معمارية بناء الحدث في ثلاثية أحلام مستغانمي
صفحة 1 من اصل 1
معمارية بناء الحدث في ثلاثية أحلام مستغانمي
معمارية بناء الحدث في ثلاثية أحلام مستغانمي
ا.محمد بلوافي
(المركز الجامعي لتامنغست)
الملخص
[لقد سعيت في هذا المقال إلى إيضاح وتبيان أن النص الأدبي المستغانمي، قد أصاب إلى حد كبير في التعبير عن الفرد الجزائري، وخصوصا من خلال ثلاثيتها المشهورة؛ ذاكرة الجسد1993، فوضى الحواس1997، عابر سرير2003.... من خلال الرمزية والتعمية، والشعرية التي دمجت مع الأسلوب النثري، في مزاوجة، قلما صادفنها لدى الكتاب، والسرد الواقعي الاجتماعي، الذي ينطلق من صميم ذاكرة الشعب الجزائري، وهو ما حاولت توضيحه من خلال مدارسة عنصر الحدث الذي يحيك بناء خيوط هذه التحفة الفنية.]
résumé:
] Je voulais à travers cet article, éclaircir et démontrer que le texte littéraire de MOSTAGHANEMI, a ciblé largement l'expression de l'individu algérien, notamment à travers son triple célèbre travail ; la mémoire de la chair (Dhakirato ljasad)1993, le chaos des sens (fawda lhawas) 1997, passager d’un lit (abir sabil) 2003 … A partir du symbolisme de la poétique intégrés au style de la prose, dans une combinaison rare chez les écrivains. Ainsi le récit de l’actualité sociale issue du mémoire du peuple algérien. Ce que j’ai voulu éclaircir à partir de l’étude du fait qui tisse les fils de
ce fait artistique. [
مقدمة:
حاولت الرواية العربية عموماً، والجزائرية خصوصاً ولازالت، استبدال الأدوات التقليدية، التي ينبني بها وعليها الحدث السردي، بصورة أكثر جمالية وشاعرية، من دون أن تخسر هويتها وخصوصيتها التي تتميز بها عن أقرانها، وفي ذلك استجابة طبيعية، بل وحتمية، لمتطلبات الواقع، ومن خلال التعبير عنه بوجه آخر مغاير للمألوف، وهذا في ظل التحولات الحضارية والاجتماعية والاقتصادية، بل حتى السياسية.
كما يلاحظ في السنوات الأخيرة أن الموجة الثورية العارمة التي تجتاح الوطن العربي تتطلب فكراً راقياً، وعقلاً واعياً، وقلماً جريئاً، للتعبير عنها بصورة حية، فيها من الجمال والأدبية والواقعية، ما يجعلها تأسر قارئها، بدءا من أولى عتباتها، ويبدو أنها قد أصابت فيما كانت ترمي إليه إلى حد معين .
والأديبة الجزائرية ــ مستغانمي ــ تعتبر من بين الأسماء التي نجحت في تمثيل الأدب الجزائري، وأعطت صورة طيبة عن الرواية العربية عامة، وليس الجزائرية فقط، وخصوصاً من خلال ثلاثيتها المشهورة؛ ذاكرة الجسد، فوضى الحواس، عابر سرير.
فـ(ذاكرة الجسد) الصادرة عن دار الآداب بيروت 1993، والتي وصل عدد طبعاتها إلى أكثر من 20 طبعة، والحاصلة على عدة جوائز منها ؛ جائزة مؤسسة نور بالقاهرة 1996 لأحسن إبداع نسائي بالعربية، وجائزة جورج تراباي، وجائزة نجيب محفوظ 1998.أما (فوضى الحواس) فهي أيضا صادرة عن دار الآداب بيروت 1997، وهي لا تقل صنعة عن الأولى، إذ حظيت منذ صدورها باهتمام بالغ من النقاد، والقراء على حد سواء.وأما( عابر سرير) فهي من منشورات أحلام مستغانمي، 2003.
ويعتبر كلا العملين الأخيرين؛ فوضى الحواس، وعابر سرير، تتمة لقصة بدأتها الكاتبة مستغانمي في الرواية الأولى ذاكرة الجسد، بمعنى آخر؛ أن الأعمال الثلاثة مجتمعة هي بمثابة عمل أبداعي واحد متكامل.
ومن المعروف أن هاته الروايات دون غيرها من أعمال الكاتبة قد حظيت بإقبال القراء والنقاد الوافر، وما ذاك إلا بفضل الكيفية التي بنت بها الروائية أحداث رواياتها، فكيف تشكلت معمارية البناء الروائي في الثلاثية؟ وما هي العناصر الأكثر استحواذا على الأحداث فيها؟
معمارية بناء الحدث :
إن تشكيلة الأحداث عند الكاتبة أحلام ضمن مجموعة الأعمال السابقة الذكر، بداية من ذاكرة الجسد، نجدها في معظمها عبارة عن أحداث مسترجعة ، قائمة في أبسط صورها على وسيلة التذكر، لأن مضمون الرواية في حد ذاته يرصد وعياً وحركة أكثر مما يريد سرد وقائع لأحداث معينة.
وترتيب الأحداث عموماً عند الكاتبة، هو ترتيب غير متسلسل، بل يعنى بإبراز الشخصية، وتزويد القارئ بمعلومات عنها ..." وفي هذا النوع من الروايات، يحس القارئ بامتلاء المكان امتلاء مبالغا فيه" .
وهذا المضمون ما هو إلا سمة من سمات الرواية الجديدة، التي تأخذ الطابع الفكري التأملي، بغض النظر عن نوع هذه الأحداث، سواء أكانت اجتماعية، أم سياسية، أم اقتصادية، بل تتعدى ذلك لتأخذ طابع الجدل والتنافر مع الواقع، وتعكس اختلافاً واسعاً بينهما، وبين طابع التدوين والتسجيل والتسلسل المنطقي القائم في الرواية التقليدية.
وعليه فإن هذا النمط من الكتابة، غير خاضع لنمطية محددة ومعروفة، على نحو الرواية التي تقوم بترتيب الحدث، ترتيباً زمنيا منطقياً لتصل بذلك إلى عمق الحبكة والإشكال، ثم تنتهي إلى نتيجة ما.
ثم إن هذه الأحداث غير مرتبة بحبكة متماسكة، بحيث يؤدي التقديم أو التأخير فيها إلى فك الحبكة. وإذا كان الأمر كذلك، فأين تكمن نقطة أو بؤرة التأزم بالنسبة للحكاية، و أين يحدث تداخل وتشابك الأحداث، وأين هي العقدة بالمفهوم الروائي التقليدي؟
عندما نتعمق في النص نجد أن الأزمة، أو الإشكالية؛ هي فكرية ــ أو ربما نفسية بالدرجة الأول ـــ تمثلها الشخصيات وهي تتأزم أمامنا وتتألم، وفي هذا المقام يقول زعموش عن ذاكرة الجسد:" ولأن الرواية الجديدة تطبعها خاصية فقدان الأمل في إمكانية التصالح مع الواقع، فإن الكاتبة "أحلام مستغانمي" تنطلق من هذا المبدأ الذي يجعل شخصياتها تعاني أكثر مما تبني رؤية مستقبلية... ويصير مضمون الرواية؛ تعبيراً عن أزمة فكرية أكثر منها اجتماعية" .
أما الإشكالية، أو العقدة، أو الحبكة، فإننا نشعر بها منذ بداية النص الروائي، تنمو مع تقدم سير الأحداث، وهي تتأزم توازياً مع مصير البطل، ليصل في نهاية المطاف إلى نتيجة غير متوقعة لدى القارئ.
إن أزمة النص تتجلى على مستوى الشخصيات، في حين أن العقدة التي كانت سمة في الرواية التقليدية، نجدها إنما تتشكل في خيال وذهن المتلقي، القارئ، وذلك بفعل كل تلك القضايا والتأملات والإشكاليات المطروحة على رصيف السرد؛ ( الحب، الحياة، الموت، الوطن، الذاكرة، الحرية، الأمل، الخيبات،...) على مستوى الحدث والشخصية والنص، فيشارك بذلك القارئ الشخصيات، في معاناتها وتأزمها النفسي. ومن ثم فإن تأزم الشخصية النفسي، هو ما يقود الحدث، وليس العكس، ويتضح هذا في بعض المواقف نذكر منها على سبيل المثال:
في (فوضى الحواس)
بينما نجد الأمر يختلف نوعاً ما، في عابر سرير، وذاكرة الجسد:
أما في عابر سرير:
وهكذا يزداد التأزم، وتكبر الإشكالية عند القارئ، ويزداد الغموض والإبهام لدى المتلقي، وذلك عن طريق تداخل الحيثيات المشكلة للبناء السردي، كلما سار تقدماً.
بينما يتسم الحدث أحيانا بسمة التوتر كما هو في فوضى الحواس: يتضح من خلال الخطاطة التالية:
ويمكن أن نجد بناءاً مشابها لها في عابر سرير:
بل الأمر يتعدى هذا اللامتوقع، حيث أن إشكالية النص لا نجدها تتحدد في موضع واحد في النص، بل خيوطها منسدلة من بداية فعل السرد، وهذا ما يزيد من تعقيد الوضع للقارئ، ويمكن توضيح ذلك بالمخطط التالي:
إشكالية أحداث قضايا نتيجة مفاجئة للبطل
لدى القارئ أحداث تأمل تأزم الوضع
لقد استبدلت الرواية الجديدة، أغلب عناصرها الفنية، ويمكن أن نرى ذلك عموما في مختلف عناصر البناء التركيبي الذي يتبنين عليه النص، لكني أخص بالذكر هنا عنصر الحدث، الذي تَنسِج عليه خيوط القصة والحكاية؛ الحبكة النصية، وبالتحديد أتحدث عن الحدث الجنسي، وتواجده ضمن المتن، من الهيئة إلى الغاية.
نجد أن المؤلف لم يتطرق إلى هذه المسألة، أو معالجة هذا المحور، على مستوى الأعمال الفنية الروائية، بصورة سطحية ومباشرة، كما كان معروف في الكتابات الروائية الأخراة، فقد تجاوز الأمر الوصف والتصريح، إلى الدلالة والرمز، وهما أستحضر عنوان الرواية الأخيرة " عابر سرير" إذ يكمن فيها الإيحاء من أول عتبة نصية تعترضنا، آلا وهي العنوان، فمن خلال استعمال لفظة سرير تكمن هناك دلالة كبيرة على الفعل الذي يجري عليه، بينما كلمة عابر؛ فإنما تدل بدورها على كون الفعل متكرر، لأكثر من مرة، ومتعدد مع أكثر من شخص،" بدأت مشواري في الحياة كعابر سرير... حتى السرير الأخير" .
ولكن بالرغم من ذلك يبقى مظهر الحدث الجنسي متجلياً في النص الروائي المستغانمي، ويمكن أن نتبينه كما يلي:
1 ـــ الجنس: فعلا بيولوجيا قاتلا للرغبات المكبوتة:
يتجسد في علاقة خالد بكاترين، هذه العلاقة التي كانت تفرضها الطبيعة البيولوجية للإنسان، وواقع الغربة، والبيئة الغربية، هذه العلاقة غير الشرعية ساعدت على انتشاله من صراعه النفسي، ومن حدة اليأس، ووهم الوحدة الرهيب.
يقول السارد في ذاكرة الجسد: "أكانت حقاً متعبة إلى هذا الحد، أم أصبحت فجأة تغار علي أو تغار مني.....أم جاءت بجوع مسبق.....كالعادة، لم أحاول أن أتعمق في فهمها، فقد كنت أريد لأن أستعين بها لأنسى، كنت سعيداً أن أختصر معها يوماً أو يومين من الانتظار....انتظارك أنت! وكنت في حاجة إلى ليلة حب بعد شهر من الوحدة والركض، إعداد كل تفاصيل هذا المعرض" .
نجد فيما سبق دلالة على أن الجنس، إنما كان أمرا واقعيا تفرضه البيئة والظروف، ولم يخصه السارد برؤية معينة، بل لم يعد كونه ضرباً جنونياً فقط،
يقول" كان بيننا تواطؤ جسدي ما، يشع بيننا تلك البهجة الثنائية، تلك السعادة السرية التي نمارسها دون قيود....شرعية الجنون .
كما نجد الجنس قد وفر لدى بعض الشخصيات نوعا من السلوى، وإشباع الرغبات المكبوتة، لذلك كانت كاترين تقول: "ينبغي ألا نقتل علاقتنا بالعادة، ولهذا أجهدت نفسي حتى لا أتعود عليها، وأن أكتفي سعيداً عندما تأتي، وأن أنسى أنها مرت من هنا عندما ترحل .
نفس هذه الإشارة إلى هذه الرغبة البيولوجية، نجدها في رواية فوضى الحواس، في قولها:"ورغم ذلك في الصباح، أنج من جسدي، كنت أستيقظ وتستيقظ رغبة داخلي، تلفني رائحة شهوتي، فأبقى للحظات، مبعثرة تحت شرشف النوم النسائي الكسول، يستبقني إحساس بمتعة مباغتة، لم أسع إليها، جاءني البحر حتى سريري ليتحرش بي" . وكذلك في عابر سرير،"فقد كنت على جوعي الجسدي رجلا انتقائياً في حرماني كما في متعتي، أنا المولع بانحسار الثوب على جسد متوهم، ما وجدت في جسدها المكشوف مكمن فتنتي" .
" كانت إثارتها في إغرائها الموارب، في تلك الأنوثة التي تحت صخب الموسلين ترقص وكأنها تبكي، ... كان في الجو براعم جنون لشهوات مؤجلة أزهرت أخيراً خارج بساتين الخوف .
2 ـــ الجنس؛ فعلا غير محقق (رغبة):
أول ما يطالعنا في هذا الباب هي الثنائية التي حكمت النص المستغانمي، بفصوله الثلاث، ألا وهي (الحلم/الواقع)، فإذا ما أمعنا النظر في طبيعة العلاقة التي ربطت البطل ب حياة، نجدها غالباً ما تكون حقيقية مغلفة بالخيال؛ واقع داخل حلم، الأمر الذي يزيد من ضبابية الموقف، وغموض الفكرة لدى المتلقي ــــ هل العلاقة واقع أم خيال ــــ ويزيد من تشويش الموقف ؛ طبيعة السرد المستعملة من طرف المؤلف.
" على حافة العقل والجنون ...وفي ذلك الحد الذي تلغيه العتمة والفاصل بين الممكن والمستحيل...كنت أقترفك...كنت أرسم بشفتي حدود أنوثتك... أرسم بيدي كل ما لا تصله الفرشاة...بيد واحدة كنت أحتضنك ... وأزرعك وأقطفك... وأعريك وألبسك وأغير تضاريس جسدك لتصبح على مقاييسي" .
كما نجد أن خالد يحلم بحياة في أرض الواقع، ويقدم على تحقيق رغبته على مستوى أحلام اليقظة فقط، يقول السارد: "
أنت لي الليلة ككل ليلة، فمن سيأخذ طيفك مني؟ من سيصادر جسدك من سريري؟ من سيسرق عطرك من حواسي؟ ومن سيمنعني من استعادتك بيدي الثانية...أنت لذتي السرية، وجنوني السري، ومحاولتي السرية للانقلاب على المنطقة.... كل ليلة تسقط قلاعك في يدي، تستسلم حراستك لي، وتأتين في ثياب نومك لتتمددي إلى جواري" .
ويعترف السارد بهذا الحلم وهذا الجنون يقول:" فليكن....سأعترف لك... بعد كل نلك السنوات أنني وصلت معك يوماً إلى ذلك الحد المخيف من اللاعقل، ذلك الرجل المجنون الذي تحلمين به" .
وفي هذا الصدد تحلم الساردة في "فوضى الحواس" برغبة أن تنال " عبد الحق" لكن الموت أبعده عنها.
هل أمارس الحب إذن؟ ومع من؟ وكيف لي أن آتي المتعة بذريعة موت رجل تمنيت أن أكون له يوما....ولم أكن؟" .
وتصرح في موضع آخر في قولها :".. وبالتالي لن يكون زوجي هنا في الغد ليقاسمني ضجري، ولكوني عائدة من حمام نسائي أشعل شهوتي، بي رغبة في أن أهدي أنوثتي إلى رجل" .
وفي موقع آخر من رواية عابر سرير، نجد شهوة خالد المكبوتة، وفراقه لمدة سنتين عن حياة، جعلته يحلم دائما، ويتطلع إلى إشباع رغبته حتى لو بالأحلام والأوهام التي يرسمها وفقاً لما ينتقيه من نساء.
يقول حين أدركته الشهوة أول مرة، أمام تلك المرأة البولونية:" شاهدتها ذات صباح ترتدي روب الحمام الأبيض، وتقوم بتجفيف شعرها أمام المرآة،لم يكن يبدو منها شيئاً،...لكنها كانت شهية بشعرها المبلل وحركاتها المغرية.... وكنت في عمر الاكتشافات الأولى، مشتعلا بها" .
وفي موضع آخر يقول:" قررت أن أتناول قهوتي الصباحية مع فينوس، الأنثى الوحيدة الموجودة في البيت، ...تنتظر لهفة يديك، أو أوامر من عينيك لتسقط ملاءتها أرضاً وتصبح امرأة" .
3 ــــ الجنس فكرة روحية:
لقد كانت بالنسبة لخالد روحاً ووطناً، ولم يفكر بها باعتبارها أداة للمتعة والجنس فقط، " لم تكن مشكلتي معك مجرد شهوة، لو كانت كذلك لحسمتها يومها بطريقة أو بأخرى" .
وهي بالنسبة له ذاكرة، وامرأة فوق كل الشبهات، حيث كانت القذارة تحيط به من كل مكان، إلا أن روحه لم يجدها إلا في روح حياة، يقول:" كانت القذارة المتوارثة أمامي في عيون معظم النساء الجائعات لأي رجل كان،في عصبة الرجال الذين يحملون شهوتهم تراكماً قابلاً للانفجار، أمام أول أنثى" .
إن الحلم يستدعي الرغبة، واستخدام خالد لكلمة ( الرغبة) يدل عموماً على ممارسة وتحقيق الشخصية لمتطلاعتها ورغباتها على مستوى الحلم، ومنه يتضح أن الرغبة لدى خالد ترقى عن الجسد، إلى مستوى تلك الرغبة الروحية الفلسفية، "رغبة جنونية تولد في مكان أخر خارج الجسد، من الذاكرة أو ربما من اللاشعور، من أشياء غامضة تسللت إليها أنت ذات يوم، وإذا بك الأروع، وإذا بك الأشهى، وإذا بك كل النساء أنت" .
وعليه تتحول نظرة الشخصية للرغبة ومفهومها لها، " إلى مفهوم جنسي، لكنه ذهني، يقوم على افتراض الحاجة إلى تلك الرغبات، وهذا من شأنه أن يختزل العلاقة التي طالما حلم بها، إلى مجرد رغبة ذهنية" .
وفي ظل هذا المعنى تقول الراوية في فوضى الحواس، وهي في معرض الحديث عن وقت الرغبة والشهوة:" ماذا يفعل الناس أثناء هذا بوقتهم وأجسادهم؟ وكيف ينفقون هذه الساعات؟ ولماذا في العصر دون أي وقت آخر، ذبذبات عالية من الشهوة تسيطر على تلك الغرف النسائية التي تنتقل فيها النساء بثياب البيت.. متكاسلات.. ضجرات؟" .
4 ــــ الجنس فوضى وبيروقراطية:
إنها فلسفة نفعية جديدة في مجتمعاتنا، تبيح الجنس بين الرجل والمرأة، لا لمجرد تفريغ الشحنة وإجابة الغريزة، بل لقضاء الحاجة وفي سبيل المصلحة، وهنا يتخذ الجنس طبيعة التدمير والفوضى، " بشكل يهدد النظام المشروع لتلبية الغريزة بالفناء، وأصبح لهؤلاء من النفوذ في المجتمع، ما استطاعوا به تهيئة بعض الأذهان لما يدعون إليه" .
" الحرام هو ما يمارسه بعضهم بطرق عصرية، كأن يرسل أحدهم ابنته أو زوجته أو أخته لتحضر له ورقة من إدارة، أو تطلب شقة أو رخصة لمحل تجاري نيابة عنه، وهو يعلم أن لا أحد هنا يعطيك شيئاً بلا مقابل" .
لقد أصبح لهؤلاء المسؤولين الأثر في توجيه مبادئ الفوضى الجنسية، في صورة عملية، تسهل الحرام وتحبب الفاحشة في مجتمعاتنا العربية الإسلامية.
" إنه ما يحدث الآن في أكثر من مدينة... وفي العاصمة بالذات...حيث يمكن لأي فتاة أن تمر بمكتب ما في الحزب، أن تحصل على شقة أو خدمة أخرى...والجميع يعرف العنوان طبعاً، ويعرف اسم من يوزع الشقق والخدمات على النساء والشعارات على الشعب بالتساوي.. يكفي أن ترى منظر الفتيات اللاتي يدخلن هناك لتفهم كل شيء...." .
5 ـــ الجنس فعلا محظورا:
بما أن المؤلف وتركيبة الأبطال، ذو ذهنية، أو خلفية، أو عقلية جزائرية إسلامية، فانه من المعروف لديها أن الجنس أمر محظور شرعاً، والأمر يكون أكثر حزماً وتشدداً إذا ما تعلق بالمرأة على حساب الرجل، وهذه قضية تعود إلى العرف العربي، وهنا نستحضر موقف ديننا الحنيف من الزنا أو الجنس غير المقنن، وهو موقف صارم وحازم، يتوخى المصلحة الاجتماعية والأسرية، وكذا سلامة الفرد؛ يقول تعالى: (( ولا تقربوا الزنا )) الإسراء 23.
لذلك فإن سعت إليه الشخصية، أو قامت به، إنما يكون في إحدى الصور التالية؛ كبت، منع، رغبة سرية، فكرة محظورة، خاصة كما سبق الذكر؛ على المرأة، يقول السارد: " هناك جارات تتقاطع خطواتي بهن مراراً في هذه البيوت العربية المشتركة، وأدري رغبتهن السرية في الحب
تعلمت مع الزمن، أن أفك رموز نظرات النساء المحتشمات... والمبالغات في اللياقة والمفردات المؤدبة.
ولكنني كنت أتجاهل نظرتهن ودعوتهن الصامتة إلى الخطيئة، لم أعد أدري اليوم...أكنت أتصرف كذلك عن مبدأ، أم عن حماقة وشعور غامض بالغثيان" .
" كانت تقول إننا نحتاج إلى مدينة ثالثة ليست قسنطينة ولا الجزائر، لا تكون مدينتي، ولا مدينتها، مدينة خارج خارطة الخوف العربية" .
فالجنس محظور على المرأة، متسامح فيه مع الرجل، في هذا المقام نجد السارد يسخر من أزواجهن ــ الرجال أزواج النساء ــ في قوله: " كنت في الواقع أشفق عليهن...وأحتقر أزواجهن الذين يسيرون كالديوك المغرورة دون مبرر...
سوى أنهم يمتلكون في البيت دجاجة ممتلئة، محتشمة، لم يقربها أحد ربما عن قرف !...
" لفت انتباهي أن أبي، على غير عادته، أصبح يغلق علينا باب الغرفة بالمفتاح، بعد أن كان...فتسرع النساء إلى أول غرفة ويغلقن عليهن الباب...فرأيته يدخل مع امرأة بملاءة سوداء،...من يومها بدأت زوجة أبي ... تتجسس....وترى نساء بهيئات مختلفة يعبرن كل مرة وسط الدار،...فهي لم تجرؤ حتى على إخباره..خشية أن يغضب ويعيدها إلى أهلها" .
فغلق باب الغرفة التي بها الأهل من طرف الأب، يدل على أنه يدرك سوء ما يقبل عليه، مما يجعله يتوارى على الأنظار. كما أن الصمت الذي لاذت إليه الزوجة بعد معرفة خيانة زوجها لها في بيتها، يدل على المنظور الاجتماعي للخيانة من طرف الرجل على حساب المرأة، فهي تخاف على نفسها دون خيانة فما بالها لو كانت الخيانة من طرفها، ما كان ليكون عقابها؟؟؟.
كما أن الرسام خالد بطل ذاكرة الجسد، كان زانياً، والجنس عنده من منظور اجتماعي لا يختلف عن البقية، إذ هو محظور على المرأة ،و على المتزوجة بصفة أكبر، دون غيرها من الرجال، الذين دائما لديهم التبرير والمبرر.
" ولكن كان عليّ أن أقاوم رغبتي الحيوانية ذلك اليوم، وألا أترك المدينة تستدرجني إلى الحضيض.
فهناك مبادئ لا يمكنني التخلي عنها مهما حدث، كأن أعاشر امرأة متزوجة تحت أي مبرر كان" .
وربما يعود سبب هذا الحظر ــ المتعلق بالمرأة المتزوجة ــ في مبادئ البطل إلى عاملين أثنين هما :
أولاً: كون أن ذلك يعد خيانة، باعتبار أن الزواج رباط مقدس.
ثانياً: حب في الحرية، وعدم المشاركة، وخوفاً من اختلاط الأنساب،
لكن الزنا هو الزنا في تشريعنا الديني، سواء كان بامرأة متزوجة، أو بغيرها، ومع ذلك لم يكن الجنس لذاته يهم خالد ، وإنما كان هروباً من الواقع المر الذي تعيشه البلاد، وحالة الخوف الدائمة، والموت المتربص بالشخص في كل زاوية ومكان، فكان يلجأ إلى الجنس لخلق عالم آخر يجد فيه نفسه.
" في النهاية لم يكن السرير مساحة للذتي، ولا لطقوس جنوني. وحدها تلك المساحة البيضاء المشدودة إلى الخشب كانت قادرة على إفراغي من ذاتي" .
كما أن اهتمامه بحياة لذاتها لأنه كان يجد فيها الوطن الغائب. ولذلك كان حبه لها أكبر من الجنس.
" أتحداهم أن يحبوها مثلي، وحدي أحبها دون مقابل" .
6 ـــ الجنس فعلا ضد الرغبة:
يرد الجنس في النصوص الروائية في بعض الأحيان بصورة روتينية ، أو كفعل بيولوجي ضد رغبة الشخص، يجسد من خلاله تلك الكآبة في الحياة الاجتماعية التي يعيشها المجتمع، في ظل ما يفرض عليه من قوانين، وقلة ما يعرض عليه من اختيارات،
" لا أكثر كآبة من فعل حب لا حب فيه"
" بدون لهفة ولا شغف، يؤثثها ذلك الصمت الذي يلي ضجة الجسد تلك الخيبة الصامتة، الندم المدفون تحت الكلمات" .
" أثناء حديثها عن معاشرة زوجها مكرهة (( لا بد أن توضع على أبواب غرف النوم (( ممنوع التلويث)) ...ذلك أننا نلوث دائما بمن لا نحب)) .
" كان عزائي أن كل مساء ملايين البيوت ينزل عليها الليل كما ينزل علينا، بذلك القدر من نفاق المعاشرة" .
7 ـــ الجنس فعلا مشروعا ومقبولا:
رأينا عدة أوجه، قد ورد بها مفهوم الجنس في النص المستغانمي، وهنا نجد أن الكاتبة قد طرحت الجنس أيضا ضمن إطاره الشرعي، عن طريق الزواج، وقد في هذا الإطار نجد البطل خالد قد كان يتمنى دائماً، ويحلم بذلك اليوم الذي يمتلك فيه حياة، في إطار الزواج الشرعي يقول:" دعيني أحلم أن الزمن توقف...وأنك لي، أنا الذي قد أموت دون أن يكون لي عرس، دون أن تنطلق الزغاريد يوما من أجلي، كم أتمنى اليوم لو سرقت كل هذه الحناجر النسائية، لتبارك امتلاكي لك." .
وكم كان صعباً عليه حضور زفاف من يحب، " وضعت قناع الفرح على وجهي، وحاولت أن احتفظ به طوال تلك السهرة، يقول في معرض تحية العريس:"أحاول أن أنسى أنني أتحدث لزوجك، لرجل يتحدث إلى مجاملة على عجل، وهو يفكر ربما في اللحظة التي سينفرد فيها بك في آخر الليل..." .
يساءل خالد إن كانت حياة الآن حبيبته بعد أن أصبحت في عصمة رجل آخر، حيث يكون الجنس لهما حقاً مباركاً، يقول: " أكنت حبيبتي حقاً في تلك اللحظة التي كان رجل آخر فيها إلى جوارك، يلتهمك بعينين لم تشبعها ليلة حب كاملة، في تلك اللحظة التي كان فيها الحديث يدور حول المدن التي ستزورينها في شهر العسل..." .
والصورة نفسها نلمسها في (فوضى الحواس)، وهي في معرض الحديث عن الحب، وكيف كان أمره بين أبيها وأمها أثناء الحرب، " تراها عرفت الحب لتفهمني، هي التي لم تعرف معنى الزواج، وتحملت نتائجه فقط، كم تراها مارست الحب في حياتها؟ خمس سنوات من الزواج، كانت خلالها تسكن في بلد وأبي في بلد آخر، ولم يكن يعود من الجبهة من تونس، إلا مرة كل بضعة أشهر، ليقضي معها أياماً لا أكثر، يعود بعدها لقواعد المجاهدين..." .
أما في (عابر سرير)، لم يكن التطرق إلى الجنس بهذا المفهوم، إلا عابراً أثناء الحديث عن تلك العلاقة الروتينية، التلقائية بين البطل وزوجته، أو عند الحديث عن علاقة أبيه كذلك...
" أعتقد أنني خلال سنوات طويلة ما أقمت علاقة جميلة....أكثر مما يعطيني جسدها الذي اعرفه عن ظهر الزواج ! " . ففي هذا تصريح واضح ــ وهو منطقي على كل حال ـــ على إقامة علاقة ما بين الزوجين وذلك بالرغم من قلتها، أو قلة شغفها وشهوتها، ففقدان المتعة في العلاقة الجنسية جعل البطل ينصرف إلى إقامة علاقة مع الكتب على فراش الزوجية.
وهكذا لم تعتمد أحلام مستغانمي على الجنس كفعل دال على ذاته، بل دال على إحدى أوجه الحرية، وصورة من صور المجتمع، حيث يتخذ دلالته الضمنية التي تتوافق وانعكاسها الظاهر على الواقع، ولعل ارتباط هذه الدلالة بالنسيج الروائي، هو من أهم النقاط التي انتبهت لها أحلام مستغانمي.
وعموماً توحي الأحداث بواقعيتها سواء على المستوى الشخصي( مذكرات) أو التي تخص أحداث الثورة والاستقلال، وما تبعها من تغيرات وطنية وعربية، ووصف للواقع الجزائري الراهن.
والجديد في رواية (ذاكرة الجسد) كما هو الحال بالنسبة (لعابر سرير)، أنها استرجاع لأحداث وقعت، منطلقة من النهاية لتتخذ شكلاً دائرياً، وتجعل من النهاية بداية من جديد.
ففي النص الأخير (عابر سرير) ينطلق الراوي الحكي، من ليلة التقائه (البطل خالد الصحفي)، بحياة في منزل زيان، فيستهل السرد بوصف لهفة اللقاء ثم ترتد بعد ذلك إلى الخلف ليحكي الأحداث التي أدت إلى هذا اللقاء انطلاقاً من أحداث الصورة الملتقطة للطفل وكلبه. ويسترسل السرد إلى أحداث الحكاية في باريس، أثناء اللقاء وما عقبه من تطورات.
أما في ( فوضى الحواس)، فإن الترتيب كان تتابعياً ، بدأت القصة بوهم، بحوار قائم بين حبيبين، وانتهت بوهم؛ فشل الحب وموت الحبيب، فهي لا تبدأ هنا إلا من أجل أن تصل، وبوصولها إليه تكتمل الدورة، ولكنها لا تنغلق" .
أما إذا عدنا إلى رواية (ذاكرة الجسد) فإننا نجد في البداية مقدمة استهلالية، تمثل فعل الكتابة الذي به تدخل عالم الرواية، كون أن الرواية الجديدة أصبحت لا تواجه الحكاية بشكل مباشر، منذ البداية، لذلك استعارت شكلاً من أشكال السيرة الذاتية، معتمدة في ذلك على الذاكرة، وهذا لدفع عملية سير الأحداث، فهناك ما يسمى بتعدد النص الروائي، كأن يكون سيرة ذاتية، أو رواية مونولوجية، والسارد هنا في النص المستغانمي يتخذ وضعية شخصية داخلية في القصة المروية ( السرد من الداخل)، وهذا ما يسميه "جيرار جينت" (بالأمود يجتيك) ؛ (homodiegetique)، أي السرد بضمير المتكلم، سرد داخلي كما أسلفنا الذكر.
فجائية الحدث:
لقد تزوجت حياة البطلة في العمل الأول ( ذاكرة الجسد) من رجل آخر غير خالد، وجاء خبر زواجها في الفصل الخامس من الرواية، وقد شكل هذا الفعل صدمة كبيرة للبطل خالد، الذي لم يصور أن تسير الأمور على هذا النحو، وأن تكون الحياة خائنة إلى هذه الدرجة، حيث أنها لا تعطى إلا لأصحاب النفوذ والسلطة.
ولم نفهم من الفصول السابقة سبب الابتعاد والفراق، سوى إيحاء السارد بشك خالد في علاقة عاطفية كانت بين حياة وزياد الفلسطيني، مات زياد ولم يتأكد خالد من صحة هذه العلاقة ليفاجأ بعدها بخبر زواج حياة، ودعوة سي الشريف له، لحضور حفل زفافها بقسنطينة، ولم تجد حياة مبرراً إلا عبارة " لقد أحببتك" لكن القدر أراد زواجها من رجل آخر، خاصة عندما اكتشفت أن حبهما كان أكبر من أحساس بل كان مرضاً.
تقول:"خالد...أتدري أنني أحببتك....ولكنني قررت أن أشفى منك ... كانت علاقة حبنا مرضية، أنت نفسك قلت هذا..." .
من الوهلة الأولى، قد يظهر زواج حياة من رجل آخر غير منطقي، لذلك تهيأ "لفريدة النقاش" أنه وبالرغم من قوة البطلة لبنة الشهيد، التي تحل هنا في النص كرمز دال الوطن الجزائر، فإن هذه الدلالة والرمزية كانت تجافي الواقعية الفجة، لزواجها من رجل فاسد في عمر أبيها، ويدهشنا حقاً أن المرأة الواقعية كاتبة الرواية المتعلمة، لا تتمرد على مثل هذا المصير، بل إنها تقبل ما هو أسوأ من ذلك، المتجسد في طقوس فض البكارة، وإعلان ذلك على الملأ، مصحوباً بتوجه فلكلوري واضح لدى المؤلفة، التي تسجل الأغنيات الشعبية والطقوس بحذافيرها، وهي أوصاف تكررت من قبل عشرات، أو ربما مئات الروايات، لتكتسب العذرية هنا مفهوم ترسيخي في الذاكرة الشعبية، من شأنه أن يعمق مفهوم ونظرة الفرد العربي والجزائري خاصة، لثنائية المتزامنة (العذرية/الشرف) وفق منظور تقليدي رجعي، لا يتماشى مع المستوى العلمي ودرجة الانفتاح التي تكون عليهما المرأة المتعلمة المثقفة، وصولاً إلى الوعي الفكري لدى الرجل العصري.
وهذا التصور "من شأنه أن يكسب العذرية صفة الرمزية للانتهاك، وكأّن الانتهاك يكون أقل وطأة لغير العذراء، إن الكاتبة وهي تصنع الرمز، وجدت نفسها تحشر المرأة الواقعية دون مبرر منطقي في عالم ضيق، ومبتذل أحياناً، فتسقط المرأة الواقعية المتعددة، ولا تكتسب الرمز غنى" .
إن هذا التحليل يدعونا لإعادة النظر، لأنه إذا كانت حياة هي الوطن الذي أصبح في قيادة شريحة ثابتة تناقض أصحاب الجيل السابق؛أي جيل الثورة والمبادئ، فكأن من المستحيل في ظل الظروف هذه أن يكسب خالد في الأخير، وبالتالي فإننا نجد هذا القرار يعكس الظروف التي تعيشها الجزائر، وهذا القرار تكريس لعلامة رمزية تنتظر من متلقيها التجاوب مع صياغتها الفنية.
وهذا النوع من الكتابة عند أحلام مستغانمي، مرتبط بآليات التخييل والتأويل، لتشويش على الملتقي عندما يحدث " اللا متوقع " في صيغة ظهوره وتشكله، فهذا يعني أن الكاتبة " فريدة النقاش" وما ذهبت إليه في تحليلها، لم تبحث فيه عن إيحاء الشخصية الرمزية، ولم تراع مدى اختراق الأديب لما وراء العالم الواقعي، والقصد من الرمز هو " تحويل ذهن القارئ من الواقع إلى ما وراء هذا الواقع، وصولا إلى جوهر الفكرة" ، والرمز يتعدى المباشر إلى الخيال، والوضوح إلى الغموض، ويتسم بالشمولية والتجريد والجدة.
والغريب في الأمر أن فريدة النقاش تدرك أن البطلة رمز للوطن، ولكنها لم تذهب بها فراستها بأن ذلك هو عين الواقع الذي تعيشه الجزائر اليوم.
ومن هنا نجد أن أحلام مستغانمي في رواياتها تكثف عنصر الرمز على الحدث، مما يجعله يضفي على العمل الأدبي جمالاً وغموضاً في نفس الوقت، حيث نجدها ركزت على تاريخ الجزائر وأمجادها، وحاولت جاهدة على أن يكون إخراجه بالصورة التي تليق به، دون تشويه أو تحريف، أو نقص وانتقاص، وهو الشيء الذي كان يوحي بمدى عمق رؤيتها للبعد الوطني، الذي ساعد على تكوين المد الثوري.
هذا بالإضافة إلى أن المؤلف جمع في شخصية حياة عدة تناقضات، ورموز عدة مختلفة، على مستوى الحدث، فمن جهة نجدها تمثل قسنطينة، تلك المدينة بجسورها المعلقة، التي تمثل المنطق الأول لذاكرة جمعت خالد بحياة، قبل خمس وعشرين سنة، ليجسدها في لوحته حنين، كما أن البطل حياة ترمز أيضا إلى المرأة المثقفة، خاصة في ميدان الآداب، كما إنها امرأة الجزائرية في عروقها تجري دماء الثوار، وكأنها توحي إلى الثورة الجزائرية أيضاً، التي من أجلها فقد خالد ذراعه، وهي كذلك المرأة التي ترمز إلى الأصالة والعادات،( وذلك من خلال وصف اللباس العربي، لباس العروس، الأغاني الشعبية، السوار القسنطيني....)، وهي أيضا المرأة المغتربة المشبعة بالثقافة الفرنسية، والعربية على حد سواء، وفي نهاية الرواية تتزوج بعد عودتها إلى قسنطينة برجل ينتمي إلى فئة مميزة من المجتمع، وهنا يقول السارد للدلالة على أن الوطن مسروق من أبنائه، وشعبه، لصالح فئة محدودة، مثل ما حدث مع حياة، وقدر لها أن تتزوج برجل غير الذي أحبته: " أتحدى أصحاب البطون المنتفخة، وذلك صاحب اللحية....وذلك صاحب الصلعة...وأولئك أصحاب النجوم التي لا تعد...وكل الذين منحتهم الكثير...اغتصبوها في حضرتي اليوم" .
ومثلما اعتدا كل الشخصيات على الوطن فإنها تعيش على حسابه الآن، وعلى حساب تاريخه، وهاهم يسرقون الوطن منه مرة أخرى بزواج حياة من الرجل العسكري.
ومع ذلك يمكننا تحديد المؤشرات التي ساعدت للوصول إلى هذا الحدث المفاجئ في ذاكرة الجسد، بخلاف فوضى الحواس وعابر سرير، ونجملها فيما يلي :
1 ــ بداية الابتعاد: ويظهر ذلك في التغير الذي طرأ على سلوك حياة التي أصبحت تتصل بخالد كل أسبوع ثم كل أسبوعين وهكذا دواليك.
2 ــ عدم اتصال حياة بخالد لتهنئته بمناسبة عيد الحب، رغم أن كاترين فعلت ذلك، وهذا يعني رمزياً اللاحب في علاقة خالد مع حياة.
3 ــ عدم وجودها في البيت، عندما دعا سي شريف خالد إلى بيته، للقاء بمجموعة من رجال الأعمال، من بينهم الرجل الذي سيكون زوج حياة في المستقبل.
4 ــ لم تكن هي المعلنة عن زواجها، بالرغم من أهمية مثل هذا الحدث، بل سي شريف هو من تولى دعوة خالد، وأقنعه بضرورة حضور زفاف حياة بقسنطينة.
هذه الأمور مجتمعة توحي بأن هناك خطب ما في العلاقة التي جمع الطرفين، لكن السبب يبقى مجهولاً لدى القارئ، مخفي ضمنيا في الأحداث إلى الفصل الخامس، حينما اكتشفت أن حبهما كان مرضياً.
لقد تعودنا في الروايات السابقة، أن يكون الحدث شائكاً، فيه نخبة من الشخصيات المتصارعة، لكن هذه الطريقة جديدة في العرض، للوصل إلى نتيجة مفاجئة، فيها تختزل الشخصيات المتعددة، في شخصية رئيسة، " فالكاتبة وهي تقوم باستعادة جوانب من ماضي الشخصية الرئيسة، في تداعيات جميلة، تستند عليها في إبراز إحساسها العميق، تهدف من وراء ذلك إلى إثارة أسئلة في الحاضر، وعن الحاضر، فهي لا تؤرخ وإنما تحاول أن تكتشف طريقة في قراءة ذاتها أولاً، والواقع الراهن ثانياً" .
أما في فوضى الحواس؛ فإن سمة مفاجأة الحدث، جاءت من غير تعليل، بخلاف ذاكرة الجسد، بل مجد بها مفارقة في الحدث، حيث تكتشف (الراوية/ البطل) أن الشخص الذي أحبته في قاعة السينما، ليس الرجل الذي التقته في المقهى، وزارته في بيته، واستعارت منه كتاباً للأديب هنري ميشو، بل صديقه المدعو عبد الحق،هذا الأخير الذي سوف نتعرف عليه مع البطلة في الأخير، إلا أن الأمر سيكون متأخراً، إذ سيتم اغتياله، ولن يقدر لها رؤيته هذه المرة، إلا على صفحات الجرائد وهي تعلن عن موته.
مميزات الحدث:
ليس مهماً في روايات " أحلام مستغانمي" أن تحقق علاقات منطقية، وإنما المهم أن تحقق علاقات دلالية، وحواراً فكرياً واجتماعياً، وبعداً نفسياً عبر منظومة تخيلية، تبرز من خلالها المواقف المتباينة والآراء المختلفة، مثلما هي موجودة في الواقع، بطريقة منظمة وكيفية بسيطة، تظهر تعايش الرؤى والمفاهيم داخل المجتمع((النص))، وهذه بالطبع سمة من سمات الرواية الجديدة.
ويمكننا أن نجمل مميزات الأحداث في الرواية كما يلي:
- المفاجأة وعدم التعليل
- الأحداث جاءت متنامية
- تلاحم الزمن بالأحداث التي تتحرك بموجبه، لتكتسب الصيرورة، والانتقال من حال إلى آخر إلى النهاية.
- لم يكن تلاحق الأحداث سريعاً بل بطيئاً، حيث أنها استغرقت في الزمن الحاضر، وعادت فيه إلى الماضي.
- طبعت الأحداث على المواقف بوحدات متقطعة خلال العملية السردية، وانشغالها بما يتداعى من الذاكرة، إذ يمكن توضيح ذلك من خلال حديث السارد عن لقاء جمع خالد وحياة وزياد، في مطعم من مطاعم فرنسا، حيث دار بينهما حوار، يعود السارد مرة أخرى إلى هذا الحدث في صفحات لاحقة، إما للتذكير أو التجديد، أو السخرية أو ربما الموعظة، هذه العودة لتجديد حادثة وحوار كان قد مضى، يؤدي في نظرنا عدة وظائف في المتن الحكائي :
- جديد الحدث (لغرض ما)
- حويله من الماضي إلى الحاضر في ذهن القارئ(ماضي في ذهن السارد، وهو حاضر في ذهن المتلقي)
- الربط بين أجزاء النص
- خلق محور جديد تسير عليه العملية السردية
- خلق بلبلة في الزمن من شأنها تكسير الرتابة التي يسير عليها، وبالتالي شد انتباه القارئ
- خضوع نمو الأحداث لحبكة مفككة، غير متماسكة، حيث أن الفكرة الشاملة هي التي تنظم الحوادث والشخصيات والسرد، وليس ذلك الترابط الذي يصل إلى نهاية في بناء عضوي متماسك.
وهو البناء نفسه الذي سارت عليه الأحداث في رواية عابر سرير، غير أن المفاجأة في الحدث فيها كانت مختزلة في النقاط التالية:
- تبادل الدور في الأسماء، حيث جاء السرد في بداية الحكي، على يد البطل الصحفي، الذي يسمى نفسه ــ لم يرد اسمه الحقيقي في النص ــ خالد بن طوبال، وهو أكيد ليس خالد في ذاكرة الجسد. وهذا من شانه خلق ضبابية على ذهن المتلقي القارئ لثلاثية، لا تنفك حتى تحدث زيارة خالد لمعرض زيان.
- اكتشاف خالد لزيان، وهو الملقب بخالد في الرواية الأولى، وكذا فرنسواز الملقبة بكاترين.
- مفاجأة المنزل كما هو موصوف سابقاً من طرف حياة في العمل السابق.
- اللقاء الذي رتبته الصدفة، خارج نطاق قسنطينة والجزائر، وخارج المدن العربية؛ مدن الخوف كما كانت تتمنى حياة.
وعموماً نجد روايات أحلام مستغانمي ( ذاكرة الجسد، فوضى الحواس، عابر سرير) لم تعد تحكي قصة أو حكاية فقط، وإنما جاءت " لتمثل المغامرات اللغوية والفكرية والإنسانية.....ولا شيء منتظم.....حتى الزمن" .
هوامش:
ا.محمد بلوافي
(المركز الجامعي لتامنغست)
الملخص
[لقد سعيت في هذا المقال إلى إيضاح وتبيان أن النص الأدبي المستغانمي، قد أصاب إلى حد كبير في التعبير عن الفرد الجزائري، وخصوصا من خلال ثلاثيتها المشهورة؛ ذاكرة الجسد1993، فوضى الحواس1997، عابر سرير2003.... من خلال الرمزية والتعمية، والشعرية التي دمجت مع الأسلوب النثري، في مزاوجة، قلما صادفنها لدى الكتاب، والسرد الواقعي الاجتماعي، الذي ينطلق من صميم ذاكرة الشعب الجزائري، وهو ما حاولت توضيحه من خلال مدارسة عنصر الحدث الذي يحيك بناء خيوط هذه التحفة الفنية.]
résumé:
] Je voulais à travers cet article, éclaircir et démontrer que le texte littéraire de MOSTAGHANEMI, a ciblé largement l'expression de l'individu algérien, notamment à travers son triple célèbre travail ; la mémoire de la chair (Dhakirato ljasad)1993, le chaos des sens (fawda lhawas) 1997, passager d’un lit (abir sabil) 2003 … A partir du symbolisme de la poétique intégrés au style de la prose, dans une combinaison rare chez les écrivains. Ainsi le récit de l’actualité sociale issue du mémoire du peuple algérien. Ce que j’ai voulu éclaircir à partir de l’étude du fait qui tisse les fils de
ce fait artistique. [
مقدمة:
حاولت الرواية العربية عموماً، والجزائرية خصوصاً ولازالت، استبدال الأدوات التقليدية، التي ينبني بها وعليها الحدث السردي، بصورة أكثر جمالية وشاعرية، من دون أن تخسر هويتها وخصوصيتها التي تتميز بها عن أقرانها، وفي ذلك استجابة طبيعية، بل وحتمية، لمتطلبات الواقع، ومن خلال التعبير عنه بوجه آخر مغاير للمألوف، وهذا في ظل التحولات الحضارية والاجتماعية والاقتصادية، بل حتى السياسية.
كما يلاحظ في السنوات الأخيرة أن الموجة الثورية العارمة التي تجتاح الوطن العربي تتطلب فكراً راقياً، وعقلاً واعياً، وقلماً جريئاً، للتعبير عنها بصورة حية، فيها من الجمال والأدبية والواقعية، ما يجعلها تأسر قارئها، بدءا من أولى عتباتها، ويبدو أنها قد أصابت فيما كانت ترمي إليه إلى حد معين .
والأديبة الجزائرية ــ مستغانمي ــ تعتبر من بين الأسماء التي نجحت في تمثيل الأدب الجزائري، وأعطت صورة طيبة عن الرواية العربية عامة، وليس الجزائرية فقط، وخصوصاً من خلال ثلاثيتها المشهورة؛ ذاكرة الجسد، فوضى الحواس، عابر سرير.
فـ(ذاكرة الجسد) الصادرة عن دار الآداب بيروت 1993، والتي وصل عدد طبعاتها إلى أكثر من 20 طبعة، والحاصلة على عدة جوائز منها ؛ جائزة مؤسسة نور بالقاهرة 1996 لأحسن إبداع نسائي بالعربية، وجائزة جورج تراباي، وجائزة نجيب محفوظ 1998.أما (فوضى الحواس) فهي أيضا صادرة عن دار الآداب بيروت 1997، وهي لا تقل صنعة عن الأولى، إذ حظيت منذ صدورها باهتمام بالغ من النقاد، والقراء على حد سواء.وأما( عابر سرير) فهي من منشورات أحلام مستغانمي، 2003.
ويعتبر كلا العملين الأخيرين؛ فوضى الحواس، وعابر سرير، تتمة لقصة بدأتها الكاتبة مستغانمي في الرواية الأولى ذاكرة الجسد، بمعنى آخر؛ أن الأعمال الثلاثة مجتمعة هي بمثابة عمل أبداعي واحد متكامل.
ومن المعروف أن هاته الروايات دون غيرها من أعمال الكاتبة قد حظيت بإقبال القراء والنقاد الوافر، وما ذاك إلا بفضل الكيفية التي بنت بها الروائية أحداث رواياتها، فكيف تشكلت معمارية البناء الروائي في الثلاثية؟ وما هي العناصر الأكثر استحواذا على الأحداث فيها؟
معمارية بناء الحدث :
إن تشكيلة الأحداث عند الكاتبة أحلام ضمن مجموعة الأعمال السابقة الذكر، بداية من ذاكرة الجسد، نجدها في معظمها عبارة عن أحداث مسترجعة ، قائمة في أبسط صورها على وسيلة التذكر، لأن مضمون الرواية في حد ذاته يرصد وعياً وحركة أكثر مما يريد سرد وقائع لأحداث معينة.
وترتيب الأحداث عموماً عند الكاتبة، هو ترتيب غير متسلسل، بل يعنى بإبراز الشخصية، وتزويد القارئ بمعلومات عنها ..." وفي هذا النوع من الروايات، يحس القارئ بامتلاء المكان امتلاء مبالغا فيه" .
وهذا المضمون ما هو إلا سمة من سمات الرواية الجديدة، التي تأخذ الطابع الفكري التأملي، بغض النظر عن نوع هذه الأحداث، سواء أكانت اجتماعية، أم سياسية، أم اقتصادية، بل تتعدى ذلك لتأخذ طابع الجدل والتنافر مع الواقع، وتعكس اختلافاً واسعاً بينهما، وبين طابع التدوين والتسجيل والتسلسل المنطقي القائم في الرواية التقليدية.
وعليه فإن هذا النمط من الكتابة، غير خاضع لنمطية محددة ومعروفة، على نحو الرواية التي تقوم بترتيب الحدث، ترتيباً زمنيا منطقياً لتصل بذلك إلى عمق الحبكة والإشكال، ثم تنتهي إلى نتيجة ما.
ثم إن هذه الأحداث غير مرتبة بحبكة متماسكة، بحيث يؤدي التقديم أو التأخير فيها إلى فك الحبكة. وإذا كان الأمر كذلك، فأين تكمن نقطة أو بؤرة التأزم بالنسبة للحكاية، و أين يحدث تداخل وتشابك الأحداث، وأين هي العقدة بالمفهوم الروائي التقليدي؟
عندما نتعمق في النص نجد أن الأزمة، أو الإشكالية؛ هي فكرية ــ أو ربما نفسية بالدرجة الأول ـــ تمثلها الشخصيات وهي تتأزم أمامنا وتتألم، وفي هذا المقام يقول زعموش عن ذاكرة الجسد:" ولأن الرواية الجديدة تطبعها خاصية فقدان الأمل في إمكانية التصالح مع الواقع، فإن الكاتبة "أحلام مستغانمي" تنطلق من هذا المبدأ الذي يجعل شخصياتها تعاني أكثر مما تبني رؤية مستقبلية... ويصير مضمون الرواية؛ تعبيراً عن أزمة فكرية أكثر منها اجتماعية" .
أما الإشكالية، أو العقدة، أو الحبكة، فإننا نشعر بها منذ بداية النص الروائي، تنمو مع تقدم سير الأحداث، وهي تتأزم توازياً مع مصير البطل، ليصل في نهاية المطاف إلى نتيجة غير متوقعة لدى القارئ.
إن أزمة النص تتجلى على مستوى الشخصيات، في حين أن العقدة التي كانت سمة في الرواية التقليدية، نجدها إنما تتشكل في خيال وذهن المتلقي، القارئ، وذلك بفعل كل تلك القضايا والتأملات والإشكاليات المطروحة على رصيف السرد؛ ( الحب، الحياة، الموت، الوطن، الذاكرة، الحرية، الأمل، الخيبات،...) على مستوى الحدث والشخصية والنص، فيشارك بذلك القارئ الشخصيات، في معاناتها وتأزمها النفسي. ومن ثم فإن تأزم الشخصية النفسي، هو ما يقود الحدث، وليس العكس، ويتضح هذا في بعض المواقف نذكر منها على سبيل المثال:
في (فوضى الحواس)
بينما نجد الأمر يختلف نوعاً ما، في عابر سرير، وذاكرة الجسد:
أما في عابر سرير:
وهكذا يزداد التأزم، وتكبر الإشكالية عند القارئ، ويزداد الغموض والإبهام لدى المتلقي، وذلك عن طريق تداخل الحيثيات المشكلة للبناء السردي، كلما سار تقدماً.
بينما يتسم الحدث أحيانا بسمة التوتر كما هو في فوضى الحواس: يتضح من خلال الخطاطة التالية:
ويمكن أن نجد بناءاً مشابها لها في عابر سرير:
بل الأمر يتعدى هذا اللامتوقع، حيث أن إشكالية النص لا نجدها تتحدد في موضع واحد في النص، بل خيوطها منسدلة من بداية فعل السرد، وهذا ما يزيد من تعقيد الوضع للقارئ، ويمكن توضيح ذلك بالمخطط التالي:
إشكالية أحداث قضايا نتيجة مفاجئة للبطل
لدى القارئ أحداث تأمل تأزم الوضع
لقد استبدلت الرواية الجديدة، أغلب عناصرها الفنية، ويمكن أن نرى ذلك عموما في مختلف عناصر البناء التركيبي الذي يتبنين عليه النص، لكني أخص بالذكر هنا عنصر الحدث، الذي تَنسِج عليه خيوط القصة والحكاية؛ الحبكة النصية، وبالتحديد أتحدث عن الحدث الجنسي، وتواجده ضمن المتن، من الهيئة إلى الغاية.
نجد أن المؤلف لم يتطرق إلى هذه المسألة، أو معالجة هذا المحور، على مستوى الأعمال الفنية الروائية، بصورة سطحية ومباشرة، كما كان معروف في الكتابات الروائية الأخراة، فقد تجاوز الأمر الوصف والتصريح، إلى الدلالة والرمز، وهما أستحضر عنوان الرواية الأخيرة " عابر سرير" إذ يكمن فيها الإيحاء من أول عتبة نصية تعترضنا، آلا وهي العنوان، فمن خلال استعمال لفظة سرير تكمن هناك دلالة كبيرة على الفعل الذي يجري عليه، بينما كلمة عابر؛ فإنما تدل بدورها على كون الفعل متكرر، لأكثر من مرة، ومتعدد مع أكثر من شخص،" بدأت مشواري في الحياة كعابر سرير... حتى السرير الأخير" .
ولكن بالرغم من ذلك يبقى مظهر الحدث الجنسي متجلياً في النص الروائي المستغانمي، ويمكن أن نتبينه كما يلي:
1 ـــ الجنس: فعلا بيولوجيا قاتلا للرغبات المكبوتة:
يتجسد في علاقة خالد بكاترين، هذه العلاقة التي كانت تفرضها الطبيعة البيولوجية للإنسان، وواقع الغربة، والبيئة الغربية، هذه العلاقة غير الشرعية ساعدت على انتشاله من صراعه النفسي، ومن حدة اليأس، ووهم الوحدة الرهيب.
يقول السارد في ذاكرة الجسد: "أكانت حقاً متعبة إلى هذا الحد، أم أصبحت فجأة تغار علي أو تغار مني.....أم جاءت بجوع مسبق.....كالعادة، لم أحاول أن أتعمق في فهمها، فقد كنت أريد لأن أستعين بها لأنسى، كنت سعيداً أن أختصر معها يوماً أو يومين من الانتظار....انتظارك أنت! وكنت في حاجة إلى ليلة حب بعد شهر من الوحدة والركض، إعداد كل تفاصيل هذا المعرض" .
نجد فيما سبق دلالة على أن الجنس، إنما كان أمرا واقعيا تفرضه البيئة والظروف، ولم يخصه السارد برؤية معينة، بل لم يعد كونه ضرباً جنونياً فقط،
يقول" كان بيننا تواطؤ جسدي ما، يشع بيننا تلك البهجة الثنائية، تلك السعادة السرية التي نمارسها دون قيود....شرعية الجنون .
كما نجد الجنس قد وفر لدى بعض الشخصيات نوعا من السلوى، وإشباع الرغبات المكبوتة، لذلك كانت كاترين تقول: "ينبغي ألا نقتل علاقتنا بالعادة، ولهذا أجهدت نفسي حتى لا أتعود عليها، وأن أكتفي سعيداً عندما تأتي، وأن أنسى أنها مرت من هنا عندما ترحل .
نفس هذه الإشارة إلى هذه الرغبة البيولوجية، نجدها في رواية فوضى الحواس، في قولها:"ورغم ذلك في الصباح، أنج من جسدي، كنت أستيقظ وتستيقظ رغبة داخلي، تلفني رائحة شهوتي، فأبقى للحظات، مبعثرة تحت شرشف النوم النسائي الكسول، يستبقني إحساس بمتعة مباغتة، لم أسع إليها، جاءني البحر حتى سريري ليتحرش بي" . وكذلك في عابر سرير،"فقد كنت على جوعي الجسدي رجلا انتقائياً في حرماني كما في متعتي، أنا المولع بانحسار الثوب على جسد متوهم، ما وجدت في جسدها المكشوف مكمن فتنتي" .
" كانت إثارتها في إغرائها الموارب، في تلك الأنوثة التي تحت صخب الموسلين ترقص وكأنها تبكي، ... كان في الجو براعم جنون لشهوات مؤجلة أزهرت أخيراً خارج بساتين الخوف .
2 ـــ الجنس؛ فعلا غير محقق (رغبة):
أول ما يطالعنا في هذا الباب هي الثنائية التي حكمت النص المستغانمي، بفصوله الثلاث، ألا وهي (الحلم/الواقع)، فإذا ما أمعنا النظر في طبيعة العلاقة التي ربطت البطل ب حياة، نجدها غالباً ما تكون حقيقية مغلفة بالخيال؛ واقع داخل حلم، الأمر الذي يزيد من ضبابية الموقف، وغموض الفكرة لدى المتلقي ــــ هل العلاقة واقع أم خيال ــــ ويزيد من تشويش الموقف ؛ طبيعة السرد المستعملة من طرف المؤلف.
" على حافة العقل والجنون ...وفي ذلك الحد الذي تلغيه العتمة والفاصل بين الممكن والمستحيل...كنت أقترفك...كنت أرسم بشفتي حدود أنوثتك... أرسم بيدي كل ما لا تصله الفرشاة...بيد واحدة كنت أحتضنك ... وأزرعك وأقطفك... وأعريك وألبسك وأغير تضاريس جسدك لتصبح على مقاييسي" .
كما نجد أن خالد يحلم بحياة في أرض الواقع، ويقدم على تحقيق رغبته على مستوى أحلام اليقظة فقط، يقول السارد: "
أنت لي الليلة ككل ليلة، فمن سيأخذ طيفك مني؟ من سيصادر جسدك من سريري؟ من سيسرق عطرك من حواسي؟ ومن سيمنعني من استعادتك بيدي الثانية...أنت لذتي السرية، وجنوني السري، ومحاولتي السرية للانقلاب على المنطقة.... كل ليلة تسقط قلاعك في يدي، تستسلم حراستك لي، وتأتين في ثياب نومك لتتمددي إلى جواري" .
ويعترف السارد بهذا الحلم وهذا الجنون يقول:" فليكن....سأعترف لك... بعد كل نلك السنوات أنني وصلت معك يوماً إلى ذلك الحد المخيف من اللاعقل، ذلك الرجل المجنون الذي تحلمين به" .
وفي هذا الصدد تحلم الساردة في "فوضى الحواس" برغبة أن تنال " عبد الحق" لكن الموت أبعده عنها.
هل أمارس الحب إذن؟ ومع من؟ وكيف لي أن آتي المتعة بذريعة موت رجل تمنيت أن أكون له يوما....ولم أكن؟" .
وتصرح في موضع آخر في قولها :".. وبالتالي لن يكون زوجي هنا في الغد ليقاسمني ضجري، ولكوني عائدة من حمام نسائي أشعل شهوتي، بي رغبة في أن أهدي أنوثتي إلى رجل" .
وفي موقع آخر من رواية عابر سرير، نجد شهوة خالد المكبوتة، وفراقه لمدة سنتين عن حياة، جعلته يحلم دائما، ويتطلع إلى إشباع رغبته حتى لو بالأحلام والأوهام التي يرسمها وفقاً لما ينتقيه من نساء.
يقول حين أدركته الشهوة أول مرة، أمام تلك المرأة البولونية:" شاهدتها ذات صباح ترتدي روب الحمام الأبيض، وتقوم بتجفيف شعرها أمام المرآة،لم يكن يبدو منها شيئاً،...لكنها كانت شهية بشعرها المبلل وحركاتها المغرية.... وكنت في عمر الاكتشافات الأولى، مشتعلا بها" .
وفي موضع آخر يقول:" قررت أن أتناول قهوتي الصباحية مع فينوس، الأنثى الوحيدة الموجودة في البيت، ...تنتظر لهفة يديك، أو أوامر من عينيك لتسقط ملاءتها أرضاً وتصبح امرأة" .
3 ــــ الجنس فكرة روحية:
لقد كانت بالنسبة لخالد روحاً ووطناً، ولم يفكر بها باعتبارها أداة للمتعة والجنس فقط، " لم تكن مشكلتي معك مجرد شهوة، لو كانت كذلك لحسمتها يومها بطريقة أو بأخرى" .
وهي بالنسبة له ذاكرة، وامرأة فوق كل الشبهات، حيث كانت القذارة تحيط به من كل مكان، إلا أن روحه لم يجدها إلا في روح حياة، يقول:" كانت القذارة المتوارثة أمامي في عيون معظم النساء الجائعات لأي رجل كان،في عصبة الرجال الذين يحملون شهوتهم تراكماً قابلاً للانفجار، أمام أول أنثى" .
إن الحلم يستدعي الرغبة، واستخدام خالد لكلمة ( الرغبة) يدل عموماً على ممارسة وتحقيق الشخصية لمتطلاعتها ورغباتها على مستوى الحلم، ومنه يتضح أن الرغبة لدى خالد ترقى عن الجسد، إلى مستوى تلك الرغبة الروحية الفلسفية، "رغبة جنونية تولد في مكان أخر خارج الجسد، من الذاكرة أو ربما من اللاشعور، من أشياء غامضة تسللت إليها أنت ذات يوم، وإذا بك الأروع، وإذا بك الأشهى، وإذا بك كل النساء أنت" .
وعليه تتحول نظرة الشخصية للرغبة ومفهومها لها، " إلى مفهوم جنسي، لكنه ذهني، يقوم على افتراض الحاجة إلى تلك الرغبات، وهذا من شأنه أن يختزل العلاقة التي طالما حلم بها، إلى مجرد رغبة ذهنية" .
وفي ظل هذا المعنى تقول الراوية في فوضى الحواس، وهي في معرض الحديث عن وقت الرغبة والشهوة:" ماذا يفعل الناس أثناء هذا بوقتهم وأجسادهم؟ وكيف ينفقون هذه الساعات؟ ولماذا في العصر دون أي وقت آخر، ذبذبات عالية من الشهوة تسيطر على تلك الغرف النسائية التي تنتقل فيها النساء بثياب البيت.. متكاسلات.. ضجرات؟" .
4 ــــ الجنس فوضى وبيروقراطية:
إنها فلسفة نفعية جديدة في مجتمعاتنا، تبيح الجنس بين الرجل والمرأة، لا لمجرد تفريغ الشحنة وإجابة الغريزة، بل لقضاء الحاجة وفي سبيل المصلحة، وهنا يتخذ الجنس طبيعة التدمير والفوضى، " بشكل يهدد النظام المشروع لتلبية الغريزة بالفناء، وأصبح لهؤلاء من النفوذ في المجتمع، ما استطاعوا به تهيئة بعض الأذهان لما يدعون إليه" .
" الحرام هو ما يمارسه بعضهم بطرق عصرية، كأن يرسل أحدهم ابنته أو زوجته أو أخته لتحضر له ورقة من إدارة، أو تطلب شقة أو رخصة لمحل تجاري نيابة عنه، وهو يعلم أن لا أحد هنا يعطيك شيئاً بلا مقابل" .
لقد أصبح لهؤلاء المسؤولين الأثر في توجيه مبادئ الفوضى الجنسية، في صورة عملية، تسهل الحرام وتحبب الفاحشة في مجتمعاتنا العربية الإسلامية.
" إنه ما يحدث الآن في أكثر من مدينة... وفي العاصمة بالذات...حيث يمكن لأي فتاة أن تمر بمكتب ما في الحزب، أن تحصل على شقة أو خدمة أخرى...والجميع يعرف العنوان طبعاً، ويعرف اسم من يوزع الشقق والخدمات على النساء والشعارات على الشعب بالتساوي.. يكفي أن ترى منظر الفتيات اللاتي يدخلن هناك لتفهم كل شيء...." .
5 ـــ الجنس فعلا محظورا:
بما أن المؤلف وتركيبة الأبطال، ذو ذهنية، أو خلفية، أو عقلية جزائرية إسلامية، فانه من المعروف لديها أن الجنس أمر محظور شرعاً، والأمر يكون أكثر حزماً وتشدداً إذا ما تعلق بالمرأة على حساب الرجل، وهذه قضية تعود إلى العرف العربي، وهنا نستحضر موقف ديننا الحنيف من الزنا أو الجنس غير المقنن، وهو موقف صارم وحازم، يتوخى المصلحة الاجتماعية والأسرية، وكذا سلامة الفرد؛ يقول تعالى: (( ولا تقربوا الزنا )) الإسراء 23.
لذلك فإن سعت إليه الشخصية، أو قامت به، إنما يكون في إحدى الصور التالية؛ كبت، منع، رغبة سرية، فكرة محظورة، خاصة كما سبق الذكر؛ على المرأة، يقول السارد: " هناك جارات تتقاطع خطواتي بهن مراراً في هذه البيوت العربية المشتركة، وأدري رغبتهن السرية في الحب
تعلمت مع الزمن، أن أفك رموز نظرات النساء المحتشمات... والمبالغات في اللياقة والمفردات المؤدبة.
ولكنني كنت أتجاهل نظرتهن ودعوتهن الصامتة إلى الخطيئة، لم أعد أدري اليوم...أكنت أتصرف كذلك عن مبدأ، أم عن حماقة وشعور غامض بالغثيان" .
" كانت تقول إننا نحتاج إلى مدينة ثالثة ليست قسنطينة ولا الجزائر، لا تكون مدينتي، ولا مدينتها، مدينة خارج خارطة الخوف العربية" .
فالجنس محظور على المرأة، متسامح فيه مع الرجل، في هذا المقام نجد السارد يسخر من أزواجهن ــ الرجال أزواج النساء ــ في قوله: " كنت في الواقع أشفق عليهن...وأحتقر أزواجهن الذين يسيرون كالديوك المغرورة دون مبرر...
سوى أنهم يمتلكون في البيت دجاجة ممتلئة، محتشمة، لم يقربها أحد ربما عن قرف !...
" لفت انتباهي أن أبي، على غير عادته، أصبح يغلق علينا باب الغرفة بالمفتاح، بعد أن كان...فتسرع النساء إلى أول غرفة ويغلقن عليهن الباب...فرأيته يدخل مع امرأة بملاءة سوداء،...من يومها بدأت زوجة أبي ... تتجسس....وترى نساء بهيئات مختلفة يعبرن كل مرة وسط الدار،...فهي لم تجرؤ حتى على إخباره..خشية أن يغضب ويعيدها إلى أهلها" .
فغلق باب الغرفة التي بها الأهل من طرف الأب، يدل على أنه يدرك سوء ما يقبل عليه، مما يجعله يتوارى على الأنظار. كما أن الصمت الذي لاذت إليه الزوجة بعد معرفة خيانة زوجها لها في بيتها، يدل على المنظور الاجتماعي للخيانة من طرف الرجل على حساب المرأة، فهي تخاف على نفسها دون خيانة فما بالها لو كانت الخيانة من طرفها، ما كان ليكون عقابها؟؟؟.
كما أن الرسام خالد بطل ذاكرة الجسد، كان زانياً، والجنس عنده من منظور اجتماعي لا يختلف عن البقية، إذ هو محظور على المرأة ،و على المتزوجة بصفة أكبر، دون غيرها من الرجال، الذين دائما لديهم التبرير والمبرر.
" ولكن كان عليّ أن أقاوم رغبتي الحيوانية ذلك اليوم، وألا أترك المدينة تستدرجني إلى الحضيض.
فهناك مبادئ لا يمكنني التخلي عنها مهما حدث، كأن أعاشر امرأة متزوجة تحت أي مبرر كان" .
وربما يعود سبب هذا الحظر ــ المتعلق بالمرأة المتزوجة ــ في مبادئ البطل إلى عاملين أثنين هما :
أولاً: كون أن ذلك يعد خيانة، باعتبار أن الزواج رباط مقدس.
ثانياً: حب في الحرية، وعدم المشاركة، وخوفاً من اختلاط الأنساب،
لكن الزنا هو الزنا في تشريعنا الديني، سواء كان بامرأة متزوجة، أو بغيرها، ومع ذلك لم يكن الجنس لذاته يهم خالد ، وإنما كان هروباً من الواقع المر الذي تعيشه البلاد، وحالة الخوف الدائمة، والموت المتربص بالشخص في كل زاوية ومكان، فكان يلجأ إلى الجنس لخلق عالم آخر يجد فيه نفسه.
" في النهاية لم يكن السرير مساحة للذتي، ولا لطقوس جنوني. وحدها تلك المساحة البيضاء المشدودة إلى الخشب كانت قادرة على إفراغي من ذاتي" .
كما أن اهتمامه بحياة لذاتها لأنه كان يجد فيها الوطن الغائب. ولذلك كان حبه لها أكبر من الجنس.
" أتحداهم أن يحبوها مثلي، وحدي أحبها دون مقابل" .
6 ـــ الجنس فعلا ضد الرغبة:
يرد الجنس في النصوص الروائية في بعض الأحيان بصورة روتينية ، أو كفعل بيولوجي ضد رغبة الشخص، يجسد من خلاله تلك الكآبة في الحياة الاجتماعية التي يعيشها المجتمع، في ظل ما يفرض عليه من قوانين، وقلة ما يعرض عليه من اختيارات،
" لا أكثر كآبة من فعل حب لا حب فيه"
" بدون لهفة ولا شغف، يؤثثها ذلك الصمت الذي يلي ضجة الجسد تلك الخيبة الصامتة، الندم المدفون تحت الكلمات" .
" أثناء حديثها عن معاشرة زوجها مكرهة (( لا بد أن توضع على أبواب غرف النوم (( ممنوع التلويث)) ...ذلك أننا نلوث دائما بمن لا نحب)) .
" كان عزائي أن كل مساء ملايين البيوت ينزل عليها الليل كما ينزل علينا، بذلك القدر من نفاق المعاشرة" .
7 ـــ الجنس فعلا مشروعا ومقبولا:
رأينا عدة أوجه، قد ورد بها مفهوم الجنس في النص المستغانمي، وهنا نجد أن الكاتبة قد طرحت الجنس أيضا ضمن إطاره الشرعي، عن طريق الزواج، وقد في هذا الإطار نجد البطل خالد قد كان يتمنى دائماً، ويحلم بذلك اليوم الذي يمتلك فيه حياة، في إطار الزواج الشرعي يقول:" دعيني أحلم أن الزمن توقف...وأنك لي، أنا الذي قد أموت دون أن يكون لي عرس، دون أن تنطلق الزغاريد يوما من أجلي، كم أتمنى اليوم لو سرقت كل هذه الحناجر النسائية، لتبارك امتلاكي لك." .
وكم كان صعباً عليه حضور زفاف من يحب، " وضعت قناع الفرح على وجهي، وحاولت أن احتفظ به طوال تلك السهرة، يقول في معرض تحية العريس:"أحاول أن أنسى أنني أتحدث لزوجك، لرجل يتحدث إلى مجاملة على عجل، وهو يفكر ربما في اللحظة التي سينفرد فيها بك في آخر الليل..." .
يساءل خالد إن كانت حياة الآن حبيبته بعد أن أصبحت في عصمة رجل آخر، حيث يكون الجنس لهما حقاً مباركاً، يقول: " أكنت حبيبتي حقاً في تلك اللحظة التي كان رجل آخر فيها إلى جوارك، يلتهمك بعينين لم تشبعها ليلة حب كاملة، في تلك اللحظة التي كان فيها الحديث يدور حول المدن التي ستزورينها في شهر العسل..." .
والصورة نفسها نلمسها في (فوضى الحواس)، وهي في معرض الحديث عن الحب، وكيف كان أمره بين أبيها وأمها أثناء الحرب، " تراها عرفت الحب لتفهمني، هي التي لم تعرف معنى الزواج، وتحملت نتائجه فقط، كم تراها مارست الحب في حياتها؟ خمس سنوات من الزواج، كانت خلالها تسكن في بلد وأبي في بلد آخر، ولم يكن يعود من الجبهة من تونس، إلا مرة كل بضعة أشهر، ليقضي معها أياماً لا أكثر، يعود بعدها لقواعد المجاهدين..." .
أما في (عابر سرير)، لم يكن التطرق إلى الجنس بهذا المفهوم، إلا عابراً أثناء الحديث عن تلك العلاقة الروتينية، التلقائية بين البطل وزوجته، أو عند الحديث عن علاقة أبيه كذلك...
" أعتقد أنني خلال سنوات طويلة ما أقمت علاقة جميلة....أكثر مما يعطيني جسدها الذي اعرفه عن ظهر الزواج ! " . ففي هذا تصريح واضح ــ وهو منطقي على كل حال ـــ على إقامة علاقة ما بين الزوجين وذلك بالرغم من قلتها، أو قلة شغفها وشهوتها، ففقدان المتعة في العلاقة الجنسية جعل البطل ينصرف إلى إقامة علاقة مع الكتب على فراش الزوجية.
وهكذا لم تعتمد أحلام مستغانمي على الجنس كفعل دال على ذاته، بل دال على إحدى أوجه الحرية، وصورة من صور المجتمع، حيث يتخذ دلالته الضمنية التي تتوافق وانعكاسها الظاهر على الواقع، ولعل ارتباط هذه الدلالة بالنسيج الروائي، هو من أهم النقاط التي انتبهت لها أحلام مستغانمي.
وعموماً توحي الأحداث بواقعيتها سواء على المستوى الشخصي( مذكرات) أو التي تخص أحداث الثورة والاستقلال، وما تبعها من تغيرات وطنية وعربية، ووصف للواقع الجزائري الراهن.
والجديد في رواية (ذاكرة الجسد) كما هو الحال بالنسبة (لعابر سرير)، أنها استرجاع لأحداث وقعت، منطلقة من النهاية لتتخذ شكلاً دائرياً، وتجعل من النهاية بداية من جديد.
ففي النص الأخير (عابر سرير) ينطلق الراوي الحكي، من ليلة التقائه (البطل خالد الصحفي)، بحياة في منزل زيان، فيستهل السرد بوصف لهفة اللقاء ثم ترتد بعد ذلك إلى الخلف ليحكي الأحداث التي أدت إلى هذا اللقاء انطلاقاً من أحداث الصورة الملتقطة للطفل وكلبه. ويسترسل السرد إلى أحداث الحكاية في باريس، أثناء اللقاء وما عقبه من تطورات.
أما في ( فوضى الحواس)، فإن الترتيب كان تتابعياً ، بدأت القصة بوهم، بحوار قائم بين حبيبين، وانتهت بوهم؛ فشل الحب وموت الحبيب، فهي لا تبدأ هنا إلا من أجل أن تصل، وبوصولها إليه تكتمل الدورة، ولكنها لا تنغلق" .
أما إذا عدنا إلى رواية (ذاكرة الجسد) فإننا نجد في البداية مقدمة استهلالية، تمثل فعل الكتابة الذي به تدخل عالم الرواية، كون أن الرواية الجديدة أصبحت لا تواجه الحكاية بشكل مباشر، منذ البداية، لذلك استعارت شكلاً من أشكال السيرة الذاتية، معتمدة في ذلك على الذاكرة، وهذا لدفع عملية سير الأحداث، فهناك ما يسمى بتعدد النص الروائي، كأن يكون سيرة ذاتية، أو رواية مونولوجية، والسارد هنا في النص المستغانمي يتخذ وضعية شخصية داخلية في القصة المروية ( السرد من الداخل)، وهذا ما يسميه "جيرار جينت" (بالأمود يجتيك) ؛ (homodiegetique)، أي السرد بضمير المتكلم، سرد داخلي كما أسلفنا الذكر.
فجائية الحدث:
لقد تزوجت حياة البطلة في العمل الأول ( ذاكرة الجسد) من رجل آخر غير خالد، وجاء خبر زواجها في الفصل الخامس من الرواية، وقد شكل هذا الفعل صدمة كبيرة للبطل خالد، الذي لم يصور أن تسير الأمور على هذا النحو، وأن تكون الحياة خائنة إلى هذه الدرجة، حيث أنها لا تعطى إلا لأصحاب النفوذ والسلطة.
ولم نفهم من الفصول السابقة سبب الابتعاد والفراق، سوى إيحاء السارد بشك خالد في علاقة عاطفية كانت بين حياة وزياد الفلسطيني، مات زياد ولم يتأكد خالد من صحة هذه العلاقة ليفاجأ بعدها بخبر زواج حياة، ودعوة سي الشريف له، لحضور حفل زفافها بقسنطينة، ولم تجد حياة مبرراً إلا عبارة " لقد أحببتك" لكن القدر أراد زواجها من رجل آخر، خاصة عندما اكتشفت أن حبهما كان أكبر من أحساس بل كان مرضاً.
تقول:"خالد...أتدري أنني أحببتك....ولكنني قررت أن أشفى منك ... كانت علاقة حبنا مرضية، أنت نفسك قلت هذا..." .
من الوهلة الأولى، قد يظهر زواج حياة من رجل آخر غير منطقي، لذلك تهيأ "لفريدة النقاش" أنه وبالرغم من قوة البطلة لبنة الشهيد، التي تحل هنا في النص كرمز دال الوطن الجزائر، فإن هذه الدلالة والرمزية كانت تجافي الواقعية الفجة، لزواجها من رجل فاسد في عمر أبيها، ويدهشنا حقاً أن المرأة الواقعية كاتبة الرواية المتعلمة، لا تتمرد على مثل هذا المصير، بل إنها تقبل ما هو أسوأ من ذلك، المتجسد في طقوس فض البكارة، وإعلان ذلك على الملأ، مصحوباً بتوجه فلكلوري واضح لدى المؤلفة، التي تسجل الأغنيات الشعبية والطقوس بحذافيرها، وهي أوصاف تكررت من قبل عشرات، أو ربما مئات الروايات، لتكتسب العذرية هنا مفهوم ترسيخي في الذاكرة الشعبية، من شأنه أن يعمق مفهوم ونظرة الفرد العربي والجزائري خاصة، لثنائية المتزامنة (العذرية/الشرف) وفق منظور تقليدي رجعي، لا يتماشى مع المستوى العلمي ودرجة الانفتاح التي تكون عليهما المرأة المتعلمة المثقفة، وصولاً إلى الوعي الفكري لدى الرجل العصري.
وهذا التصور "من شأنه أن يكسب العذرية صفة الرمزية للانتهاك، وكأّن الانتهاك يكون أقل وطأة لغير العذراء، إن الكاتبة وهي تصنع الرمز، وجدت نفسها تحشر المرأة الواقعية دون مبرر منطقي في عالم ضيق، ومبتذل أحياناً، فتسقط المرأة الواقعية المتعددة، ولا تكتسب الرمز غنى" .
إن هذا التحليل يدعونا لإعادة النظر، لأنه إذا كانت حياة هي الوطن الذي أصبح في قيادة شريحة ثابتة تناقض أصحاب الجيل السابق؛أي جيل الثورة والمبادئ، فكأن من المستحيل في ظل الظروف هذه أن يكسب خالد في الأخير، وبالتالي فإننا نجد هذا القرار يعكس الظروف التي تعيشها الجزائر، وهذا القرار تكريس لعلامة رمزية تنتظر من متلقيها التجاوب مع صياغتها الفنية.
وهذا النوع من الكتابة عند أحلام مستغانمي، مرتبط بآليات التخييل والتأويل، لتشويش على الملتقي عندما يحدث " اللا متوقع " في صيغة ظهوره وتشكله، فهذا يعني أن الكاتبة " فريدة النقاش" وما ذهبت إليه في تحليلها، لم تبحث فيه عن إيحاء الشخصية الرمزية، ولم تراع مدى اختراق الأديب لما وراء العالم الواقعي، والقصد من الرمز هو " تحويل ذهن القارئ من الواقع إلى ما وراء هذا الواقع، وصولا إلى جوهر الفكرة" ، والرمز يتعدى المباشر إلى الخيال، والوضوح إلى الغموض، ويتسم بالشمولية والتجريد والجدة.
والغريب في الأمر أن فريدة النقاش تدرك أن البطلة رمز للوطن، ولكنها لم تذهب بها فراستها بأن ذلك هو عين الواقع الذي تعيشه الجزائر اليوم.
ومن هنا نجد أن أحلام مستغانمي في رواياتها تكثف عنصر الرمز على الحدث، مما يجعله يضفي على العمل الأدبي جمالاً وغموضاً في نفس الوقت، حيث نجدها ركزت على تاريخ الجزائر وأمجادها، وحاولت جاهدة على أن يكون إخراجه بالصورة التي تليق به، دون تشويه أو تحريف، أو نقص وانتقاص، وهو الشيء الذي كان يوحي بمدى عمق رؤيتها للبعد الوطني، الذي ساعد على تكوين المد الثوري.
هذا بالإضافة إلى أن المؤلف جمع في شخصية حياة عدة تناقضات، ورموز عدة مختلفة، على مستوى الحدث، فمن جهة نجدها تمثل قسنطينة، تلك المدينة بجسورها المعلقة، التي تمثل المنطق الأول لذاكرة جمعت خالد بحياة، قبل خمس وعشرين سنة، ليجسدها في لوحته حنين، كما أن البطل حياة ترمز أيضا إلى المرأة المثقفة، خاصة في ميدان الآداب، كما إنها امرأة الجزائرية في عروقها تجري دماء الثوار، وكأنها توحي إلى الثورة الجزائرية أيضاً، التي من أجلها فقد خالد ذراعه، وهي كذلك المرأة التي ترمز إلى الأصالة والعادات،( وذلك من خلال وصف اللباس العربي، لباس العروس، الأغاني الشعبية، السوار القسنطيني....)، وهي أيضا المرأة المغتربة المشبعة بالثقافة الفرنسية، والعربية على حد سواء، وفي نهاية الرواية تتزوج بعد عودتها إلى قسنطينة برجل ينتمي إلى فئة مميزة من المجتمع، وهنا يقول السارد للدلالة على أن الوطن مسروق من أبنائه، وشعبه، لصالح فئة محدودة، مثل ما حدث مع حياة، وقدر لها أن تتزوج برجل غير الذي أحبته: " أتحدى أصحاب البطون المنتفخة، وذلك صاحب اللحية....وذلك صاحب الصلعة...وأولئك أصحاب النجوم التي لا تعد...وكل الذين منحتهم الكثير...اغتصبوها في حضرتي اليوم" .
ومثلما اعتدا كل الشخصيات على الوطن فإنها تعيش على حسابه الآن، وعلى حساب تاريخه، وهاهم يسرقون الوطن منه مرة أخرى بزواج حياة من الرجل العسكري.
ومع ذلك يمكننا تحديد المؤشرات التي ساعدت للوصول إلى هذا الحدث المفاجئ في ذاكرة الجسد، بخلاف فوضى الحواس وعابر سرير، ونجملها فيما يلي :
1 ــ بداية الابتعاد: ويظهر ذلك في التغير الذي طرأ على سلوك حياة التي أصبحت تتصل بخالد كل أسبوع ثم كل أسبوعين وهكذا دواليك.
2 ــ عدم اتصال حياة بخالد لتهنئته بمناسبة عيد الحب، رغم أن كاترين فعلت ذلك، وهذا يعني رمزياً اللاحب في علاقة خالد مع حياة.
3 ــ عدم وجودها في البيت، عندما دعا سي شريف خالد إلى بيته، للقاء بمجموعة من رجال الأعمال، من بينهم الرجل الذي سيكون زوج حياة في المستقبل.
4 ــ لم تكن هي المعلنة عن زواجها، بالرغم من أهمية مثل هذا الحدث، بل سي شريف هو من تولى دعوة خالد، وأقنعه بضرورة حضور زفاف حياة بقسنطينة.
هذه الأمور مجتمعة توحي بأن هناك خطب ما في العلاقة التي جمع الطرفين، لكن السبب يبقى مجهولاً لدى القارئ، مخفي ضمنيا في الأحداث إلى الفصل الخامس، حينما اكتشفت أن حبهما كان مرضياً.
لقد تعودنا في الروايات السابقة، أن يكون الحدث شائكاً، فيه نخبة من الشخصيات المتصارعة، لكن هذه الطريقة جديدة في العرض، للوصل إلى نتيجة مفاجئة، فيها تختزل الشخصيات المتعددة، في شخصية رئيسة، " فالكاتبة وهي تقوم باستعادة جوانب من ماضي الشخصية الرئيسة، في تداعيات جميلة، تستند عليها في إبراز إحساسها العميق، تهدف من وراء ذلك إلى إثارة أسئلة في الحاضر، وعن الحاضر، فهي لا تؤرخ وإنما تحاول أن تكتشف طريقة في قراءة ذاتها أولاً، والواقع الراهن ثانياً" .
أما في فوضى الحواس؛ فإن سمة مفاجأة الحدث، جاءت من غير تعليل، بخلاف ذاكرة الجسد، بل مجد بها مفارقة في الحدث، حيث تكتشف (الراوية/ البطل) أن الشخص الذي أحبته في قاعة السينما، ليس الرجل الذي التقته في المقهى، وزارته في بيته، واستعارت منه كتاباً للأديب هنري ميشو، بل صديقه المدعو عبد الحق،هذا الأخير الذي سوف نتعرف عليه مع البطلة في الأخير، إلا أن الأمر سيكون متأخراً، إذ سيتم اغتياله، ولن يقدر لها رؤيته هذه المرة، إلا على صفحات الجرائد وهي تعلن عن موته.
مميزات الحدث:
ليس مهماً في روايات " أحلام مستغانمي" أن تحقق علاقات منطقية، وإنما المهم أن تحقق علاقات دلالية، وحواراً فكرياً واجتماعياً، وبعداً نفسياً عبر منظومة تخيلية، تبرز من خلالها المواقف المتباينة والآراء المختلفة، مثلما هي موجودة في الواقع، بطريقة منظمة وكيفية بسيطة، تظهر تعايش الرؤى والمفاهيم داخل المجتمع((النص))، وهذه بالطبع سمة من سمات الرواية الجديدة.
ويمكننا أن نجمل مميزات الأحداث في الرواية كما يلي:
- المفاجأة وعدم التعليل
- الأحداث جاءت متنامية
- تلاحم الزمن بالأحداث التي تتحرك بموجبه، لتكتسب الصيرورة، والانتقال من حال إلى آخر إلى النهاية.
- لم يكن تلاحق الأحداث سريعاً بل بطيئاً، حيث أنها استغرقت في الزمن الحاضر، وعادت فيه إلى الماضي.
- طبعت الأحداث على المواقف بوحدات متقطعة خلال العملية السردية، وانشغالها بما يتداعى من الذاكرة، إذ يمكن توضيح ذلك من خلال حديث السارد عن لقاء جمع خالد وحياة وزياد، في مطعم من مطاعم فرنسا، حيث دار بينهما حوار، يعود السارد مرة أخرى إلى هذا الحدث في صفحات لاحقة، إما للتذكير أو التجديد، أو السخرية أو ربما الموعظة، هذه العودة لتجديد حادثة وحوار كان قد مضى، يؤدي في نظرنا عدة وظائف في المتن الحكائي :
- جديد الحدث (لغرض ما)
- حويله من الماضي إلى الحاضر في ذهن القارئ(ماضي في ذهن السارد، وهو حاضر في ذهن المتلقي)
- الربط بين أجزاء النص
- خلق محور جديد تسير عليه العملية السردية
- خلق بلبلة في الزمن من شأنها تكسير الرتابة التي يسير عليها، وبالتالي شد انتباه القارئ
- خضوع نمو الأحداث لحبكة مفككة، غير متماسكة، حيث أن الفكرة الشاملة هي التي تنظم الحوادث والشخصيات والسرد، وليس ذلك الترابط الذي يصل إلى نهاية في بناء عضوي متماسك.
وهو البناء نفسه الذي سارت عليه الأحداث في رواية عابر سرير، غير أن المفاجأة في الحدث فيها كانت مختزلة في النقاط التالية:
- تبادل الدور في الأسماء، حيث جاء السرد في بداية الحكي، على يد البطل الصحفي، الذي يسمى نفسه ــ لم يرد اسمه الحقيقي في النص ــ خالد بن طوبال، وهو أكيد ليس خالد في ذاكرة الجسد. وهذا من شانه خلق ضبابية على ذهن المتلقي القارئ لثلاثية، لا تنفك حتى تحدث زيارة خالد لمعرض زيان.
- اكتشاف خالد لزيان، وهو الملقب بخالد في الرواية الأولى، وكذا فرنسواز الملقبة بكاترين.
- مفاجأة المنزل كما هو موصوف سابقاً من طرف حياة في العمل السابق.
- اللقاء الذي رتبته الصدفة، خارج نطاق قسنطينة والجزائر، وخارج المدن العربية؛ مدن الخوف كما كانت تتمنى حياة.
وعموماً نجد روايات أحلام مستغانمي ( ذاكرة الجسد، فوضى الحواس، عابر سرير) لم تعد تحكي قصة أو حكاية فقط، وإنما جاءت " لتمثل المغامرات اللغوية والفكرية والإنسانية.....ولا شيء منتظم.....حتى الزمن" .
هوامش:
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى