جمالية الانزياح التركيبي في الشعر المغربي القديم أسلوب الحذف في شعر الحصري الضرير
صفحة 1 من اصل 1
جمالية الانزياح التركيبي في الشعر المغربي القديم أسلوب الحذف في شعر الحصري الضرير
جمالية الانزياح التركيبي في الشعر المغربي القديم
أسلوب الحذف في شعر الحصري الضرير
د. رضوان جنيدي
المركز الجامعي لتامنغست
أسلوب الحذف في شعر الحصري الضرير
د. رضوان جنيدي
المركز الجامعي لتامنغست
ملخص:
ستحاول هذه الدراسة مستعينة بالوسائل النحوية والبلاغية محاصرة نصوص أبي الحسن الحصري القيرواني الحاملة لتجربة الأنا ونفحتها المأساوية بتتبع جماليات الانزياح التركيبي مجسدا في أسلوب الحذف، وتنطلق من أن النص الشعري هو حدث تواصلي مركب ذو بنية مكتفية بنفسها، قادرة على الإفصاح والتأثير والفعل؛ والشعر لغة حية، تتلاءم فيها عناصره إيحاءا، وتنسجم تعبيرا، لتأخذ مداها في تحديد اللحظة الشعرية، وإبراز الجوانب الجمالية المعبرة عن الدواخل النفسية؛ إذ النص الإبداعي قوة دينامية متحولة لا تعرف الانغلاق والاستكانة إلى فكرة معصومة وإنما تتعدد خارطة بنائه الدلالي إلى إيحاءات منظورة وغير منظورة، وهو ما أقرّه الخطاب النقدي المعاصر حين رأى أن النص الإبداعي الحق هو ما اتسم بالتفرد، وامتاز عن كل ما سواه من نصوص بميزات تخصّه هو وحده، تجعل درجة الإبداع تقاس بمدى ما يحققه من دهشة ومفاجأة تنشآن في الغالب من ضم عناصر لا يتوقع جمعها في صعيد واحد؛ وهو ما يحتاج إلى شجاعة اللغة المتنافية مع الخوف والحذر.
----------
جمالية الحذف:
قضية الحذف من القضايا التي استوقفت الدارسين الأسلوبين والنحويين والبلاغيين، بوصفها مجاوزة للمستوى التعبيري العادي، وخرقا للضوابط اللغوية والنحوية، وإذا كان الدرس النحوي الذي أثبتها اكتفى بتحديد مكان الحذف في التركيب، وتقديمه، ومناقشته مدى سماح نوع البنية التركيبية أو الصرفية بوقوعه على مستوى الوجوب أو الجواز أو المنع، وشروط كل ذلك ، فإن البلاغة العربية تخطت تلك الحدود، وعدت هذا الخرق "مشكلا في النص، وليس خطأ في الإعراب، وإنما هو جوهرة فلتت من عقد قياس النحويين وضوابطهم ، محاولة معرفة سر هذه المجاوزة، ودلالتها على مستوى التبليغ، وأسباب اللجوء إليها، منطلقة من أن الإبداع الأدبي عمل مخرمٌ يطلب من المتلقي "وصل ما قطع في البنيات التركيبية، لملْء الفراغات التي جعلت النص الأدبي مخرّماً بما ينتج عن عملية الحذف" .
يعد الحذف أحد العنصرين المكونين للإيجاز يقول الرماني (- 386هـ): "الإيجاز على وجهين: حذف وقصر، فالحذف إسقاط كلمة للاجتزاء منها، بدلالة غيرها من الحال، أو فحوى الكلام، والقصر بنية الكلام على تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف" ، ولن تكتفي الدراسة بتحديد مواطن الحذف في البنية التركيبية والصرفية، وإنما ستتجاوزه إلى إبراز الأثر البلاغي محاولة معرفة سره، ودلالته على مستوى التبليغ، وقدرته على التأثير.
إن كل حذف يقع في اللغة يستلزم وجود أمرين - بدونهما يكون هذا الانزياح عن التركيب المعياري مستحيل التحديد – هما: القرينة الدالة على المحذوف والمرشدة إليه وإلى إمكانية تحديده، يضاف إليها وجود سر بلاغي جمالي يدعو إلى الحذف ويرجحه على الذكر، وهذه الأسرار الجمالية الكامنة في أسلوب الحذف بما هو إيجاز في القول، وإثارة لخيال المتلقي وتحريك لحسه الجمالي لإدراك ما طوى ذكره، وسكت عنه، هي التي عدّها ابن رشيق المسيلي من أنواع البلاغة حين قال عن الحذف:" وإنما كان هذا معدودا من أنواع البلاغة، لأن نفس السامع تتسع في الظن والحساب، وكل معلوم فهو هين لكونه محصورا" .
والأنا/الشاعر في نص الحصري القيرواني الضرير عندما يبني نصه فإنه يختار له من التراكيب ما يرتضيه، موافقا بين النظام اللغوي والإبداع الشعري، معتمدا طريقته الخاصة في بناء التراكيب ورصف ألفاظها وانتظامها في نسق معين يحاول من خلاله إبراز فكرته، وهو ما يمكنه من التفرد ببنائه الشعري المنسق المنتظم المتكامل حتى لا يمكن فصل جزئياته.
ومن ثم يفجر أسلوب الحذف في ذهن متلقي النص شحنات فكرية تجعله ينقب عن الإيحاءات المستترة، ويشارك في العملية الإبداعية باحثا عن أسباب التشكيلات اللغوية في الخطاب الشعري بما تحوي في ثناياها من مؤثرات نفسية تدفع الأنا/الشاعر إلى اختيار حزمة أساليب دون غيرها، كما يمثل نصا قرينا ينتجه كل قارئ، ويشير إلى كثافة النص من حيث المضامين التي أريد إيصالها إلى متلقي النص.
2-1/أ: حذف المسند أو المسند إليه الاسميين:
تعود اللسان العربي على مثل هذا الحذف، إذ المتلقي يستطيع أن يدرك الدلالة معتمدا السياق أو القرائن،
يقول علي الحصري : (الوافر)
نَبَا بَصَرِي فَنَابَ الْقَلْبُ عَنْـهُ وَبِتُّ بِهِ أُلِـحُّ وَلاَ أُلِيـــــــــــــــــــــــــــــــــــحُ
أًلًمْ تَرَ أنّنِي بِهُـــــــــــــــدَى فــؤادي تَبيِّن لي مـــــــــــــــن الحَسَن القبيــحُ
فلو تُرِكَ المَسيحُ يُريــــــــــدُ بُرْئِـي لقال: كَفَتْ بَصِيرَتُك المسيـحُ
ومات ابني فها أنــــــــــا لا فـؤاد ولا بصرٌ، ولا مـــــــــــــــــــــــوتٌ مُريــحُ
البنية التركيبية للبيت الرابع تخلّلها حذف المسند، تولد عنه إيجاز، والعناصر التي يمكم أن تسدّ تلك الفراغات كي يظهر المعنى العميق لكل تركيب قد تقدر: لا فؤادٌ لي يهديني ولا بصرٌ لي أبصر به، ولا موت مريحٌ ينقذني من شقاء الحياة.
وقد اجتمع في البيت الحذف والتنكير مكونين قوة تعبيرية إيقاعية تجعل صورة الشاعر المفجوع شاخصة في ذهن المتلقي؛ فبعد صبره لفقدان البصر واستعاضته عنه بقوة البصيرة شكّل موت الابن الحدث المأساوي، ونبه وعي الأب المفجوع، لتترائ له بشاعة الفقد، ويقف وجها لوجه أمام المأساة.
وتكرار أداة النفي(لا) ثلاث مرات ترسيخ لدلالة الفقد وعموميته المعبر عنها بالتنكير، والاكتفاء بعد حرف النفي بالمسند إليه إنهاء للجملة وقطعا لإطالتها، ليحمل الحذف دلالات عميقة توحي بتفخيم معنى الفقد والسلب، وكأنه نفي عمّ كل الأفئدة والأبصار؛ فالشاعر افتقد بصيرته وأفئدة الجميع، وعمّه الظلام الذي خيّم على كل من حوله ليكون بذلك النفي شاملا موحيا بعظم المصاب، بالإضافة إلى دلالة الوحدة والعزلة، إذ الشاعر فقد فؤاده وأفئدة من حوله، وسلب بصره وأبصار الآخرين، وازداد شقاء لأن الموت لا يريحه من حياة الوحدة.
وعلى مستوى الإيقاع فإن الجمل القصيرة الموصولة بواو الجمع والمشاركة كونت إيقاعا ترجيعيا متوازنا ينتهي في كل مرة بنون ساكنة تقطع الصوت مثلما قطع الموت الابن من عالم الأحياء مشكلة ثنائيات تتوزع بهذا الشكل: (مات، ابني)، (لا، فؤاد)، (لا، بصر)، (لا، موت مريح):
ليحمل الموت دلالة النفـي المكرر، ويماثل الابن الفؤاد والبصر وانعدام الموت المريح، وفي تقصير الجمل تـلاؤم مع قِصَرِ عمر الابن، وانتفـاء وجوده حمل التركيب على حذف دلالات الامتلاك والاستحقاق (لي، عندي)، ليتشاكل الحذف التركيبي مع الدلالة والإيقاع، إذ لو ذكرت المحذوفات لاختل إيقاع بحر الوافر.
ويحقق الشاعر بأسلوبية الحذف خرقا للضوابط اللغوية، هو"شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن" .
إن الحصري الضرير يدرك بذوقه الفني، وإحساسه المرهف ما يتفجر من التراكيب العربية من معاني تجد نفس المتلقـي متعـة في استكمال المحذوفـات مستعينة بتقدير العناصر، يقول : (الرمل)
سُلِبَتْ أنفسَ عِلْقٍ راحَتِي درةً بيضاءَ صيغتْ من عَلَقْ
لوْذَعِيٌ كنت أرجو كــــونه خلفًا منّي إذا المــــــــــوت طـَرَقْ
خرقت البنية الشعرية للبيتين قواعد نحوية خرقا تحمله رويّ القصيدة الذي سُكِّن دون مسوغ نحوي، لكن تم تسكينه بمسوغ سماه سيبويه بـ: "باب ما يحتمل الشعر" ، وهو ما يعرف بالضرورة الشعرية، لأن وزن الرمل فرض تقييد الاسم المجرور ثم الفعل الماضي ليتحقق التوازن الإيقاعي، وتتماثل القافيتين، ويظهر حذف المسند إليه في (لوذعيٌ) المقدر بـ(هو)، وأسلوبيته في بناء صدور الأبيات متفرقة في قصائد تعتمد هذا الحذف الوارد مبتدأ، ليوجه انتباه المتلقي إلى الخبر الذي يتضمن جوهر صفات الابن الفقيد من خفة وذكاء وظرف وحدّة فؤاد، وفصاحة لسان، كأنه يلذع بالنار من ذكائه، ليكمل الصورتين المجازيتين الواردتين في البيت قبله: وتظهر سيطرة الشاعر على الأدوات الفنية للمجاز اللغوي، وما سيتم به من المبالغة التي هي أثر من آثار الخيال، ومن تجسيم زاخر بالحركة والألوان، وتشبيه الابن (المحذوف في التركيب) بالعلق النفيس المبدل من الدرة البيضاء المصرح بهما: ادعاء بأن الطرف الثاني من التركيب التشبيهي لا يساوي الطرف الأول المحذوف في الصفات وحسب، بل يتجاوزه إلى إمكانية أن يسدّ مسدّه، ويكثف بذلك المعنى الذي يفضي إلى أعمق الدلالات متجاوزا بذلك المعنى السطحي، ويدعم هذه الصورة بالمجاز المرسل مطلقا الجزء (راحتي) ليريد به (الكل) المعادل للشاعر لما يحمله هذا الجزء من دلالات الامتلاك والقدرة والسيطرة المنتفية بفعل السلب المجهول الفاعل (سُلِبَتْ)، وتبرز إيحاءات القهر التي استشعرها الأب المفجوع.
وهذه التوليفة من الخروق التركيبية والانزياحات البلاغية تتعاضد لتؤكد هزيمة الأب أمام فجيعة الموت وترسم المشهد المأساوي المفجر للمواجهة والتخطي، يقول : (الطويل)
فنيت هوًى إلاّ حُشَاشَةَ مُهْجَتِي أَجُولُ بها في مربع ومصيفِ
فَرِيدٌ من الأحباب أبكي طلولهم وأكثر فيها لـو شُفِيتُ وقُوفِي
يتكرر حذف المسند إليه، ويختلف العنصر المحذوف المقدر، فبعد أن اعتمد الشاعر الخصيصة الإيقاعية المتمثلة في إطالة صوت النون في ضمير المتكلم المفرد المنفصل أو تقصيرها عمد إلى خرق التركيب النحوي بحذف الضمير (أنـا)، والتركيز على المسند الخبر (فَرِيدٌ) للفت الانتباه إلى وحدته وافتقداه الأنيس.
وترتفع أصوات فواعل المنع في التجربة العشقية محاولة صد العاشق المأساوي، يقول : (الطويل)
عرفت ذنوبي هل إليك شفيع عثرتُ أَقِلْني أو فسوفَ أضيعُ
عقابك مثلي أنت عنـــــــــه رفيـعُ عُبَيْدٌ ذَلِيلٌ سَامِعٌ ومُطِيــــــــــــــــــــعٌ
ومَوْلىً عَزِيزٌ مِنْ طِرَازِهُمُ الْعَالِي
يستمد الشاعر تجربته العشقية من تجارب العشاق المأساويين الذين فنوا في عشقهم ورفضوا فواعل المنع، ويعتمد في البنية الشعرية لهذه الأشطر أسلوبية الاستفهام، وما حملته من دلالات الاستعطاف والشكوى، وهو ما استدعى حذف ضمير المتكلم (أنا)، ليكثف الخبر وينبه إليه، ويوظف جملة من الخصائص الأسلوبية المفجرة للدلالات العميقة: التصغير وما يوحي به من معاني الذل والقهر والوجع والافتقار، والتنكير للتعميم والشمولية، والتنوين لقطع الصوت تركيزا على الصفات، ثم خصيصة الفصل والوصل لإحداث التوازن الإيقاعي (عَنِيدٌ- ذَلِيلٌ- سَامِعٌ)، ثم إيقاف تداعي الصفات وتواصلها لكسر رتابة الإيقاع، ومفاجأة المتلقي باستئناف العطف، إذ المتوقع من الفصل بعد الوصل أن يحمل دلالات تباين ما قبلها؛ ويساهم حذف المسند إليه (أنا) في عدم اختلال إيقاع الطويل.
2-1/ب: حذف المفعول:
يقول الشاعر مخاطبا العيد الذي أتاه يحمل السعادة والأفراح : (البسيط)
أبدلت يا عيدُ عيني حامِ من سَامِ ففاض جفني بما أفضى إلى يامِ
قد كنت هيمانَ مهمومًا بلا جلدٍ فزدت ضعفين في همّي وتهيامِي
عَهِدْتُ ليلتك البيــــــــــــــــــــــــــــضاء نيِّــرةً فمالـها كحَّلت عيـــــــــــــني بإظــلامِ
حتى تناسيتُ مـــــا عوّدتُ من فرح وقبحُ يـــــــــــــوم ِيُنسِّي حُسْنَ أيَّــامِ
[...]مخايلٌ فيــــــــك راقتني محاسنُهـا سَرَّت ببــــــــــــــــــدءٍ ولـم تسرُرْ بإِتمـامِ
تبرز الأبيات مدى اهتمام علي الحصري بالتراث الديني ونهله منه واستقائه من معينه، وهو ملمح بارز في أشعاره، يسهم في الإفادة من مضامينه المتعددة "والارتقاء بأدواته التشكيلية وقدراته التعبيرية" ، ويركز الشاعر على صورة مستوحاة من قصة النبي نوح عليه السلام وأبنائه معتمدا التشبيه الدال على محاولة: "مقارنة الشاعر بين واقعه الذي يحاول التعبير عنه وما يرمز إليه في الإطار التاريخي ليضفي الثاني على الأول الذي يزداد بروزا وعمقا وامتدادا؛ فقد رمز بحام ابن نوح عليه السلام إلى الجنس الأسود، وبسام إلى الجنس الأبيض، والسامي: كلمة تطلق على الذهب والفضة، ليكون الشاعر بفقده ابنه عبد الغني قد أبدله العيد سواد العين من بياضها، لتذرف طوفانا من العبرات يغرق يام ابن نوح الذي أغرق بالطوفان.
وبالعودة إلى أسلوبية الحذف المعتمد في البيتين الأخيرين بالتركيز على الفعل وخصيصة المقابلة (سَـرَّتْ بِبَدْءٍ- لَمْ تَسْـرُرْ بإتْمَامِ) : يمكن تقدير المحذوفين (سَرَّتْنِـي) (لم تسرُرْني)، وإسقاط عنصر المفعول به في البنيتين لم يتمخض عنه أي لبس أو غموض بالرجوع إلى(راقتني)، لكن الإبداع البلاغي جعل الشاعر يفضل الحذف لتركيز العناية على الفعل ونقيضه، ولينتقل بهذا الخرق إلى تعميم السرور الذي كان موجودا ثم انعدم بموت الابن، ويفسح بذلك المجال للأحزان لتحل محله ويستمر جاعلا هذا التفجع عاما شاملا، وقد سبق هاذين الحذفين إسقاط أحد المفعولين اللذين يتعدى إليهما الفعل (ينسّي) في البيت الرابع، إذ يمكن تقدير الحذف بالقول: ينسّي الإنسانَ حسنَ أيام لمقام الحكمة التي ورد فيها، ويدعم هذا الحذف بظاهرة الالتفات عن ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، ليفاجئ المتلقي، وينقل التجربة من الشخصية والتخصيص إلى الحكمة والتعميم، مركزا على فعل نسيان المسرة وبقاء الحزن والآلام، يقول متذكرا أيام الوصال : (الطويل)
حُسِدْتُ عليه قاتل الله حاسدي فضنّ به الدهر الذي كان يَسْمَحُ
حَمدتُ زماني فيــــــــــــــــــــــــــــــــــــه ثم ذممتُه ومازال هذا الدّهر يُهْجَى ويُمْدَحُ
حَديثٌ له في النفس لستُ أُذِيعُهُ فتذكارُه يُواسِــــــــــــــــــــــــي الفؤادَ ويَجْرَحُ
يكثر الشاعر من تشخيص الدهر، ويعده مانعاً من موانع تجربته العشقية المطالب بكتمانها، ويعتمد خصيصة الحذف في البيت الثالث مركزا على فعل (يجرحُ) إدراكا منه أن القافية أعظم ما في البيت، محافظا على إيقاع بحر الطويل بعدم الذكر، ولا يجد القارئ مشقة في إكمال العنصر المحذوف يجرحه (الفؤادَ)، وفي عدم تقييد الفعل بمفعوله دلالات الإطلاق لتعمّ الجراح الفؤاد وغيره، وتزداد بذلك تأثيرا وإيلاما إذ فعل المواساة أتم جملته:
(يُوسِي الفُؤَادَ) في حين بقي فعل الجرح (يَجْرَحُ) مستمرا، يقول الحصري القيرواني : (الخبب)
صَنمٌّ للفتنـة منتصـبٌ أهواه ولا أتعبَّـــــــــــــــــــــــــــــدُهُ
صاحٍ والخمر جنى فَمِـه سكرانُ اللحظ مُعَربــدُهُ
ينضو من مقتله سيفــا وكأنّ نعاســـــــــــاً يُغْمِــــدُهُ
فيُريقُ دمَ العشاقِ بــه والويل لمن يتقلّـــــــــــــــــــــــدُهُ
كلاَّ لا ذنـب لمن قَتَلَتْ عَيْنَاهُ وَلَمْ تَقْتُلْ يَــــــــــــــــدُهُ
في الأبيات حذوف كثيرة: حذف المسند إليه في أول صدري البيتين الأولين تركيزا على المسند (الخبر)، وتعميم بالتنكير والتنوين لقطع الصوت والتوقف عند الصفتين، وفي البيت الخامس حذف المفعول مرتين وهذا النوع من الحذف قال فيه الجرجاني "وهو أن يكون معك مفعول معلوم مقصود قصدُه، قد علم أن ليس للفعل الذي ذكرتَ مفعول سواه، بدليل الحال أو ما سبق من الكلام، إلاّ أنّك تطرحه وتتناساه وتدعه يلزمُ ضمير النفس، لغرض غير الذي مضى، وذلك الغرض أن تتوفر العناية على إثبات الفعل للفاعل، وتخلُص له، وتنصرف بجملتها، وكما هي إليه" ، ليتولد عن ذلك الحذف التركيز على فعل القتل غير الموجب للثأر أو دفع الدّية، فميته شهيد في ساحة العشق، ويرسم الشاعر المأساة العشقية المعبرة عن العاشق المتراوح بين المذنب والبريء، وهي خصيصة مأساوية تعضدها المطابقة بين الفعل ونقيضه قَتَلَتْ ــ لَمْ تَقْتُلْ، ويمكن تقدير المحذوفين: (قتلت عيناه العشاق ــ ولم تقتلهم يده).
أما على مستوى الإيقاع فإن الشاعر سخَّر هذا الحذف لبناء إيقاع الخبب وإحداث التوازن الصوتي بين الفعل ونقيضه المفجر للإيحات المأساوية، يقول الشاعر : (الطويل)
وفتني دموعُ العين والصَّبْرُ خانني فجُرِّعتُ في حُبِّي لــــــــــــــــــك المرَّ والحُلْوَا
وضقت بهذا الحب ذرْعًا وحيــــــــلةً فحتّى متَى أشكو، ولا تنفعُ الشَّكْوَى
وهبْتَك حظّي من سرور ولــــــــــــــــذّة فجازيتني أن زدتُ بَلْوَى على بَلْوَى
وشَى عندكَ الواشون بي فهجرتني وحمَّلْنِي في الحبِّ مــــــــــــــــا لم أكن أَقْوَى
ولو أنَّني إذ كنتُ عندكَ مــــــــــــذنـبـا وجـدتُ سبيـــــلاً حيث أسألك الْعَفْوَا
وصالُك لي مُحْيِي وهجرُكَ قـــــــاتِلي وحبُّكَ شُغْلٌ كنـت مـــــــــــــــــــن قبله خُلْـوَا
الافتقار العشقي يكوّن بنية لغتها ألفاظ من قاموس الشقاء والعذاب، وتصوير فني لمشهد الفراق القاتل والهجر المؤجج لنيران اليأس المفجر لطوفان الدموع مما دفع بالشاعر العاشق إلى اختيار الأسلوب الإنشائي الاستفهامي وأخرجه عن معناه الأصلي إلى معنى الشكوى؛ واستعان الشاعر بأسلوبية الحذف التي لا يكاد بيت من الأبيات السابقة يخلو منها: حذف العنصر المكمّل للفعل (أَشْكُو) تركيزا على الشكوى واستحياءً من المشكو منه، إذ المحب المأساوي يصرّ على الاستمرار في عشقه مدركا أن نهايته مأساوية، معمما الشكوى لتتفجر الإيحاءات: (أشكوك- أشكو الحب- أشكو نفسي- أشكو الواشين- ...)، ولا تتوقف الدلالات المقدرة معبّرة عن الحالة المأساوية، ويتماثل هذا الحذف مع الحذف الذي أصاب البنية التركيبية الموصولة به: (لا تنفعني الشكوى) ليشمل حذف المفعول الشاعر الشاكي، ويتعدّاه لكل من عانى الافتقار العشقي، واكتوى بناره، ويقع الحذف في البيت الثالث محققا التركيز على زيادة العذاب الدالة على آلام الهجر: (زدتُ نفسي بَلْوَى) إذ المحب وهَب المحبوب سعادةً، فجازه بأن جعل شقاءه يتضاعف، مصرحاً بذلك: (زِدْتُ) ليقع في المنطقة الوسطى بين البريء والمذنب.
ويظهر الحذف في البيت الرابع: (ما لم أكن أقوى على حمله)، وهذا العنصر المحذوف كان التركيب التام سيضعه في موقع قافية البيت، ويترتب عنه تكرار مخل ببلاغة التركيب، ليتم بذلك التركيز على تأكيد عدم القدرة على تحمل مشاق الهجر الذي سعى إليه الواشون/ فواعل المنع، والبيت الخامس حافظ الحذف فيه على إيقاع بحر الطويل مثل بقية الأبيات، وركز على انعدام السبيل الموصل إلى المحبوب أو ما يعوضه أو يشبهه، وهو ما توحي به دلالة التعميم بعدم الذكر: (وجدت سبيلا إليك).
نهج الشاعر أسلوب التوازن الإيقاعي باعتماد أسلوبية الترصيع بتقصير البنيات التركيبية، وتكون بذلك أكثر ملاءمة للتأثير في النفس لتقارب الرنين الإيقاعي وحذف العنصر المقيد لما يشغل الشاعر: (وحبُّك شُغْلٌ لي) تركيزا على دخوله دائرة العشق المؤدي إلى الموت، لكثرة فواعل المنع المعبر عنهم في البيت الأول المسند إلى فاعل مجهول مفجّر للإيحاءات العميقة: (جُرِّعتُ في حبّي).
2-1/ج :حذف الموصوف:
قال الحصري يمدح أحمد بين سليمان بن هود حين استولى على دانية : (الوافر)
كذا تفتض أبكارَ البـلاد ولا مهرٌ سوى الْبِيضِ الْحِدِّادِ
اعتمد أسلوبية الاستعارة مشخصا البلاد التي شبهها بالعروس، لتنبثق من هذه الصورة إيحاءات الفرحة والاحتفال بالفاتح العريس الذي قدم المهر لأهل دانية، ليتم التملك والامتلاك، وتثبت القوامة المفضية إلى الطاعة والانصياع، وحذَف الموصوف (السيوف) لتحل محلها صفة البياض والحدّة والمضاء، مختزلا جوهر المحذوف في هاتين الصفتين للدلالة على أن بياضها ينم عن جودة المعدن الذي صنعت منه هذه السيوف (المحذوف)، وقطعها بحقيقة النصر واستحقاق الاحتفال، وحذف أسماء الأسلحة الوارد في القصائد ظاهرة لغوية وبلاغية تضمنتها البنية التركيبية في شعر الحصري، يقول : (الوافر)
على تعمير نوح مــــــــــــــــــــــــــــات نُوحُ فنائحةٌ لأمرٍ مـــــــــــــــــــــــــــــــــا تنــوحُ
أمعلولاً بعبرته عليـــلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً لحاه على البكا لاحٍ صحيحُ
[...]وجرَّحَ كل جارحة بجسمي مُفَضَّضُهُ ومُـــــــــــــــــــــذْهَبُهُ الجريحُ
فلما مات مُتُّ أسًى علــــــــــــــــــــــــــيـه كأنِّي كنتُ جسمـــاً وهْوَ رُوحُ
فناديتِ القــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــريحةَ: أبّنيــه فقالت نعم مــــــا اقترحَ القريحُ
سلامُ الله والصّـــــــــــــــــــــــــــــلوات تترى على قمرٍ أنــــــــــــــــــارَ به الضريحُ
على زهرٍ أنارت منـــــــــــــــــــــــــه أرضٌ تهبّ له مــــــــــــــــن الفردوسِ ريحُ
فنمَّ على الثّرى طيـــــــــــــــــــــــب يفوح ونورٌ من محاسنـــــــــــــــــــــــــــــــــه يلوحُ
في البيت الأول حذف الموصوف (امرأة) لتنوب عنه صفة تدل صيغتها على تحققها واستمرارية اتصافها بها، وعمد إلى تنكير الصفة (نائحة) ليحقق إيحاءات غنية بالمعاني المطلقة مما يترك نوعا من الغموض يتلاءم مع دلالات (لأمر ما)، فينتشر النواح مثلما انتشر جذره في سطح البيت: نُوحِ- نُوحُ- نَائِحَةٌ- تَنُوحُ.
ويستمر الشاعر في حذف الموصوف تركيزا على صفته التي تتفجر إيحاءاتها بالتنكير والتنوين لقطع الصوت، ودعوة المتلقي إلى الوقوف أمام شمولية هذه الصفة (معلولا) (عليلا) الموحيتين بالعلة القاهرة والسقم غير المحتمل، وينوب عن الوجه المضيء المتلألئ بألوان الفضة والذهب الممتزجة بحمرة الدماء، وتتوالى الحذوف: وتحل محل الموصوف (الأب) صفة (القُرْح) الذي لا يندمل فيبرأ، تفخيما للمصاب وتهويلاً لفداحة الفقد، ويلجأ إلى أسلوبية الاستعارة، ويخفي المشبه (الابن الفقيد) مصرّحا بالمشبه به تحقيقا للمبالغة وإثارة للمتلقي؛ فهو لم يفقد طفلا مثل بقية الأطفال وإنّما فجع في قمر منير واراه التراب، وأثكل بزهر فواحٍ أنار الأرض، وتجاوبت مع أريجه نسائم الجنة تشيّع محاسنه التي أشبهت المصابيح (مشبه به محذوف) في إنارتها للمكان، إيذانا بقرب انتقاله إلى جنان الخلود، ويحقق الحذف التركيبي وأسلوبية الاستعارة التصريحية ثم المكنية دلالات النواح المستمر دون انقطاع، وإيحاءات الفقد المفجع لقلب الأب المكلوم، قال الشاعر في رثاء المقتدر بن هود : (الطويل)
أعزّ من اقتادَ الخميس إلى الوغَى وأكرمُ من يُدعى له فوقَ منْبَرِ
تلثم حياءً يا زمانُ من العــــــــــــــــــــلا مضيتَ بمعروفٍ وجئت بمُنكرِ
مَضيتَ فما للأرضِ بعدكَ لم تَمِدْ وما لسماءِ المجدِ لم تتفطـــــــــــــــــَّــرِ
بعثتُ بهَا مشقوقةَ الجيب ثاكلاً وإنْ فتقتْ ريحَ العــــــــــــــزاءِ بِعَنْبَــرِ
حَذَفَ الشاعر المسند إليه تركيزا على الخبر الوارد بصيغة (أفعل) التفضيل، ولم يصرح بالمفضل عليهم تعظيما للفقيد إذ يصعب تحديد عدد الذين فُضِّل عليهم أو حصره، وربط ذلك بحذف الموصوف (الجيش) بالإحالة إلى صفته الدالة على كثرة العدد (الخميس)، ووظف أسلوبية التشبيه البليغ بعد أن شخص الزمان؛ وفي الصورة التشبيهية انزياح بإضافة المشبه به إلى المشبه، يوحي بدلالات عميقة عضدتها معاني: زلزال الأرض وتفطر السماء الدالتين على فقدان النظام نتج عنه اهتزاز التشبيه البليغ، وتغير ترتيب طرفيه، وفي البيت الأخير حذف لعائد ضمير الغائب المفرد المؤنث (ها) المقدر بـ (قصيدة مرثية) تركيزا على صفات الحزن والتفجع، ليثري بهذه الأسلوبية دلالات الرثاء والتأثر الشديدين، وقرن ذلك بأسلوبية الاستعارة مصورا المرثية امرأة تندب ميّتها، وتشق جيبها، وتواصل بكاءها، معتمدا خصيصة وصل الحالين (مشقوقة، ثاكلا) .
2-1/د :حذف أداة النداء وأداة الاستفهام:
يستخدم علي الحصري القيرواني حذف أداة النداء في أساليب تتضمن معاني دالة على الدعاء أو الاستعطاف أو التحسر أو التشوق إلى رؤية المخاطب، وهذا النوع من الحذوف كثير في شعره، وقد خصّ في النداء الذي سقطت أداته المخاطبَ العاقل، يقول : (البسيط)
أفْدِي النّساءَ سِوَى أُمٍ لَــــــــــــــهُ نشـزتْ وباعـتِ الفحـلَ منّــــــــــــــــي بالْمَخَـانِيثِ
أستغفرُ الله من عهــــــــــــد التي نكـثت فاستبدلت بي وما عهــــــــدي بمَنْكُـوثِ
عبد الغني اسكُنِ الفردوسَ في ظُلَلٍ وَاطْمُثْ من الحُورِ سِرْبًا غيرَ مَطْمُوثِ
تركت خيانة الزوجة أم عبد الغني أثرا مؤلما في قلب الشاعر، لذا يتهمها الزوج المغدور بالنشوز، ويتجاوزها إلى زوجها الجديد، فيتهمه بالتخنث، ويؤصل هذه الصفة معتمدا جمع الكثرة(المخانيث) بدلالته على ما لا نهاية له، ويمد حرف (الخاء) بإطالة صائته لما يحمله هذا الحرف من دلالات: الوضاعة والخسة والعيوب النفسية، وما في (الثاء) من إيحاءات بالأنثى، ويحذف مقيد الفعل نكثتْ في البيت الثاني للتركيز على الفعل، وإطلاق إيحاءات الغدر، والسياق يحيل إلى تقدير العنصر المحذوف: نَكَثَتْ عَهْدِي.
ويترفع عن إيراد الزوج المخنث الذي اختارته الزوجة الغادرة، فيحذف ما يوحي به في: (استبدلت بي) إلحاحا على فعل الاستبدال ونكث العهود، ويقدر العنصر المحذوف: (مخنثا)، ثم يحذف أداة النداء في بداية صدر البيت الثالث لدلالة بلاغية توحي أن المنادى قريب من الشاعر قلبا ومكانا، يركز عليه الاهتمام لتصدره الكلام، يقول ساخطا على الدنيا: (مجزوء الوافر)
فيا ما أخدعَ الدنيـــــــــــــــــــــــــــــــا وأخبثها وأختنهـا
وأقطعها إذا وصـــــــــــــــــــــــلـت محبيــــــــــها وأخونهـا
وأوأدها لمولــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــودٍ تنشب فيـــــــــــــــــــــه برثنهـا
أرى شرس الحيـــــــــــــــاة غدًا يفارقها ولينــــــــــــــــــــــــــــــــــهـا
فما لي والغـــــــــــــــــــــــــــــــرور بهـا ألست أرى تخــــــــــــــــوّنَها
حَبِيبَ الْقَلْبِ صلْ شفتي بلثمك حيث أمكنَها
بمسكنة سألت فقـــــــــــــــــــــــلْ لمشتاقٍ تمسكـــــــــــن:هـا
ينحرف الشاعر (بياء) النداء إلى دلالة التنبيه والتحذير من الدنيا والاغترار بها، معتمدا أسلوبية التعجب، وما توحي به من استعظام شرور الدنيا، ويخرق البنية التركيبية التعجبية مركزا على الأفعال المتصلة بالضمير الغائب المفرد المؤنث المحيل إلى الدنيا، لتلتصـق هذه الصفات بها وتلازمها، والمتلقي لا يجد عناء في تقديـر (ما التعجبية) المحذوفة؛ وللإيحاء بقرب الابن والمناجاة حذفت أداة النداء تركيزا على المنادى المستغنى عنه بصفته المفجرة لدلالات الحبّ وفاجعة الفقد وآلام الثكل: (حبيب القلب)، واضطراب الشاعر وفقدانه الأمان والسعادة تجلى في كثرة الحذوف: حذف مفعول (سألتُ) إلحاحا على فعل السؤال والتحسر، وهو ما حصل مع اسم فعل الأمر (ها) ليركز على معنى المنع: فلا يكتفي الأب بأخذ القبلات بل ينعم برؤية الابن المثلجة لصدره المطفئة لنيران شوقه، ويتحقق بهذا الحدث الوصال، يقول (المنسرح)
عَبْدَ الغنيِّ اقترب فـــــــــــــلا وأبي ما رفّهَ العيش لي ولا رفــــــــــغا
قبرُك روضٌ أحبُّ زورتَــــــــــــــــــــه ولو وطئت الشِّظَاظَ والرَّدَغَا
لا فرحت كل طفلة كحلَتْ بعدك عينا وزرَّقَتْ صَــــــــدَغَـا
تراكَ يوم الحساب تشفعُ لي إذا التقيـنا ولي إليــــــــــك ضُغَـا
إن إحساس الشاعر بقرب ابنه الميت قلبا ومكانا أدى إلى حذف ياء النداء، ليتضمن التركيز على الابن المنادى نوعا من المناجاة والتوسل الذي يجسد المأساة، ويصور حال الأب المفجوع الفاقد لطعم الحياة والمستشعر ضيقها، إذ تحولت إلى جهنم تدفع الشاعر إلى الاغتراب عنها والتذمر منها ونشدان الفكاك من براثينها، ويستعين بأسلوبية التشبيه البليغ مطابقا بين قبر الابن والروض الذي بقي مكانا وحيدا في أرض الشاعر البائسة الممتلئة بالأوحال والأخشاب المعيقة للشاعر في سيره إلى روضه، وأورد المشبه به نكرة للتنكير والاستعظام، وقطع إطالة الصوت بالتنوين ليتوقف المتلقي عنده، ويتأمل هول المصيبة التي قطّعت كبد الشاعر، ودفعته إلى أن يرمق الحياة بعين ساخطة تشع بدعاء زوال الحسن وانعدام الزينة في الحياة، ويحذف من البنية التركيبية لصدر البيت الرابع أداة الاستفهام ليحقق دلالة حيرة الشاعر أمام تحقق أمنيته في شفاعة الابن البار فيه الذي استعطفه متذللا إليه مستكينا، وهذا الحذف يلائم إيقاع المنسرح، وهو ما يؤكد سبب قصر الشاعر للممدود (ضُغَاء)، وهذه الضرورة الشعرية التي خرقت القانون الصرفي ليمدّ حركة الغين مدًّا طويلا يحقق دلالة التذلل والإصرار عليه، وهو ما يدفع للحديث عن نوع من الحذوف يلحق البنية الصرفية.
2-1/هـ : الحذف في بعض البنيات الصرفية:
لعل الظاهرة التي تلفت الانتباه هي تكرار الشاعر قصر لفظة (بكاء) خارقا بنيتها الصرفية، وعدد هذه الخروق يتجاوز أربعة وعشرين خرقا مقارنة بورودها على صيغتها الأصلية في تسعة مواضع في الديوان، يقول : (متقارب)
حَلَى أبويْه سنًى في سناءِ فكان ابن بدر الدّجى من ذُكَا
وكنت أقول ســــــــــــــــرورًا بـه سأملـكُ دهــــــــــــــــــــــــــــري إذا أَمْلَكَا
فلمّا نمى وسمــــــــــــــــــــــــا يافعًــا ورعـت بـه الصّمَـــــــــــــــــــــــــــــــمَ الفُتَّكَا
شكـا علَّةً فشفــــــاه الرّدى وأورثنـي العِلَـلَ النُهَّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكَا
وغادرني بين شوك القتادِ وإن كنت لولا التــــــــــــــــــــــقى أَشْوَكَا
فما أستجيرُ بغير العِـــــــــــدَا ولا أستريحُ لغـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيـر البـُكَا
انتقى الشاعر (سنَّى) و(سناء) ليحقق توازنا صوتيا من التجنيس غير التام، مما يبعد بذل الجهد للبحث عن معنى اللفظتين المتجانستين، ليضفي هالة من العظمة والإشراق والعلو والشهرة على ابنه، وهو ما يتلاءم مع الصورتين الاستعارتين في الشطر الثاني المكنى عن المشبه فيهما؛ فالأب بدر ينير ظلمة الليل، والأم شمس تخفي بأشعتها كواكب السماء، ليحقق التجنيس المذكور ما سمّاه الجرجاني بالفضيلة يقول: "فقد تبين لك أن ما يعطي التجنيس من الفضيلة أمر لا يتم إلا بنصرة المعنى، إذ لو كان باللفظ وحده لما كان فيه مستحسن" ؛ وتخترق البنية الصرفية للفظة (ذكاء) بقصر الممدود لتحقيق التوازن الصوتي، والتقيّد بإيقاع المتقارب، ويحقق مدّ الكاف وإطالة صائتها استمرار الضياء وارتفاعه، وإطلاق ذلك ليعبر عن اتساع الحزن وطول الحسرة، وهو الخرق الذي لحق لفظة (البكاء)، وينسجم مع معاني الثكل وأحاسيس الغربة لانعدام الأنيس وكثرة الأعداء يقول : (طويل)
أَفَاقَتْ مِنَ الثُكْلِ البَوَاكي وَلَمْ أُفِقْ بل ازدَدْتُ ليس الطّبعُ مثل التَّكَلُفِ
أَبْعَدَكَ والدَّمْعُ الذي عـــــــــــــــــزَّ هَيِّـنٌ دَمُ العَيْنِ يَرْقَا أَوْ لَظَى القَلْبِ يَنْطَفي
عَقَقْتُكَ إنْ لَمْ أَبْكِ بالدم كـــــــــــــــلّــه وَإِنْ لَمْ أَمُـتْ بين البُكَــــــــــــــا والتَّأَسُـفِ
فرزؤك قدّ اليومَ كــــــــــــــــــــــــــــــــــــلَّ مسـرَّد وذلَّ غَـراريْ كــــــــــــــــــــــــــلَّ أبيضَ مُرْهَـفِ
هو الدَّهرُ لا يرعَى الكريم فيرعوي ولا صَرْفُـهُ يَكْتـَــــــــــــــــــــــــفُّ عنـه فَيَكْتَفِي
ولكن أشدُّ النائبات عـــــــــلى الفتـى مفارقـةُ الأحبابِ بعـــــــــــــــــــــــــــــــد التّألُّـــفِ
وقربُ أَعَادِيه وشكواهُ دهــــــــــــــــــــــــــــرَه إلى ذي شَمَاتٍ أو إلى غيرُ مُنْصِـــــــفِ
عفاءً على الدنيا البـــــــــــــــــــــــــغي فإنَّمـا بشاشَتُـهَا كالبــــــــــــــــــــــــــــــــــارقِ المُتَخَطِّـفِ
زكا ابني في تســـــــــــــــــــــــــــــــــعِ وأربعةٍ لـه ولـم أزكُ في خمسين عـــــــــــــــــــــــامٌا ونيِّفِ
تشاغلتُ فيها بالقريضِ عن التُّقَى ولم يشتغل إلاّ بلـــــــــــــــــــــــــــــوحٍ ومُصْحَـفِ
ضيّق الحزن على الأب مقام التعبير عن الفاجعة، فحذف شبه الجملة (من الثكل) (أو منه)، ويعيد حذف المفعول به (ثكلا) لتقصير الجملتين وللتقريب بين النفي (لم) والاستدراك (بل) الذي انحرف به عن المعنى الأصلي (الإضراب)، ويثبت نفي الإفاقة، ويجعلها ضدا لازدياد الثكل الذي أصبح "وقفا على البطل المأساوي وحده، صار البطل وحده حامل عبء قناعته، ووحده المسؤول عن تحقيق تلك القناعة، صار يعاني أمر العزلة الرهيبة في صدق مع الذات يبلغ تمامه، فلا تردد فيه" ، ولا تكلف، ويعمد إلى حذف همزة الفعل (يرقا) محققا إيقاع الطويل، وليعبر عن استمرار ذرف الدموع المصحوب بمد الصوت (القاف) وإطالته، ويحذف همزة الفعل (ينطفي) متقيدا بالقافية (الفائية)، ومحققا الإطلاق وإطالة مدّ الصوت، وتكتمل الصورة بإخراج الاستفهام عن معناه الأصلي إلى دلالات النفي والتحسر، نافيا انقطاع الدمع وخمود النيران المشتعلة في قلبه المكلوم؛ ويخرق البنية الصرفية لكلمة (البكا)، ويمد حركة (الكاف) بصائت طويل، ويطيل الحسرة والآهات؛ والملاحظ من خلال التقطيع المقطعي للشطر الثاني أن إطالة الحركة بصائت طويل (مقطع مفتوح طويل- ص ح ح ) لم تحدث إلاّ في كلمة (البكا)، والشكل يوضح ذلك:
وَإنْ لَمْ أَمُتْ بَيْنَلْ بُكَاْوَتْ تَأَسْسُفِ
//0/0 //0/0/0 //0/0 //0//0
ب-- ب--- ب-- ب-ب ب
فعولن مفاعيلن فـعولن مـفاعـل
وَإنْ لَمْ: (ص ح/ ص ح ص/ ص ح ص)، أَمُتْ بَيْنَلْص ح/ ص ح ص/ ص ح ص/ ص ح ص)
بُكَاْوَتْ: (ص ح/ ص ح ح/ ص ح ص)، تَأَسْسُفِ: (ص ح/ ص ح ص/ص ح/ ص ح).
ويتم التركيز على كلمة (البكا) بعدّها بؤرة الفاجعة تكرس الوعي المأساوي؛ ويحذف الموصوف ملحا على الصفة في موضعين من البيت الرابع: درع مسرد، وسيف أبيض مرهف، وارتباط الأسلحة بالحروب المجهدة للرجال قد يفسر كثرة الحروف المشدّدة في البيت: (قدّ- مسرّد- فلّ) وتكرار لفظة (كلّ)، وما تفجره هذه الألفاظ من إيحاءات: القطع والاستئصال والشق (قدّ)- وثلم حدي السيف (فلَّ)، وثقب وخرز الدرع (مسرّدة) تماثل شدة هذه الحروف لصعوبة النطق بها وبناؤها على تكرار الحرف ساكنا ثم محركا، لتعضد أسلوبية الاستعارة المشخصة للرزء، ونقل المعنوي نقلا حسّيا مثيرا للمتلقي، يدعوه إلى إكمال الصورة بالبحث عن المشبه به المحذوف الذي لم يجعله الشاعر مساويا للمشبه فقط، وإنما لقوة السقام وشدته سدّ مسدّ المحارب الشرس الذي هزم الشاعر الأب وسلبه درته، وهذه التجربة المأساوية دفعته إلى الوقوف عند حقيقة الدهر وبشاعتها التي شخصها معتمدا أسلوبية الاستعارة دائما مصورا الدهر شخصا خائنا غدارا لا ذمة له ولا عهد، ليتعجب من الإنسان الذي يعلم خطوب الدهر، ثم يستمر في التعامي عنها، ليحقق السعادة ويوقف وعيه المأساوي، متفاديا المواجهة، ويصرّ على الجهل والتجاهل، وهو مصوغ حذف مقيّد الفعل (يكتفي) بصروف الدهر، وما تحمله من دلالات الاستمرار في التعامي والإذعان، حتى وإن كان حَدَثُ مفارقة الأحباب شديدا على قلب المفارَق، ويزداد ثقلا إذا استشعر معه الاغتراب المعمق لأحاسيس البغض وكراهية الدنيا ومن فيها، ليقلب الإنسان المغترب بصره لا يرى إلاّ أعداءً يعمقون وحدته، إذ لا يرى فيهم إلاّ صفات الشماتة والظلم، وهو ما ركزّ عليه الشاعر بحذف الموصوف والتركيز على الصفة: (إلى إنسان ذي شمات، وإلى إنسان غير منصف)
ويحذف الشاعر في البيت الثامن المسند والمسند إليه مكتفيا بإيراد المصدر، ويطلق دلالاته ويعممها، ويقطع الصوت بالنون الساكنة داعيا المتلقي إلى الوقوف عند كلمة (عفاء) التي أخرجت الأسلوب الخبري إلى الأسلوب الإنشائي الذي ناب فيه المصدر عن فعل الأمر(أعف) المحقر للدنيا والداعي إلى عدم الاغترار بها.
وإذا كان التنكير يحقق إيحاءات غنية بالمعاني المطلقة (عفاءً)، فإن تعريف الصفة (البغيِّ) التابعة للدنيا المعرفة بـ (أل) يربط الدلالة بالواقع ليؤصل تلك الصفة (البغاء) في الدنيا تحذيرا منها وسخطا عليها، وذلك ما تحققه أسلوبية القصر "المؤدية إلى تقرير المعنى في ذهن المتلقي، وتأكيده بعد تحديده تحديدا واضحا وتعيينه وحصره" ، ما يساهم أيضا في إيجاز العبارة وتقصيرها لاحتمالها الإيجاب والسلب ويعتمد أداة القصر (إنّما) ليقصر سعادة الدنيا على سرعة الفوت والانقضاء؛ ويقوّي ذلك بأسلوبية التشبيه المجمل الذي لم يصرّح فيه بوجه الشبه "المعنى الذي يشترك فيه طرفا التشبيه، والخط الفاصل بين الضوء والظلمة في بنية التشبيه، وهو مركز الثقل في توجيه وإنتاج محتوى الدلالة" ، ما يدفع المتلقي لإكمال الصورة التشبيهية، ويقف عند دلالات الحذف الموحية بأنّ ما كان موجودا في حقيقته لم يكن موجودا لسرعة انقضائه، وهو ما يجذر معاني الظلم والتشابه الطاغية على لحظات السعادة الخاطفة، وتظهر الدنيا باعتماد أسلوبية الاستعارة امرأة تحذف من البنية التركيبية ليتم التركيز على صفة (البغي) فيها.
ويكثر الشاعر الحصري من حذف التمييز- خاصة تمييز الأعداد- وهو ما يظهر في البيت التاسع (في تسع وأربعة) لدلالة سياق الكلام على مثل هذا الحذف، ولكن اللافت للانتباه هو تغيير التمييز مقارنة بالموضع الثالث الذي حوى مميزا عدديا متبوعا بالتمييز (عاما)، وقد يدل ذلك عن مقصدية أرادها الشاعر إذ المنتظر أن يكون العدد مؤنثا (تسع) ليستقيم مع التمييز المكرر في كل موضع من مواضع البيت؛ وقد يبرر ذلك بالمحافظة على إيقاع الطويل، وذلك لا يمنع من الاستفادة من الفرق بين السنة والعام الذي ذكره أبو هلال العسكري حين ذهب إلى: "إن العام جمع أيام والسنة جمع شهور [...] ويجوز أن يقال العام يفيد كونه وقتا لشيء والسنة لا تفيد ذلك" ، ليتلاءم حذف السنين مع حذف الشهور، وتكون به مدة الابن سريعة في انقضائها مقارنة بمدة الأب التي تقاس بالأيام الثقيلة، وهو ما حققه التضادزكا- لم أزك ، تشاغلت- لم يشتغل) ، فينفتح البيتان بالابن ويختتمان به، ويحصر الأب داخل عذاباته يجتر مرارتها، وينتقل بذلك من ضمير المفرد الغائب (هو) زكا إلى ضمير المتكلم المفرد (أنا) لم أزك: هو ــ أنا، أنا ــ هو.
وتخلص الدراسة إلى: تأكيد جمالية الحذف وتعبير هذا الانزياح التركيبي في النص المغربي- الحصري القيرواني الضرير تحديدا - عن التجاذب بين التراكيب والمعاني الموحية بها في لحظة الإبداع الشعري، متجاوزة فكرة ضرورة الوزن العروضي التي تقتضي الحذف؛ إذ الشاعر يمتلك قدرات على استخدام بدائل لغوية لا يحدث فيها حذف في التراكيب، وتوفر استقامة عروضية للوزن، ولكن الشاعر المغربي آثر بناءً انزياحيا يتناغم مع البناء النفسي، كما أضفى أسلوب الحذف على نصه ملمحا جماليا يوحي للقارئ بالكثير مما يود قوله بشكل مكثف، معتمدا في ذلك على قدرته على توصيل المعنى المختزن في النص المحذوف من سياق النص المنفتح على القراءة.
الهوامش:
ستحاول هذه الدراسة مستعينة بالوسائل النحوية والبلاغية محاصرة نصوص أبي الحسن الحصري القيرواني الحاملة لتجربة الأنا ونفحتها المأساوية بتتبع جماليات الانزياح التركيبي مجسدا في أسلوب الحذف، وتنطلق من أن النص الشعري هو حدث تواصلي مركب ذو بنية مكتفية بنفسها، قادرة على الإفصاح والتأثير والفعل؛ والشعر لغة حية، تتلاءم فيها عناصره إيحاءا، وتنسجم تعبيرا، لتأخذ مداها في تحديد اللحظة الشعرية، وإبراز الجوانب الجمالية المعبرة عن الدواخل النفسية؛ إذ النص الإبداعي قوة دينامية متحولة لا تعرف الانغلاق والاستكانة إلى فكرة معصومة وإنما تتعدد خارطة بنائه الدلالي إلى إيحاءات منظورة وغير منظورة، وهو ما أقرّه الخطاب النقدي المعاصر حين رأى أن النص الإبداعي الحق هو ما اتسم بالتفرد، وامتاز عن كل ما سواه من نصوص بميزات تخصّه هو وحده، تجعل درجة الإبداع تقاس بمدى ما يحققه من دهشة ومفاجأة تنشآن في الغالب من ضم عناصر لا يتوقع جمعها في صعيد واحد؛ وهو ما يحتاج إلى شجاعة اللغة المتنافية مع الخوف والحذر.
----------
جمالية الحذف:
قضية الحذف من القضايا التي استوقفت الدارسين الأسلوبين والنحويين والبلاغيين، بوصفها مجاوزة للمستوى التعبيري العادي، وخرقا للضوابط اللغوية والنحوية، وإذا كان الدرس النحوي الذي أثبتها اكتفى بتحديد مكان الحذف في التركيب، وتقديمه، ومناقشته مدى سماح نوع البنية التركيبية أو الصرفية بوقوعه على مستوى الوجوب أو الجواز أو المنع، وشروط كل ذلك ، فإن البلاغة العربية تخطت تلك الحدود، وعدت هذا الخرق "مشكلا في النص، وليس خطأ في الإعراب، وإنما هو جوهرة فلتت من عقد قياس النحويين وضوابطهم ، محاولة معرفة سر هذه المجاوزة، ودلالتها على مستوى التبليغ، وأسباب اللجوء إليها، منطلقة من أن الإبداع الأدبي عمل مخرمٌ يطلب من المتلقي "وصل ما قطع في البنيات التركيبية، لملْء الفراغات التي جعلت النص الأدبي مخرّماً بما ينتج عن عملية الحذف" .
يعد الحذف أحد العنصرين المكونين للإيجاز يقول الرماني (- 386هـ): "الإيجاز على وجهين: حذف وقصر، فالحذف إسقاط كلمة للاجتزاء منها، بدلالة غيرها من الحال، أو فحوى الكلام، والقصر بنية الكلام على تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف" ، ولن تكتفي الدراسة بتحديد مواطن الحذف في البنية التركيبية والصرفية، وإنما ستتجاوزه إلى إبراز الأثر البلاغي محاولة معرفة سره، ودلالته على مستوى التبليغ، وقدرته على التأثير.
إن كل حذف يقع في اللغة يستلزم وجود أمرين - بدونهما يكون هذا الانزياح عن التركيب المعياري مستحيل التحديد – هما: القرينة الدالة على المحذوف والمرشدة إليه وإلى إمكانية تحديده، يضاف إليها وجود سر بلاغي جمالي يدعو إلى الحذف ويرجحه على الذكر، وهذه الأسرار الجمالية الكامنة في أسلوب الحذف بما هو إيجاز في القول، وإثارة لخيال المتلقي وتحريك لحسه الجمالي لإدراك ما طوى ذكره، وسكت عنه، هي التي عدّها ابن رشيق المسيلي من أنواع البلاغة حين قال عن الحذف:" وإنما كان هذا معدودا من أنواع البلاغة، لأن نفس السامع تتسع في الظن والحساب، وكل معلوم فهو هين لكونه محصورا" .
والأنا/الشاعر في نص الحصري القيرواني الضرير عندما يبني نصه فإنه يختار له من التراكيب ما يرتضيه، موافقا بين النظام اللغوي والإبداع الشعري، معتمدا طريقته الخاصة في بناء التراكيب ورصف ألفاظها وانتظامها في نسق معين يحاول من خلاله إبراز فكرته، وهو ما يمكنه من التفرد ببنائه الشعري المنسق المنتظم المتكامل حتى لا يمكن فصل جزئياته.
ومن ثم يفجر أسلوب الحذف في ذهن متلقي النص شحنات فكرية تجعله ينقب عن الإيحاءات المستترة، ويشارك في العملية الإبداعية باحثا عن أسباب التشكيلات اللغوية في الخطاب الشعري بما تحوي في ثناياها من مؤثرات نفسية تدفع الأنا/الشاعر إلى اختيار حزمة أساليب دون غيرها، كما يمثل نصا قرينا ينتجه كل قارئ، ويشير إلى كثافة النص من حيث المضامين التي أريد إيصالها إلى متلقي النص.
2-1/أ: حذف المسند أو المسند إليه الاسميين:
تعود اللسان العربي على مثل هذا الحذف، إذ المتلقي يستطيع أن يدرك الدلالة معتمدا السياق أو القرائن،
يقول علي الحصري : (الوافر)
نَبَا بَصَرِي فَنَابَ الْقَلْبُ عَنْـهُ وَبِتُّ بِهِ أُلِـحُّ وَلاَ أُلِيـــــــــــــــــــــــــــــــــــحُ
أًلًمْ تَرَ أنّنِي بِهُـــــــــــــــدَى فــؤادي تَبيِّن لي مـــــــــــــــن الحَسَن القبيــحُ
فلو تُرِكَ المَسيحُ يُريــــــــــدُ بُرْئِـي لقال: كَفَتْ بَصِيرَتُك المسيـحُ
ومات ابني فها أنــــــــــا لا فـؤاد ولا بصرٌ، ولا مـــــــــــــــــــــــوتٌ مُريــحُ
البنية التركيبية للبيت الرابع تخلّلها حذف المسند، تولد عنه إيجاز، والعناصر التي يمكم أن تسدّ تلك الفراغات كي يظهر المعنى العميق لكل تركيب قد تقدر: لا فؤادٌ لي يهديني ولا بصرٌ لي أبصر به، ولا موت مريحٌ ينقذني من شقاء الحياة.
وقد اجتمع في البيت الحذف والتنكير مكونين قوة تعبيرية إيقاعية تجعل صورة الشاعر المفجوع شاخصة في ذهن المتلقي؛ فبعد صبره لفقدان البصر واستعاضته عنه بقوة البصيرة شكّل موت الابن الحدث المأساوي، ونبه وعي الأب المفجوع، لتترائ له بشاعة الفقد، ويقف وجها لوجه أمام المأساة.
وتكرار أداة النفي(لا) ثلاث مرات ترسيخ لدلالة الفقد وعموميته المعبر عنها بالتنكير، والاكتفاء بعد حرف النفي بالمسند إليه إنهاء للجملة وقطعا لإطالتها، ليحمل الحذف دلالات عميقة توحي بتفخيم معنى الفقد والسلب، وكأنه نفي عمّ كل الأفئدة والأبصار؛ فالشاعر افتقد بصيرته وأفئدة الجميع، وعمّه الظلام الذي خيّم على كل من حوله ليكون بذلك النفي شاملا موحيا بعظم المصاب، بالإضافة إلى دلالة الوحدة والعزلة، إذ الشاعر فقد فؤاده وأفئدة من حوله، وسلب بصره وأبصار الآخرين، وازداد شقاء لأن الموت لا يريحه من حياة الوحدة.
وعلى مستوى الإيقاع فإن الجمل القصيرة الموصولة بواو الجمع والمشاركة كونت إيقاعا ترجيعيا متوازنا ينتهي في كل مرة بنون ساكنة تقطع الصوت مثلما قطع الموت الابن من عالم الأحياء مشكلة ثنائيات تتوزع بهذا الشكل: (مات، ابني)، (لا، فؤاد)، (لا، بصر)، (لا، موت مريح):
ليحمل الموت دلالة النفـي المكرر، ويماثل الابن الفؤاد والبصر وانعدام الموت المريح، وفي تقصير الجمل تـلاؤم مع قِصَرِ عمر الابن، وانتفـاء وجوده حمل التركيب على حذف دلالات الامتلاك والاستحقاق (لي، عندي)، ليتشاكل الحذف التركيبي مع الدلالة والإيقاع، إذ لو ذكرت المحذوفات لاختل إيقاع بحر الوافر.
ويحقق الشاعر بأسلوبية الحذف خرقا للضوابط اللغوية، هو"شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن" .
إن الحصري الضرير يدرك بذوقه الفني، وإحساسه المرهف ما يتفجر من التراكيب العربية من معاني تجد نفس المتلقـي متعـة في استكمال المحذوفـات مستعينة بتقدير العناصر، يقول : (الرمل)
سُلِبَتْ أنفسَ عِلْقٍ راحَتِي درةً بيضاءَ صيغتْ من عَلَقْ
لوْذَعِيٌ كنت أرجو كــــونه خلفًا منّي إذا المــــــــــوت طـَرَقْ
خرقت البنية الشعرية للبيتين قواعد نحوية خرقا تحمله رويّ القصيدة الذي سُكِّن دون مسوغ نحوي، لكن تم تسكينه بمسوغ سماه سيبويه بـ: "باب ما يحتمل الشعر" ، وهو ما يعرف بالضرورة الشعرية، لأن وزن الرمل فرض تقييد الاسم المجرور ثم الفعل الماضي ليتحقق التوازن الإيقاعي، وتتماثل القافيتين، ويظهر حذف المسند إليه في (لوذعيٌ) المقدر بـ(هو)، وأسلوبيته في بناء صدور الأبيات متفرقة في قصائد تعتمد هذا الحذف الوارد مبتدأ، ليوجه انتباه المتلقي إلى الخبر الذي يتضمن جوهر صفات الابن الفقيد من خفة وذكاء وظرف وحدّة فؤاد، وفصاحة لسان، كأنه يلذع بالنار من ذكائه، ليكمل الصورتين المجازيتين الواردتين في البيت قبله: وتظهر سيطرة الشاعر على الأدوات الفنية للمجاز اللغوي، وما سيتم به من المبالغة التي هي أثر من آثار الخيال، ومن تجسيم زاخر بالحركة والألوان، وتشبيه الابن (المحذوف في التركيب) بالعلق النفيس المبدل من الدرة البيضاء المصرح بهما: ادعاء بأن الطرف الثاني من التركيب التشبيهي لا يساوي الطرف الأول المحذوف في الصفات وحسب، بل يتجاوزه إلى إمكانية أن يسدّ مسدّه، ويكثف بذلك المعنى الذي يفضي إلى أعمق الدلالات متجاوزا بذلك المعنى السطحي، ويدعم هذه الصورة بالمجاز المرسل مطلقا الجزء (راحتي) ليريد به (الكل) المعادل للشاعر لما يحمله هذا الجزء من دلالات الامتلاك والقدرة والسيطرة المنتفية بفعل السلب المجهول الفاعل (سُلِبَتْ)، وتبرز إيحاءات القهر التي استشعرها الأب المفجوع.
وهذه التوليفة من الخروق التركيبية والانزياحات البلاغية تتعاضد لتؤكد هزيمة الأب أمام فجيعة الموت وترسم المشهد المأساوي المفجر للمواجهة والتخطي، يقول : (الطويل)
فنيت هوًى إلاّ حُشَاشَةَ مُهْجَتِي أَجُولُ بها في مربع ومصيفِ
فَرِيدٌ من الأحباب أبكي طلولهم وأكثر فيها لـو شُفِيتُ وقُوفِي
يتكرر حذف المسند إليه، ويختلف العنصر المحذوف المقدر، فبعد أن اعتمد الشاعر الخصيصة الإيقاعية المتمثلة في إطالة صوت النون في ضمير المتكلم المفرد المنفصل أو تقصيرها عمد إلى خرق التركيب النحوي بحذف الضمير (أنـا)، والتركيز على المسند الخبر (فَرِيدٌ) للفت الانتباه إلى وحدته وافتقداه الأنيس.
وترتفع أصوات فواعل المنع في التجربة العشقية محاولة صد العاشق المأساوي، يقول : (الطويل)
عرفت ذنوبي هل إليك شفيع عثرتُ أَقِلْني أو فسوفَ أضيعُ
عقابك مثلي أنت عنـــــــــه رفيـعُ عُبَيْدٌ ذَلِيلٌ سَامِعٌ ومُطِيــــــــــــــــــــعٌ
ومَوْلىً عَزِيزٌ مِنْ طِرَازِهُمُ الْعَالِي
يستمد الشاعر تجربته العشقية من تجارب العشاق المأساويين الذين فنوا في عشقهم ورفضوا فواعل المنع، ويعتمد في البنية الشعرية لهذه الأشطر أسلوبية الاستفهام، وما حملته من دلالات الاستعطاف والشكوى، وهو ما استدعى حذف ضمير المتكلم (أنا)، ليكثف الخبر وينبه إليه، ويوظف جملة من الخصائص الأسلوبية المفجرة للدلالات العميقة: التصغير وما يوحي به من معاني الذل والقهر والوجع والافتقار، والتنكير للتعميم والشمولية، والتنوين لقطع الصوت تركيزا على الصفات، ثم خصيصة الفصل والوصل لإحداث التوازن الإيقاعي (عَنِيدٌ- ذَلِيلٌ- سَامِعٌ)، ثم إيقاف تداعي الصفات وتواصلها لكسر رتابة الإيقاع، ومفاجأة المتلقي باستئناف العطف، إذ المتوقع من الفصل بعد الوصل أن يحمل دلالات تباين ما قبلها؛ ويساهم حذف المسند إليه (أنا) في عدم اختلال إيقاع الطويل.
2-1/ب: حذف المفعول:
يقول الشاعر مخاطبا العيد الذي أتاه يحمل السعادة والأفراح : (البسيط)
أبدلت يا عيدُ عيني حامِ من سَامِ ففاض جفني بما أفضى إلى يامِ
قد كنت هيمانَ مهمومًا بلا جلدٍ فزدت ضعفين في همّي وتهيامِي
عَهِدْتُ ليلتك البيــــــــــــــــــــــــــــضاء نيِّــرةً فمالـها كحَّلت عيـــــــــــــني بإظــلامِ
حتى تناسيتُ مـــــا عوّدتُ من فرح وقبحُ يـــــــــــــوم ِيُنسِّي حُسْنَ أيَّــامِ
[...]مخايلٌ فيــــــــك راقتني محاسنُهـا سَرَّت ببــــــــــــــــــدءٍ ولـم تسرُرْ بإِتمـامِ
تبرز الأبيات مدى اهتمام علي الحصري بالتراث الديني ونهله منه واستقائه من معينه، وهو ملمح بارز في أشعاره، يسهم في الإفادة من مضامينه المتعددة "والارتقاء بأدواته التشكيلية وقدراته التعبيرية" ، ويركز الشاعر على صورة مستوحاة من قصة النبي نوح عليه السلام وأبنائه معتمدا التشبيه الدال على محاولة: "مقارنة الشاعر بين واقعه الذي يحاول التعبير عنه وما يرمز إليه في الإطار التاريخي ليضفي الثاني على الأول الذي يزداد بروزا وعمقا وامتدادا؛ فقد رمز بحام ابن نوح عليه السلام إلى الجنس الأسود، وبسام إلى الجنس الأبيض، والسامي: كلمة تطلق على الذهب والفضة، ليكون الشاعر بفقده ابنه عبد الغني قد أبدله العيد سواد العين من بياضها، لتذرف طوفانا من العبرات يغرق يام ابن نوح الذي أغرق بالطوفان.
وبالعودة إلى أسلوبية الحذف المعتمد في البيتين الأخيرين بالتركيز على الفعل وخصيصة المقابلة (سَـرَّتْ بِبَدْءٍ- لَمْ تَسْـرُرْ بإتْمَامِ) : يمكن تقدير المحذوفين (سَرَّتْنِـي) (لم تسرُرْني)، وإسقاط عنصر المفعول به في البنيتين لم يتمخض عنه أي لبس أو غموض بالرجوع إلى(راقتني)، لكن الإبداع البلاغي جعل الشاعر يفضل الحذف لتركيز العناية على الفعل ونقيضه، ولينتقل بهذا الخرق إلى تعميم السرور الذي كان موجودا ثم انعدم بموت الابن، ويفسح بذلك المجال للأحزان لتحل محله ويستمر جاعلا هذا التفجع عاما شاملا، وقد سبق هاذين الحذفين إسقاط أحد المفعولين اللذين يتعدى إليهما الفعل (ينسّي) في البيت الرابع، إذ يمكن تقدير الحذف بالقول: ينسّي الإنسانَ حسنَ أيام لمقام الحكمة التي ورد فيها، ويدعم هذا الحذف بظاهرة الالتفات عن ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، ليفاجئ المتلقي، وينقل التجربة من الشخصية والتخصيص إلى الحكمة والتعميم، مركزا على فعل نسيان المسرة وبقاء الحزن والآلام، يقول متذكرا أيام الوصال : (الطويل)
حُسِدْتُ عليه قاتل الله حاسدي فضنّ به الدهر الذي كان يَسْمَحُ
حَمدتُ زماني فيــــــــــــــــــــــــــــــــــــه ثم ذممتُه ومازال هذا الدّهر يُهْجَى ويُمْدَحُ
حَديثٌ له في النفس لستُ أُذِيعُهُ فتذكارُه يُواسِــــــــــــــــــــــــي الفؤادَ ويَجْرَحُ
يكثر الشاعر من تشخيص الدهر، ويعده مانعاً من موانع تجربته العشقية المطالب بكتمانها، ويعتمد خصيصة الحذف في البيت الثالث مركزا على فعل (يجرحُ) إدراكا منه أن القافية أعظم ما في البيت، محافظا على إيقاع بحر الطويل بعدم الذكر، ولا يجد القارئ مشقة في إكمال العنصر المحذوف يجرحه (الفؤادَ)، وفي عدم تقييد الفعل بمفعوله دلالات الإطلاق لتعمّ الجراح الفؤاد وغيره، وتزداد بذلك تأثيرا وإيلاما إذ فعل المواساة أتم جملته:
(يُوسِي الفُؤَادَ) في حين بقي فعل الجرح (يَجْرَحُ) مستمرا، يقول الحصري القيرواني : (الخبب)
صَنمٌّ للفتنـة منتصـبٌ أهواه ولا أتعبَّـــــــــــــــــــــــــــــدُهُ
صاحٍ والخمر جنى فَمِـه سكرانُ اللحظ مُعَربــدُهُ
ينضو من مقتله سيفــا وكأنّ نعاســـــــــــاً يُغْمِــــدُهُ
فيُريقُ دمَ العشاقِ بــه والويل لمن يتقلّـــــــــــــــــــــــدُهُ
كلاَّ لا ذنـب لمن قَتَلَتْ عَيْنَاهُ وَلَمْ تَقْتُلْ يَــــــــــــــــدُهُ
في الأبيات حذوف كثيرة: حذف المسند إليه في أول صدري البيتين الأولين تركيزا على المسند (الخبر)، وتعميم بالتنكير والتنوين لقطع الصوت والتوقف عند الصفتين، وفي البيت الخامس حذف المفعول مرتين وهذا النوع من الحذف قال فيه الجرجاني "وهو أن يكون معك مفعول معلوم مقصود قصدُه، قد علم أن ليس للفعل الذي ذكرتَ مفعول سواه، بدليل الحال أو ما سبق من الكلام، إلاّ أنّك تطرحه وتتناساه وتدعه يلزمُ ضمير النفس، لغرض غير الذي مضى، وذلك الغرض أن تتوفر العناية على إثبات الفعل للفاعل، وتخلُص له، وتنصرف بجملتها، وكما هي إليه" ، ليتولد عن ذلك الحذف التركيز على فعل القتل غير الموجب للثأر أو دفع الدّية، فميته شهيد في ساحة العشق، ويرسم الشاعر المأساة العشقية المعبرة عن العاشق المتراوح بين المذنب والبريء، وهي خصيصة مأساوية تعضدها المطابقة بين الفعل ونقيضه قَتَلَتْ ــ لَمْ تَقْتُلْ، ويمكن تقدير المحذوفين: (قتلت عيناه العشاق ــ ولم تقتلهم يده).
أما على مستوى الإيقاع فإن الشاعر سخَّر هذا الحذف لبناء إيقاع الخبب وإحداث التوازن الصوتي بين الفعل ونقيضه المفجر للإيحات المأساوية، يقول الشاعر : (الطويل)
وفتني دموعُ العين والصَّبْرُ خانني فجُرِّعتُ في حُبِّي لــــــــــــــــــك المرَّ والحُلْوَا
وضقت بهذا الحب ذرْعًا وحيــــــــلةً فحتّى متَى أشكو، ولا تنفعُ الشَّكْوَى
وهبْتَك حظّي من سرور ولــــــــــــــــذّة فجازيتني أن زدتُ بَلْوَى على بَلْوَى
وشَى عندكَ الواشون بي فهجرتني وحمَّلْنِي في الحبِّ مــــــــــــــــا لم أكن أَقْوَى
ولو أنَّني إذ كنتُ عندكَ مــــــــــــذنـبـا وجـدتُ سبيـــــلاً حيث أسألك الْعَفْوَا
وصالُك لي مُحْيِي وهجرُكَ قـــــــاتِلي وحبُّكَ شُغْلٌ كنـت مـــــــــــــــــــن قبله خُلْـوَا
الافتقار العشقي يكوّن بنية لغتها ألفاظ من قاموس الشقاء والعذاب، وتصوير فني لمشهد الفراق القاتل والهجر المؤجج لنيران اليأس المفجر لطوفان الدموع مما دفع بالشاعر العاشق إلى اختيار الأسلوب الإنشائي الاستفهامي وأخرجه عن معناه الأصلي إلى معنى الشكوى؛ واستعان الشاعر بأسلوبية الحذف التي لا يكاد بيت من الأبيات السابقة يخلو منها: حذف العنصر المكمّل للفعل (أَشْكُو) تركيزا على الشكوى واستحياءً من المشكو منه، إذ المحب المأساوي يصرّ على الاستمرار في عشقه مدركا أن نهايته مأساوية، معمما الشكوى لتتفجر الإيحاءات: (أشكوك- أشكو الحب- أشكو نفسي- أشكو الواشين- ...)، ولا تتوقف الدلالات المقدرة معبّرة عن الحالة المأساوية، ويتماثل هذا الحذف مع الحذف الذي أصاب البنية التركيبية الموصولة به: (لا تنفعني الشكوى) ليشمل حذف المفعول الشاعر الشاكي، ويتعدّاه لكل من عانى الافتقار العشقي، واكتوى بناره، ويقع الحذف في البيت الثالث محققا التركيز على زيادة العذاب الدالة على آلام الهجر: (زدتُ نفسي بَلْوَى) إذ المحب وهَب المحبوب سعادةً، فجازه بأن جعل شقاءه يتضاعف، مصرحاً بذلك: (زِدْتُ) ليقع في المنطقة الوسطى بين البريء والمذنب.
ويظهر الحذف في البيت الرابع: (ما لم أكن أقوى على حمله)، وهذا العنصر المحذوف كان التركيب التام سيضعه في موقع قافية البيت، ويترتب عنه تكرار مخل ببلاغة التركيب، ليتم بذلك التركيز على تأكيد عدم القدرة على تحمل مشاق الهجر الذي سعى إليه الواشون/ فواعل المنع، والبيت الخامس حافظ الحذف فيه على إيقاع بحر الطويل مثل بقية الأبيات، وركز على انعدام السبيل الموصل إلى المحبوب أو ما يعوضه أو يشبهه، وهو ما توحي به دلالة التعميم بعدم الذكر: (وجدت سبيلا إليك).
نهج الشاعر أسلوب التوازن الإيقاعي باعتماد أسلوبية الترصيع بتقصير البنيات التركيبية، وتكون بذلك أكثر ملاءمة للتأثير في النفس لتقارب الرنين الإيقاعي وحذف العنصر المقيد لما يشغل الشاعر: (وحبُّك شُغْلٌ لي) تركيزا على دخوله دائرة العشق المؤدي إلى الموت، لكثرة فواعل المنع المعبر عنهم في البيت الأول المسند إلى فاعل مجهول مفجّر للإيحاءات العميقة: (جُرِّعتُ في حبّي).
2-1/ج :حذف الموصوف:
قال الحصري يمدح أحمد بين سليمان بن هود حين استولى على دانية : (الوافر)
كذا تفتض أبكارَ البـلاد ولا مهرٌ سوى الْبِيضِ الْحِدِّادِ
اعتمد أسلوبية الاستعارة مشخصا البلاد التي شبهها بالعروس، لتنبثق من هذه الصورة إيحاءات الفرحة والاحتفال بالفاتح العريس الذي قدم المهر لأهل دانية، ليتم التملك والامتلاك، وتثبت القوامة المفضية إلى الطاعة والانصياع، وحذَف الموصوف (السيوف) لتحل محلها صفة البياض والحدّة والمضاء، مختزلا جوهر المحذوف في هاتين الصفتين للدلالة على أن بياضها ينم عن جودة المعدن الذي صنعت منه هذه السيوف (المحذوف)، وقطعها بحقيقة النصر واستحقاق الاحتفال، وحذف أسماء الأسلحة الوارد في القصائد ظاهرة لغوية وبلاغية تضمنتها البنية التركيبية في شعر الحصري، يقول : (الوافر)
على تعمير نوح مــــــــــــــــــــــــــــات نُوحُ فنائحةٌ لأمرٍ مـــــــــــــــــــــــــــــــــا تنــوحُ
أمعلولاً بعبرته عليـــلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً لحاه على البكا لاحٍ صحيحُ
[...]وجرَّحَ كل جارحة بجسمي مُفَضَّضُهُ ومُـــــــــــــــــــــذْهَبُهُ الجريحُ
فلما مات مُتُّ أسًى علــــــــــــــــــــــــــيـه كأنِّي كنتُ جسمـــاً وهْوَ رُوحُ
فناديتِ القــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــريحةَ: أبّنيــه فقالت نعم مــــــا اقترحَ القريحُ
سلامُ الله والصّـــــــــــــــــــــــــــــلوات تترى على قمرٍ أنــــــــــــــــــارَ به الضريحُ
على زهرٍ أنارت منـــــــــــــــــــــــــه أرضٌ تهبّ له مــــــــــــــــن الفردوسِ ريحُ
فنمَّ على الثّرى طيـــــــــــــــــــــــب يفوح ونورٌ من محاسنـــــــــــــــــــــــــــــــــه يلوحُ
في البيت الأول حذف الموصوف (امرأة) لتنوب عنه صفة تدل صيغتها على تحققها واستمرارية اتصافها بها، وعمد إلى تنكير الصفة (نائحة) ليحقق إيحاءات غنية بالمعاني المطلقة مما يترك نوعا من الغموض يتلاءم مع دلالات (لأمر ما)، فينتشر النواح مثلما انتشر جذره في سطح البيت: نُوحِ- نُوحُ- نَائِحَةٌ- تَنُوحُ.
ويستمر الشاعر في حذف الموصوف تركيزا على صفته التي تتفجر إيحاءاتها بالتنكير والتنوين لقطع الصوت، ودعوة المتلقي إلى الوقوف أمام شمولية هذه الصفة (معلولا) (عليلا) الموحيتين بالعلة القاهرة والسقم غير المحتمل، وينوب عن الوجه المضيء المتلألئ بألوان الفضة والذهب الممتزجة بحمرة الدماء، وتتوالى الحذوف: وتحل محل الموصوف (الأب) صفة (القُرْح) الذي لا يندمل فيبرأ، تفخيما للمصاب وتهويلاً لفداحة الفقد، ويلجأ إلى أسلوبية الاستعارة، ويخفي المشبه (الابن الفقيد) مصرّحا بالمشبه به تحقيقا للمبالغة وإثارة للمتلقي؛ فهو لم يفقد طفلا مثل بقية الأطفال وإنّما فجع في قمر منير واراه التراب، وأثكل بزهر فواحٍ أنار الأرض، وتجاوبت مع أريجه نسائم الجنة تشيّع محاسنه التي أشبهت المصابيح (مشبه به محذوف) في إنارتها للمكان، إيذانا بقرب انتقاله إلى جنان الخلود، ويحقق الحذف التركيبي وأسلوبية الاستعارة التصريحية ثم المكنية دلالات النواح المستمر دون انقطاع، وإيحاءات الفقد المفجع لقلب الأب المكلوم، قال الشاعر في رثاء المقتدر بن هود : (الطويل)
أعزّ من اقتادَ الخميس إلى الوغَى وأكرمُ من يُدعى له فوقَ منْبَرِ
تلثم حياءً يا زمانُ من العــــــــــــــــــــلا مضيتَ بمعروفٍ وجئت بمُنكرِ
مَضيتَ فما للأرضِ بعدكَ لم تَمِدْ وما لسماءِ المجدِ لم تتفطـــــــــــــــــَّــرِ
بعثتُ بهَا مشقوقةَ الجيب ثاكلاً وإنْ فتقتْ ريحَ العــــــــــــــزاءِ بِعَنْبَــرِ
حَذَفَ الشاعر المسند إليه تركيزا على الخبر الوارد بصيغة (أفعل) التفضيل، ولم يصرح بالمفضل عليهم تعظيما للفقيد إذ يصعب تحديد عدد الذين فُضِّل عليهم أو حصره، وربط ذلك بحذف الموصوف (الجيش) بالإحالة إلى صفته الدالة على كثرة العدد (الخميس)، ووظف أسلوبية التشبيه البليغ بعد أن شخص الزمان؛ وفي الصورة التشبيهية انزياح بإضافة المشبه به إلى المشبه، يوحي بدلالات عميقة عضدتها معاني: زلزال الأرض وتفطر السماء الدالتين على فقدان النظام نتج عنه اهتزاز التشبيه البليغ، وتغير ترتيب طرفيه، وفي البيت الأخير حذف لعائد ضمير الغائب المفرد المؤنث (ها) المقدر بـ (قصيدة مرثية) تركيزا على صفات الحزن والتفجع، ليثري بهذه الأسلوبية دلالات الرثاء والتأثر الشديدين، وقرن ذلك بأسلوبية الاستعارة مصورا المرثية امرأة تندب ميّتها، وتشق جيبها، وتواصل بكاءها، معتمدا خصيصة وصل الحالين (مشقوقة، ثاكلا) .
2-1/د :حذف أداة النداء وأداة الاستفهام:
يستخدم علي الحصري القيرواني حذف أداة النداء في أساليب تتضمن معاني دالة على الدعاء أو الاستعطاف أو التحسر أو التشوق إلى رؤية المخاطب، وهذا النوع من الحذوف كثير في شعره، وقد خصّ في النداء الذي سقطت أداته المخاطبَ العاقل، يقول : (البسيط)
أفْدِي النّساءَ سِوَى أُمٍ لَــــــــــــــهُ نشـزتْ وباعـتِ الفحـلَ منّــــــــــــــــي بالْمَخَـانِيثِ
أستغفرُ الله من عهــــــــــــد التي نكـثت فاستبدلت بي وما عهــــــــدي بمَنْكُـوثِ
عبد الغني اسكُنِ الفردوسَ في ظُلَلٍ وَاطْمُثْ من الحُورِ سِرْبًا غيرَ مَطْمُوثِ
تركت خيانة الزوجة أم عبد الغني أثرا مؤلما في قلب الشاعر، لذا يتهمها الزوج المغدور بالنشوز، ويتجاوزها إلى زوجها الجديد، فيتهمه بالتخنث، ويؤصل هذه الصفة معتمدا جمع الكثرة(المخانيث) بدلالته على ما لا نهاية له، ويمد حرف (الخاء) بإطالة صائته لما يحمله هذا الحرف من دلالات: الوضاعة والخسة والعيوب النفسية، وما في (الثاء) من إيحاءات بالأنثى، ويحذف مقيد الفعل نكثتْ في البيت الثاني للتركيز على الفعل، وإطلاق إيحاءات الغدر، والسياق يحيل إلى تقدير العنصر المحذوف: نَكَثَتْ عَهْدِي.
ويترفع عن إيراد الزوج المخنث الذي اختارته الزوجة الغادرة، فيحذف ما يوحي به في: (استبدلت بي) إلحاحا على فعل الاستبدال ونكث العهود، ويقدر العنصر المحذوف: (مخنثا)، ثم يحذف أداة النداء في بداية صدر البيت الثالث لدلالة بلاغية توحي أن المنادى قريب من الشاعر قلبا ومكانا، يركز عليه الاهتمام لتصدره الكلام، يقول ساخطا على الدنيا: (مجزوء الوافر)
فيا ما أخدعَ الدنيـــــــــــــــــــــــــــــــا وأخبثها وأختنهـا
وأقطعها إذا وصـــــــــــــــــــــــلـت محبيــــــــــها وأخونهـا
وأوأدها لمولــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــودٍ تنشب فيـــــــــــــــــــــه برثنهـا
أرى شرس الحيـــــــــــــــاة غدًا يفارقها ولينــــــــــــــــــــــــــــــــــهـا
فما لي والغـــــــــــــــــــــــــــــــرور بهـا ألست أرى تخــــــــــــــــوّنَها
حَبِيبَ الْقَلْبِ صلْ شفتي بلثمك حيث أمكنَها
بمسكنة سألت فقـــــــــــــــــــــــلْ لمشتاقٍ تمسكـــــــــــن:هـا
ينحرف الشاعر (بياء) النداء إلى دلالة التنبيه والتحذير من الدنيا والاغترار بها، معتمدا أسلوبية التعجب، وما توحي به من استعظام شرور الدنيا، ويخرق البنية التركيبية التعجبية مركزا على الأفعال المتصلة بالضمير الغائب المفرد المؤنث المحيل إلى الدنيا، لتلتصـق هذه الصفات بها وتلازمها، والمتلقي لا يجد عناء في تقديـر (ما التعجبية) المحذوفة؛ وللإيحاء بقرب الابن والمناجاة حذفت أداة النداء تركيزا على المنادى المستغنى عنه بصفته المفجرة لدلالات الحبّ وفاجعة الفقد وآلام الثكل: (حبيب القلب)، واضطراب الشاعر وفقدانه الأمان والسعادة تجلى في كثرة الحذوف: حذف مفعول (سألتُ) إلحاحا على فعل السؤال والتحسر، وهو ما حصل مع اسم فعل الأمر (ها) ليركز على معنى المنع: فلا يكتفي الأب بأخذ القبلات بل ينعم برؤية الابن المثلجة لصدره المطفئة لنيران شوقه، ويتحقق بهذا الحدث الوصال، يقول (المنسرح)
عَبْدَ الغنيِّ اقترب فـــــــــــــلا وأبي ما رفّهَ العيش لي ولا رفــــــــــغا
قبرُك روضٌ أحبُّ زورتَــــــــــــــــــــه ولو وطئت الشِّظَاظَ والرَّدَغَا
لا فرحت كل طفلة كحلَتْ بعدك عينا وزرَّقَتْ صَــــــــدَغَـا
تراكَ يوم الحساب تشفعُ لي إذا التقيـنا ولي إليــــــــــك ضُغَـا
إن إحساس الشاعر بقرب ابنه الميت قلبا ومكانا أدى إلى حذف ياء النداء، ليتضمن التركيز على الابن المنادى نوعا من المناجاة والتوسل الذي يجسد المأساة، ويصور حال الأب المفجوع الفاقد لطعم الحياة والمستشعر ضيقها، إذ تحولت إلى جهنم تدفع الشاعر إلى الاغتراب عنها والتذمر منها ونشدان الفكاك من براثينها، ويستعين بأسلوبية التشبيه البليغ مطابقا بين قبر الابن والروض الذي بقي مكانا وحيدا في أرض الشاعر البائسة الممتلئة بالأوحال والأخشاب المعيقة للشاعر في سيره إلى روضه، وأورد المشبه به نكرة للتنكير والاستعظام، وقطع إطالة الصوت بالتنوين ليتوقف المتلقي عنده، ويتأمل هول المصيبة التي قطّعت كبد الشاعر، ودفعته إلى أن يرمق الحياة بعين ساخطة تشع بدعاء زوال الحسن وانعدام الزينة في الحياة، ويحذف من البنية التركيبية لصدر البيت الرابع أداة الاستفهام ليحقق دلالة حيرة الشاعر أمام تحقق أمنيته في شفاعة الابن البار فيه الذي استعطفه متذللا إليه مستكينا، وهذا الحذف يلائم إيقاع المنسرح، وهو ما يؤكد سبب قصر الشاعر للممدود (ضُغَاء)، وهذه الضرورة الشعرية التي خرقت القانون الصرفي ليمدّ حركة الغين مدًّا طويلا يحقق دلالة التذلل والإصرار عليه، وهو ما يدفع للحديث عن نوع من الحذوف يلحق البنية الصرفية.
2-1/هـ : الحذف في بعض البنيات الصرفية:
لعل الظاهرة التي تلفت الانتباه هي تكرار الشاعر قصر لفظة (بكاء) خارقا بنيتها الصرفية، وعدد هذه الخروق يتجاوز أربعة وعشرين خرقا مقارنة بورودها على صيغتها الأصلية في تسعة مواضع في الديوان، يقول : (متقارب)
حَلَى أبويْه سنًى في سناءِ فكان ابن بدر الدّجى من ذُكَا
وكنت أقول ســــــــــــــــرورًا بـه سأملـكُ دهــــــــــــــــــــــــــــري إذا أَمْلَكَا
فلمّا نمى وسمــــــــــــــــــــــــا يافعًــا ورعـت بـه الصّمَـــــــــــــــــــــــــــــــمَ الفُتَّكَا
شكـا علَّةً فشفــــــاه الرّدى وأورثنـي العِلَـلَ النُهَّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكَا
وغادرني بين شوك القتادِ وإن كنت لولا التــــــــــــــــــــــقى أَشْوَكَا
فما أستجيرُ بغير العِـــــــــــدَا ولا أستريحُ لغـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيـر البـُكَا
انتقى الشاعر (سنَّى) و(سناء) ليحقق توازنا صوتيا من التجنيس غير التام، مما يبعد بذل الجهد للبحث عن معنى اللفظتين المتجانستين، ليضفي هالة من العظمة والإشراق والعلو والشهرة على ابنه، وهو ما يتلاءم مع الصورتين الاستعارتين في الشطر الثاني المكنى عن المشبه فيهما؛ فالأب بدر ينير ظلمة الليل، والأم شمس تخفي بأشعتها كواكب السماء، ليحقق التجنيس المذكور ما سمّاه الجرجاني بالفضيلة يقول: "فقد تبين لك أن ما يعطي التجنيس من الفضيلة أمر لا يتم إلا بنصرة المعنى، إذ لو كان باللفظ وحده لما كان فيه مستحسن" ؛ وتخترق البنية الصرفية للفظة (ذكاء) بقصر الممدود لتحقيق التوازن الصوتي، والتقيّد بإيقاع المتقارب، ويحقق مدّ الكاف وإطالة صائتها استمرار الضياء وارتفاعه، وإطلاق ذلك ليعبر عن اتساع الحزن وطول الحسرة، وهو الخرق الذي لحق لفظة (البكاء)، وينسجم مع معاني الثكل وأحاسيس الغربة لانعدام الأنيس وكثرة الأعداء يقول : (طويل)
أَفَاقَتْ مِنَ الثُكْلِ البَوَاكي وَلَمْ أُفِقْ بل ازدَدْتُ ليس الطّبعُ مثل التَّكَلُفِ
أَبْعَدَكَ والدَّمْعُ الذي عـــــــــــــــــزَّ هَيِّـنٌ دَمُ العَيْنِ يَرْقَا أَوْ لَظَى القَلْبِ يَنْطَفي
عَقَقْتُكَ إنْ لَمْ أَبْكِ بالدم كـــــــــــــــلّــه وَإِنْ لَمْ أَمُـتْ بين البُكَــــــــــــــا والتَّأَسُـفِ
فرزؤك قدّ اليومَ كــــــــــــــــــــــــــــــــــــلَّ مسـرَّد وذلَّ غَـراريْ كــــــــــــــــــــــــــلَّ أبيضَ مُرْهَـفِ
هو الدَّهرُ لا يرعَى الكريم فيرعوي ولا صَرْفُـهُ يَكْتـَــــــــــــــــــــــــفُّ عنـه فَيَكْتَفِي
ولكن أشدُّ النائبات عـــــــــلى الفتـى مفارقـةُ الأحبابِ بعـــــــــــــــــــــــــــــــد التّألُّـــفِ
وقربُ أَعَادِيه وشكواهُ دهــــــــــــــــــــــــــــرَه إلى ذي شَمَاتٍ أو إلى غيرُ مُنْصِـــــــفِ
عفاءً على الدنيا البـــــــــــــــــــــــــغي فإنَّمـا بشاشَتُـهَا كالبــــــــــــــــــــــــــــــــــارقِ المُتَخَطِّـفِ
زكا ابني في تســـــــــــــــــــــــــــــــــعِ وأربعةٍ لـه ولـم أزكُ في خمسين عـــــــــــــــــــــــامٌا ونيِّفِ
تشاغلتُ فيها بالقريضِ عن التُّقَى ولم يشتغل إلاّ بلـــــــــــــــــــــــــــــوحٍ ومُصْحَـفِ
ضيّق الحزن على الأب مقام التعبير عن الفاجعة، فحذف شبه الجملة (من الثكل) (أو منه)، ويعيد حذف المفعول به (ثكلا) لتقصير الجملتين وللتقريب بين النفي (لم) والاستدراك (بل) الذي انحرف به عن المعنى الأصلي (الإضراب)، ويثبت نفي الإفاقة، ويجعلها ضدا لازدياد الثكل الذي أصبح "وقفا على البطل المأساوي وحده، صار البطل وحده حامل عبء قناعته، ووحده المسؤول عن تحقيق تلك القناعة، صار يعاني أمر العزلة الرهيبة في صدق مع الذات يبلغ تمامه، فلا تردد فيه" ، ولا تكلف، ويعمد إلى حذف همزة الفعل (يرقا) محققا إيقاع الطويل، وليعبر عن استمرار ذرف الدموع المصحوب بمد الصوت (القاف) وإطالته، ويحذف همزة الفعل (ينطفي) متقيدا بالقافية (الفائية)، ومحققا الإطلاق وإطالة مدّ الصوت، وتكتمل الصورة بإخراج الاستفهام عن معناه الأصلي إلى دلالات النفي والتحسر، نافيا انقطاع الدمع وخمود النيران المشتعلة في قلبه المكلوم؛ ويخرق البنية الصرفية لكلمة (البكا)، ويمد حركة (الكاف) بصائت طويل، ويطيل الحسرة والآهات؛ والملاحظ من خلال التقطيع المقطعي للشطر الثاني أن إطالة الحركة بصائت طويل (مقطع مفتوح طويل- ص ح ح ) لم تحدث إلاّ في كلمة (البكا)، والشكل يوضح ذلك:
وَإنْ لَمْ أَمُتْ بَيْنَلْ بُكَاْوَتْ تَأَسْسُفِ
//0/0 //0/0/0 //0/0 //0//0
ب-- ب--- ب-- ب-ب ب
فعولن مفاعيلن فـعولن مـفاعـل
وَإنْ لَمْ: (ص ح/ ص ح ص/ ص ح ص)، أَمُتْ بَيْنَلْص ح/ ص ح ص/ ص ح ص/ ص ح ص)
بُكَاْوَتْ: (ص ح/ ص ح ح/ ص ح ص)، تَأَسْسُفِ: (ص ح/ ص ح ص/ص ح/ ص ح).
ويتم التركيز على كلمة (البكا) بعدّها بؤرة الفاجعة تكرس الوعي المأساوي؛ ويحذف الموصوف ملحا على الصفة في موضعين من البيت الرابع: درع مسرد، وسيف أبيض مرهف، وارتباط الأسلحة بالحروب المجهدة للرجال قد يفسر كثرة الحروف المشدّدة في البيت: (قدّ- مسرّد- فلّ) وتكرار لفظة (كلّ)، وما تفجره هذه الألفاظ من إيحاءات: القطع والاستئصال والشق (قدّ)- وثلم حدي السيف (فلَّ)، وثقب وخرز الدرع (مسرّدة) تماثل شدة هذه الحروف لصعوبة النطق بها وبناؤها على تكرار الحرف ساكنا ثم محركا، لتعضد أسلوبية الاستعارة المشخصة للرزء، ونقل المعنوي نقلا حسّيا مثيرا للمتلقي، يدعوه إلى إكمال الصورة بالبحث عن المشبه به المحذوف الذي لم يجعله الشاعر مساويا للمشبه فقط، وإنما لقوة السقام وشدته سدّ مسدّ المحارب الشرس الذي هزم الشاعر الأب وسلبه درته، وهذه التجربة المأساوية دفعته إلى الوقوف عند حقيقة الدهر وبشاعتها التي شخصها معتمدا أسلوبية الاستعارة دائما مصورا الدهر شخصا خائنا غدارا لا ذمة له ولا عهد، ليتعجب من الإنسان الذي يعلم خطوب الدهر، ثم يستمر في التعامي عنها، ليحقق السعادة ويوقف وعيه المأساوي، متفاديا المواجهة، ويصرّ على الجهل والتجاهل، وهو مصوغ حذف مقيّد الفعل (يكتفي) بصروف الدهر، وما تحمله من دلالات الاستمرار في التعامي والإذعان، حتى وإن كان حَدَثُ مفارقة الأحباب شديدا على قلب المفارَق، ويزداد ثقلا إذا استشعر معه الاغتراب المعمق لأحاسيس البغض وكراهية الدنيا ومن فيها، ليقلب الإنسان المغترب بصره لا يرى إلاّ أعداءً يعمقون وحدته، إذ لا يرى فيهم إلاّ صفات الشماتة والظلم، وهو ما ركزّ عليه الشاعر بحذف الموصوف والتركيز على الصفة: (إلى إنسان ذي شمات، وإلى إنسان غير منصف)
ويحذف الشاعر في البيت الثامن المسند والمسند إليه مكتفيا بإيراد المصدر، ويطلق دلالاته ويعممها، ويقطع الصوت بالنون الساكنة داعيا المتلقي إلى الوقوف عند كلمة (عفاء) التي أخرجت الأسلوب الخبري إلى الأسلوب الإنشائي الذي ناب فيه المصدر عن فعل الأمر(أعف) المحقر للدنيا والداعي إلى عدم الاغترار بها.
وإذا كان التنكير يحقق إيحاءات غنية بالمعاني المطلقة (عفاءً)، فإن تعريف الصفة (البغيِّ) التابعة للدنيا المعرفة بـ (أل) يربط الدلالة بالواقع ليؤصل تلك الصفة (البغاء) في الدنيا تحذيرا منها وسخطا عليها، وذلك ما تحققه أسلوبية القصر "المؤدية إلى تقرير المعنى في ذهن المتلقي، وتأكيده بعد تحديده تحديدا واضحا وتعيينه وحصره" ، ما يساهم أيضا في إيجاز العبارة وتقصيرها لاحتمالها الإيجاب والسلب ويعتمد أداة القصر (إنّما) ليقصر سعادة الدنيا على سرعة الفوت والانقضاء؛ ويقوّي ذلك بأسلوبية التشبيه المجمل الذي لم يصرّح فيه بوجه الشبه "المعنى الذي يشترك فيه طرفا التشبيه، والخط الفاصل بين الضوء والظلمة في بنية التشبيه، وهو مركز الثقل في توجيه وإنتاج محتوى الدلالة" ، ما يدفع المتلقي لإكمال الصورة التشبيهية، ويقف عند دلالات الحذف الموحية بأنّ ما كان موجودا في حقيقته لم يكن موجودا لسرعة انقضائه، وهو ما يجذر معاني الظلم والتشابه الطاغية على لحظات السعادة الخاطفة، وتظهر الدنيا باعتماد أسلوبية الاستعارة امرأة تحذف من البنية التركيبية ليتم التركيز على صفة (البغي) فيها.
ويكثر الشاعر الحصري من حذف التمييز- خاصة تمييز الأعداد- وهو ما يظهر في البيت التاسع (في تسع وأربعة) لدلالة سياق الكلام على مثل هذا الحذف، ولكن اللافت للانتباه هو تغيير التمييز مقارنة بالموضع الثالث الذي حوى مميزا عدديا متبوعا بالتمييز (عاما)، وقد يدل ذلك عن مقصدية أرادها الشاعر إذ المنتظر أن يكون العدد مؤنثا (تسع) ليستقيم مع التمييز المكرر في كل موضع من مواضع البيت؛ وقد يبرر ذلك بالمحافظة على إيقاع الطويل، وذلك لا يمنع من الاستفادة من الفرق بين السنة والعام الذي ذكره أبو هلال العسكري حين ذهب إلى: "إن العام جمع أيام والسنة جمع شهور [...] ويجوز أن يقال العام يفيد كونه وقتا لشيء والسنة لا تفيد ذلك" ، ليتلاءم حذف السنين مع حذف الشهور، وتكون به مدة الابن سريعة في انقضائها مقارنة بمدة الأب التي تقاس بالأيام الثقيلة، وهو ما حققه التضادزكا- لم أزك ، تشاغلت- لم يشتغل) ، فينفتح البيتان بالابن ويختتمان به، ويحصر الأب داخل عذاباته يجتر مرارتها، وينتقل بذلك من ضمير المفرد الغائب (هو) زكا إلى ضمير المتكلم المفرد (أنا) لم أزك: هو ــ أنا، أنا ــ هو.
وتخلص الدراسة إلى: تأكيد جمالية الحذف وتعبير هذا الانزياح التركيبي في النص المغربي- الحصري القيرواني الضرير تحديدا - عن التجاذب بين التراكيب والمعاني الموحية بها في لحظة الإبداع الشعري، متجاوزة فكرة ضرورة الوزن العروضي التي تقتضي الحذف؛ إذ الشاعر يمتلك قدرات على استخدام بدائل لغوية لا يحدث فيها حذف في التراكيب، وتوفر استقامة عروضية للوزن، ولكن الشاعر المغربي آثر بناءً انزياحيا يتناغم مع البناء النفسي، كما أضفى أسلوب الحذف على نصه ملمحا جماليا يوحي للقارئ بالكثير مما يود قوله بشكل مكثف، معتمدا في ذلك على قدرته على توصيل المعنى المختزن في النص المحذوف من سياق النص المنفتح على القراءة.
الهوامش:
مواضيع مماثلة
» المقال التاسع: مأساوية الموت في الشعر المغربي القديم
» جمالية التشكيل الفني في الشعر الشعبي الجزائري
» الإيقاع في الشعر العربي الحديث
» اهتمام علماء توات بتراث ابن آجروم الصنهاجي المغربي
» إرهاصات التأسيس النقدي الأدبي القديم
» جمالية التشكيل الفني في الشعر الشعبي الجزائري
» الإيقاع في الشعر العربي الحديث
» اهتمام علماء توات بتراث ابن آجروم الصنهاجي المغربي
» إرهاصات التأسيس النقدي الأدبي القديم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى