنهم بمجرد أن علموا بخبر محاولة البريطانيين الجلوس عليه انتفضت القبائل وتجندت لمحاربتهم، وقد علم فيما بعد أن العرش الذهبي اختفى ولم يعرف له مكانا ما جعل هذه القبائل تحيك حوله أساطير تكرس اختفاء الكرسي من طرف أرواح الأسلاف، الذين قاموا بإخفائه حماية له وحفاظا عليه .
وتذكر الروايات أن الكرسي أعيد إلى القصر الملكي في كوماسي رمز الأسلاف المقدسين لدى قبائل أشانتي، كما تشير الرويات أنه سنة 1922 أرسلت ملكة أشانتي كرسي مصنوعا من الفضة إلى أميرة بريطانيا في حفل زفافها ومعها رسالة تخبرها فيها أن حبهم وإخلاصهم مكرس للكرسي المطلي بالفضة تماما كما هو الحال بارتباط ارواحهم بمقعدهم المقدس. وقد عرفت بعض قبائل أفريقيا حروبا طاحنة مماثلة راح ضحية العديد من الأرواح كان السبب فيها دائما انتفاضتها ورفضها لتدنيس ما هو مقدس لديهم ، خاصة وأن أساطيرهم توثق ذلك، فما يؤكد هذا الطرح هو ما ثبت عن الشعوب الأفريقية البدائية خاصة في غرب أفريقيا بعض الممارسات الطقوسية المتعلقة بكراسي الأسلاف*، التي يحتفظون بها في المعابد وقد كانت تقدم لها القرابين في طقوس احتفالية مهيبة تتكرر كل سنة، فعند قبيلة الأكان مهرجان خاص بكرسي الأسلاف يسمنونه Adae فاعتقادهم راسخ بأن موت الجد على الكرسي يكسبه مكانة مرموقة ضمن هيكل الأسلاف، كما يقومون بتسويد الكرسي (تلوينه بلون أسود خاص) ثم يوضع ضمن بيت الكراسي ليتم الاحتفال به في السنة القادمة.
فأسطورة العرش المقدس - هبة السماء إذن ضمنت بداخلها جوانب تاريخية ارتبطت بواقع حقيقي، فهي تحوي مادة تاريخية، وتروي حكاية الملك الذي قهر من طرف ملك آخر، لكن بفضل ممارسات الساحر- الطبيب البطولية والمآثر النافعة، الجديرة بالإشادة استطاع العرش المقدس أن يعود إلى أصحابه الأحقين به، فهو بمثابة الكنز الموروث عن السلف المقدس، وبالتالي فشخصية كل من الساحر والملك ليستا خيال وزيف، وإنما حقيقة وواقع، خاصة الساحر- الطبيب فهي شخصية أوتيت أسرار المخلوقات وعناصر الطبيعة، وتكشفت لها بعض الخبايا المتعلقة بالعوالم العليا، وبهذا فهو يحظى بمكانة عليا بين أفراد قبيلته وفي المجتمع عامة.
وإلى جانب هذه الأسطورة الأنموذج هناك أساطير عديدة ومختلفة توثق للرأي القائل بالقيمة التاريخية للأسطورة، ومنها على سبيل الذكر لا الحصر أسطورة جبال كيرنياغا من كينيا والتي عرفت بعد دخول الأوربيين إليها بجبال كليمنجارو، فهي أسطورة عند قبائل كيكويو تروي كيف كانت مسيرة السلف منذ الخلق الأول الذي بدأ بثلاثة رجال وهم كامبا، وماساي، وكيكويو حتى صاروا قبائل وعشائر وبطون، ومنهم قبيلة كيكويو التي كانت فيها المرأة تحظى بمكانة مرموقة، ما أدى إلى ظهور المجتمع الأمومي في بداية عهد المجتمعات الأفريقية.
خاتمة:
لعل ما ينبغي التأكيد عليه هو القيمة العالية للأسطورة التي خطفت الأضواء وحيرت الأذهان، وشغلت الأفكار وقضّت مضاجع العلماء والمفكرين في شتى المجالات، ولعل ما يدعم هذا الطرح هو صعوبة الإمساك بمفهوم يقترب من الاجماع ولو بنسبة ما، فهي تأبى أن تمكنه من ذلك من خلال ميوعة مفهومها، وربما هذا ما يزيد العماء إصرارا للوقوف على كنهها.
فالأسطورة تجاذبتها مجالات عدة، وعلوم و معارف شتى، وكل منها ينظر إليها من وجهة خاصة، وقد يقرّ بها و بما جاءت به، أو يرفضها ويستهجنها، وهذا هو الحاصل مع علماء الأنثروبولوجيا الذين انقسموا بين من يرى فيها مادة تاريخية خصبة استمدت حقائقها من وقائع التاريخ الغابر المتعلق بالبدايات، وبالتالي يمكن الاعتماد عليها في عملية التأريخ لأنها تعد مصدر مصادره، بين من يستهجن الأمر ويعدها مجرد خيال ووهم إنساني عكس تعلق النفس البشرية بالغيبيات والأبطال الخوارق، وارتباطها بكل ما هو روحاني مجهول لتعوض النقص والضعف الجسدي الذي يعانيه البشر.
هذا وبالرغم من وجود مميزات عامة تشترك فيها الأسطورة لدى كثير من الشعوب، كالأسطورة الإغريقية والبابلية والهندية والصينية والمصرية... إلا أننا نلمس ذلك التميز الملحوظ لدى الأسطورة الأفريقية، التي تنبض بالممارسات السحرية والطقوسية، حيث لا نلبث نتصفح أسطورة أفريقية إلا وكان عنصر السحر ماثلا فيها بكل قوة، فنجد أنها تنبني على السحر سواء تعلق بالبشر كممارسة طقوسية سحرية دنيا، أو تعلق بالآلهة من خلال أعمال وممارسات عليا.
ومع كل هذا فإنه بالإمكان أن نقول أن الأسطورة بالرغم مما تحمله من نزعات خيالية فهذا لا يعني أبدا أنها تخلو من قيمة تاريخية، وأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ننفي العلاقة القائمة بين الأسطورة والتاريخ، فهي همزة الوصل بيننا وبين البدايات الأولى للتاريخ الإنساني الذي تتسلل حلقاته ولا نستطيع أن نأخذ بالحلقة الأخيرة دون العودة إلى الحلقات الأولى والأساس، والأسطورة ترجمة لملاحظات واقعية ورصد لحوادث جرت وأوصلت إلينا خلاصة تجارب الأولين في أزمانهم السحيقة، ومع هذا يبقى التاريخ أكثر شمولية وأوسع من الأسطورة، وقد تكون جزء منه وهذا ربما يفتح الباب على مصراعيه لتساؤلاتمشروعة.
الهوامش
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى