إرهاصات التأسيس النقدي الأدبي القديم
صفحة 1 من اصل 1
إرهاصات التأسيس النقدي الأدبي القديم
إرهاصات التأسيس النقدي الأدبي القديم
أ.حليمة بلوافي
المركز الجامعي لعين تموشنت
تمهيد :
إن أخص ما يميز اتحاد النص الجاهلي في جملة الخصائص الشكلية هو حدوث تراكم للتجربة الأدبية وتوارث الأجيال لتلك الخصائص بضرب من الحتمية، حتى غدت معايير عامة للقول الأدبي والشعري منه على الخصوص " فبين الحداء الذي يظن أنه نواة الشعر العربي وبين القصيدة المحكمة عصر طويل للنقد الأدبي ألح على الشعر بالإصلاح والتهذيب حتى انتهى إلى الصحة وإلى الجودة والإحكام .فلم يكن طفرة أن يهتدي العربي لوحدة الروي في القصيدة ولا لوحدة حركة الروي، ولا للتصريع في أولها، ولا افتتاحها بالنسيب والوقوف بالأطلال، لم يكن طفرة أن يعرف العرب كل تلك الأصول الشعرية في القصيد، وكل تلك المواضعات في ابتداءاته مثلا، وإنما عرف ذلك بعد تجارب، وبعد إصلاح وتهذيب وهذا التهذيب هو النقد الأدبي."1 فالبناء الهندسي للنص الشعري الجاهلي، ودوران استعمال المعجم الشعري بين مختلف النصوص والاستهلال المشترك، ومسالك القصيدة حتى تفضي إلى نهايتها، والإيقاع المتناغم بين أجزائها ...كل ذلك خصائص عامة اشترك فيها شعراء الفترة الجاهلية .
1- رواد التأسيس النقدي القديم :
وإذا أضفت إلى ذلك كله تقاليد خاصة بالصناعة الشعرية كالروية والأناة، والتهذيب والمراجعة، كان ذلك توصيفا لمدرسة شعرية، سيمتد تأثيرها إلى أجيال لاحقة قد تصل إلى نهاية العصر الأموي، كما هو الشأن بالنسبة للمدرسة الأوسية التي أرسى دعائمها زهير بن أبي سلمى وامتدت إلى شعراء صدر الإسلام كالحطيئة وهي مدرسة تبدأ بأوس بن حجر وتنتهي بكثير، فقد كان زهير بن أبي سلمى راوية أوس وتلميذه، ثم صار زهير أستاذا لابنه كعب وللحطيئة ...ثم جاء هدبة بن خشرم الشاعر وتتلمذ للحطيئة وصار راويته، ثم تتلمذ جميل بن معمر العذري لهدبة وروى شعره، ثم كان آخر من اجتمع له الشعر والرواية كثيرا تلميذ جميل وراويته2، يقول ناصر الدين الأسد في توصيف المدرسة الشعرية :" شعراء يروون فيما يروون شعر شاعر بعينه فيحفظون هذا الشعر، ويتتلمذون للشاعر، ويحتذون فيما ينظمون شعره، واعين مقلدين في بدأ أمرهم، ثم يصبح التقليد طبيعة وفطرة يصدرون عنها صدورا فنيا . وبذلك تكتمل لدينا سلسلة من الشعراء الرواة يكون لهم من الخصائص الفنية التي تجمع بينهم ما يتيح أن نسميهم مدرسة شعرية كما سماها الأستاذ طه حسين "3
فالمدرسة الشعرية هي فعل تراكمي للتجارب الشعرية التي ترسم إطارا عاما يحتذى به الشعراء التالين بواسطة الرواية والتقليد، ويكون الملمح الشكلي أهم ما يميز المدرسة الشعرية، ونعني به استهلال النص، ثم انعطافه إلى موضوعات مترابطة ثم انتهاءه على نحو مخصوص يقتضيه فحوى النص، فضلا على الاشتراك في المعجم الشعري الذي يعني فيما يعنيه حضور اللغة ومفرداتها بأنساق معينة تدل على انتماء الشاعر لتلك المدرسة .
لم يبلغ النقد القديم ذروة نضجه إلا مع حلول القرن الرابع الهجري، حيث واكب حركة شعرية نشطة أحدثت ثورة في المفاهيم القديمة والأصول الأولى التي نظّرت للقول الشعري، ووضعت أسس وقواعد الإبداع الصحيح، والمقبول والذي تتوافر فيه سمات عمود الشعر كما رسمه أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي (-370هـ) خاصة في كتابه الموازنة بين الطائيين .
2- عوامل التأسيس النقدي القديم :
إنّ التغيرات التي طبعت الحياة الاجتماعية في نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي، وعجّلت بنقل الناس من حياة البداوة إلى حياة التمدّن، قد واكبتها تغيرات على مستوى الإبداع الشعري على يد شعراء تمرّدوا على عمود الشعر، وجعلوا القول الشعري مفتوحا على التحديث في أساليبه وطرائقه وفي موضوعاته وخصائصه، ومن أولئك الشعراء الذين دارت حول منتوجهم الشعري مناقشات وخصومات واحتدم الجدل حول المعجم الحديث الذي استحدثوه، أبو تمام والبحتري وأبو الطيب المتنبي، ووازى ذلك حركة نقدية نشطة كان من أبرز أعلامها ابن جني ذلك أن الهدف الدقيق والأسمى الذي كان يود تحقيقَه ابن جني، هو بيانُ بلاغةِ اللغة العربية وأسرارِها في التعبير والإنشاء، ولذلك نجده في كتبه على تنوّعها وكثرتها يحاول أن يُبرزَ فضائل هذه اللغة سواء في مظاهرها النظرية، في الصرف والنحو والبلاغـة والصوت، أو في تطبيقاتها الإجرائية، في استعمال تلك التنظيرات في القول الإبداعي، الشعري والنثري .
وما كان يهم ابن جني هو الجانب العلمي لهذه اللغة، ولذلك نجده يتتبع اطرادات الاستعمال اللغوي في الشعر خاصة، فلم يُعر اهتماما كبيرا للناحية الجمالية للغة الشعرية حين تناول شعر الحماسة أو شعر الهذليين أو شعر أبي الطيب المتنبي، وإنما ما راعه هو الجانب العلمي لهذه اللغة في اتساعها للمعاني الذهنية مع احتفاظها بأصولها التعبيرية فلقد أثبت علماء الشعر في العصر العباسي أنّ " كتابة الشعر، بالنسبة إلى الشعراء اللاحقين، نوعٌ من التفريع على الشعر القديم، والاشتقاق منه. وما النقد إلاّ دراسة هذا التفريع وهذا الاشتقاق قياساً على أصولهما."4 ولذا فإن ما طرب له ابن جني في شعر أبي الطيب المتنبي –مثلا – أكثر من طربه لجمال التعبير وبلاغة الإنشاء، فابن جني عالم، وهمّ العالم هو تجريد الحقائق التطبيقية في صورة قواعد عامة تصلح أن تكون قانونا مطّردا .
هذه التقاطعات العلمية البارزة في مسار ابن جني العلمي، ستتبلور في شكل مداخل نظرية، سيحاول من خلالها تقديمَ إطارٍ نظريٍ بارز المعالم حول الأسس العامة، التي تنبني عليها اللغة في الصناعة الشعرية، وهو ما يكاد يحتوي عليه كتاب"الخصائص " الذي تفيدنا المصادر التاريخية، أنه آخر ما ألَّف ابن جني من الكتب وضمّنه خلاصة تجربته العلمية والنقدية مع النصوص والمتون الشعرية والنثرية5، والتي كان يروم من خلالها بعث لغة تتَّسع لكل المعاني سواء في تعبيراتها الحقيقية أو في إيحاءاتها المجازية، وهو ما وجد له صدى واضحا في أشعار المحدَثين من أبي تمام والمتنبي وغيرهما، وهذا التحديث الإبداعي في اللغة، أو العلمي النظري، لقي صداًّ عنيفا من قبل المتشبثين باللغة التقليدية التي تحترم سنن عمود الشعر العربي وبالشدّة نفسها التي تعرض لها المتنبي من قبل النقاد واللغويين، لقي ابن جني إعراضا من قبل الشراح والنقاد، وألصقوا به تهما لعل أبرزَها ميلُه لشعر المتنبي سعيا منه لخدمة مذهبه النحوي واللغوي، الذي كان يجمع فيه بين المذهبين البصري والكوفي، وهو ما عُرِف عند اللغويين بالمذهب البغدادي .
3- مظاهرمن التأسيس النقدي القديم :
ومع خروج بعض الشعراء على سنن الأقدمين كما تبدت في تنظيرات الأصمعي (ت 210هـ ) وابن سلام الجمحي (ت 232 هـ)ابتداء من القرن الثالث الهجري، فُتِحت مجالات جديدة في النقد لعل أهمها تتبع عثرات الشعراء المحدثين وإحصاء سقطاتهم على مستوى اللفظ المعجمي في علاقته بالمعنى وعلى مستوى التركيب الأسلوبي في علاقته بالقيمة الجمالية لمحمول الخطاب الشعري، وأدى ذلك إلى نشوء احتدام بين المعارضين للتحديث في الشكل الشعري وبين المؤيدين لذلك واتسع الأمر إلى مبحث سمي بالخصومات6، كما اتسم النقد في هذه المرحلة بالتجديد في رؤاه التقويمية والتي انجر عنها استحداثُ عُدّةٍ جديدة من المصطلحات النقدية والمفاهيم النظرية نجدها مبثوثة في ثنايا كتب النقد القديم مع ابن قتيبة في الشعر والشعراء، وابن طباطبا في عيار الشعر والجرجاني في دلائل الإعجاز وابن جني في شرح ديوان المتنبي المعروف بالِفسر .وقد نصّب بعض النقاد أنفسهم للوساطة بين المؤيدين للتحديث والمعارضين كما يتجلى ذلك في الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي عبد العزيز الجرجاني .
ولعل أهم قضيةٍ لفتت اهتمام النقاد قضيةُ الطبع والصنعة، حيث مال المؤيدون للتحديث في الشعر إلى أن الشعر صناعةٌ كباقي الصنائع يتعهّدُه صاحبه بالانتقاء للألفاظ واختيار أنسب التراكيب، وبالتالي فإن الاهتمام باللغة يمثل أسّ مذهب الصنعة وهو رديف الاهتمام بالشكل، على نقيض مذهب الطبع الذي يميل مناصروه من النقاد إلى تقفي سنن الأولين من الشعراء الفحول7 والمجيدين في التعبير والإنشاء والتأليف على سمتهم في تشكيل الصور والتعبير عن مشاعر النفوس .
4- اللغة والنقد :
إن النقد العربي القديم بدأ باعتبار المنحى اللغوي العام هو المنفذ لتقويم الشعر، لأن الملكة اللغوية هي زاد الشاعر في الإبداع، أما المعاني فإنها مطروحة في الطريق – كما قال الجاحظ – وقد كان أبو عمرو بن العلاء والأصمعي وبشر بن المعتمر وثعلب من أوائل الذين قدّموا تقويمات انطباعية جزئية للصيغ التركيبية للقول الشعري في زمنهم .
ولقد كانت لصحيفة بشر بن المعتمر (- 210 هـ) الأثر الواضح في وضع طريق ومنهج لرؤية نقدية للأدب، وذلك من حيث تأسيسها لجملة من المقومات النقدية الخاصة بالقول الأدبي كاستعداد الأديب، وأحوال المخَاطَبين، والأسس الواجب مراعاتها، وهي أقرب إلى التصور البلاغي للقول الأدبي.
أما الأصمعي فقد كان أميل إلى النقد اللغوي، وهو أول من طرح مصطلح "الفحولة" وناقشه من وجهة نظر لغوية ومن حيث توافر المعجم اللفظي اللغوي عند الشاعر وسبقه إلى المعاني. أما ابن سلام الجمحي فقد طرح مصطلح ً الطبقات ًوذهب به إلى نظرية نقدية تأخذ مبدأ الترتيب وتراكم الإنتاج الشعري كأساس من أسس المفاضلة بين الشعراء8. ومع الجاحظ تبلورت مسألة اللفظ والمعنى، وأضحى ميل النقاد واضحا نحو الإعلاء من شأن اللفظ والتركيب وضرورة أن ينتقي المبدع معجمه اللفظي ويتعهد سياقه اللغوي بترتيب عناصره وترصيف أجزائه المقولية.
أما ابن قتيبة فيعدّ استثناء مميزا ضمن نقاد هذه الفترة إذ لم يعتمد على المقاييس الخاصة بالمكان أو الزمان، أو المتعلقة بالشاعر، وإنما من حيث بنية النص وجماليته وطرحه لدلالات جديدة ومعان مستحدثة .
وقفز النقد العربي القديم مع حلول القرن الرابع الهجري قفزة نوعية بارزة، حيث بدأت تحولات أساسية في مفهوم النقد مع ابن طباطبا في عيار الشعر وقدامة بن جعفر في نقد الشعر، والآمدي في الموازنة وأبي هلال العسكري في الصناعتين والجرجاني في الوساطة والمرزباني في الموشح والأشباه والنظائر للخالديين ..هذه الأقطاب النقدية البارزة في النقد القديم أسهمت بشكل لافت في بعث حركة نقدية نشطة تأخذ بكل جوانب العمل الأدبي : شعره ونثره، إضافة إلى وضع المصنفات الكبرى الشارحة أو المترجِمة أو المؤرِّخة للآراء ًالنقدية ً في عصور أدبية مختلفة، وكان أبرز تلك المصنفات الشروح التي تناولت الشعر بالتفسير والتعليق والتأويل، وتركت ملامح بارزة لرؤية نقدية مؤسسة على معطيات لغوية وأدبية : فالجرجاني مثلا في الوساطة بين المتنبي وخصومه لبس عباءة القاضي لفضّ النزاع، وطرح إشكالات تعبيرية تتناول اللفظ في مستواه الإفرادي ومستواه التركيبي بينما نجد أبا بكر محمد بن هاشم وأبا عثمان بن سعيد بن هاشم المعروفين بالخالديين يبرزان مبحثا نقديا مهما في تناولهما لقضية السرقات الشعرية واقتربا بها إلى مفهوم تلاقح النصوص أو التناص بالمفهوم الحديث، وبدا قدامة بن جعفر متأثرا بكتاب أرسطو المترجَم9 - وهو فن الشعر – إذ انتهج أسلوب الموازنة بين النصوص الشعرية واستخلاص ميزات كل منها ثم بيان أسس المفاضلة بينها .
أما مع بداية القرن الخامس الهجري بدأ النقد يأخذ منعطفات أكثر حدّة، إذ تأجّجت الخصومات بين النقاد، وأدى ذلك إلى تكتل هؤلاء النقاد في مجموعات تشترك عموما إما في تهليلها بالتحديث في بنية الشعر أو في تقديسها لعمود الشعر واحترامها لأسس الإنشاء الشعري القديم خاصة عند فحول الشعراء .وقد كان وراء هذا التأجيج في مواقف النقاد خرقُ بعض الشعراء لسنن القول الشعري، وتمردهم على معيارية النقد المتمثلة في عمود الشعر، وتأسيسهم للغة جديدة لا عهد للناس بها ومن بين أولئك الشعراء أبو نواس وأبو تمام والشريف الرضيّ والمتنبي وغيرهم .
ولمّا كان النقد اللغوي القديم يتجه أساسا إلى تقويم الوحدات المعجمية في مستواها التركيبي، فإنه يستند إلى مرجعية نحوية تركيبية تارة ومنطقية دلالية تارة أخرى، وهو يراجع مع كلّ تقويم قواعد القول الشعري كما رُسِمت أصولهُا عند الأوّليين من الشعراء، وهذا ما عُرف فيما بعد بـ ًالأشباه والنظائر ً والتي ترمي في مجملها إلى إلحاق كل قول شعري في تركيبه وأسلوبه وتعبيره عن المعنى، بشبيه له في شعر الأسبقين .وبرزت كتب الأشباه والنظائر لتعزِّز من سلطة عمود الشعر وهي تهدف فيما تهدف إليه – إلى حفظ الشعر العربي من تيارات التحديث التي في زعمها تذهب كثيرا برونق الشعر وبهائه .
وما كان للنقد القديم أن يتطور ويواكب الإبداع الشعري، لولا ذلك الصراع الذي اشتد بين النقاد حول الحداثة في الشعر، وحداثة المعجم اللغوي، "ولم يحظ الشعر المحدث برضى النقاد إلا في القرن الرابع للهجرة، حين أخذ النقد يستسيغ قوالب الشعر ألحديثة10 بل إنَّ سلطة الدين والمفاهيم التي أرساها حول الشعر، قد جعلت النقاد منقسمين حول حرية الشعر في اقتحام كلّ الموضوعات الذاتية وانجر عن ذلك مسائلُ كثيرةٌ كانت محل نقاش وجدال واسعين من قبل نقاد القرن الثاني والثالث ألهجريين ولعل أهم تلك المسائل مسالة الصدق والكذب ً في الشعر، وما ترتب عن ذلك من مسائل فرعية كالخيال في الشعر وحدوده، والمجاز في التعبير وأدواته .
5- النقد وحداثة الشعر :
كان الانتصار للشعر المحدث، من قبل النقاد القدامى، هو إعلان عن ميلاد أنسجة تعبيرية جديدة وطرائق أسلوبية حديثة في اقتران اللفـــظ بالمعنى، وبالتالي دخول معجم جديد يقفز على المعجم الشعري القديم، ورؤية أخرى لقواعد التركيب، التمس لها النقاد التأويل المسوّغ لفهمها والذي يجعلها صحيحة سليمة وليست لاحنة مستهجنة هو تقعيد للغة متداولة يوظفها أهل الإبداع من الكتاب والشعراء، وذلك لقناعة العلماء أن اللغة إذا بقيت حبيسة القواعد المعيارية الصارمة، فإنها -لا محالة – ستفقد كثيرا من حيويتها في التعبير عن المعاني الحديثة والحِكم العميقة، ولذلك فإن للغة أسرارا وجب الكشف عنها – في رأي ابن جني مثلا– والذي سماها في مقدمة كتابه " الخصائص " بالحكمة، ورأى أن التوظيف اللغوي في الشعر يتجاوز التقدير النحوي، ويحدث عدولٌ عن الاستعمال المألوف للكلمة، وذلك بواسطة الانحرافات ولطف المقاصد والتلفت والتثني وما إلى ذلك مما سيبينه ابن جني في شرحه للشعر .يقول محمد بن مريسي الحارثي وهو يعاين فهم ابن جني لظاهرة العدول في اللغة: " وقد توسع ابن جني في تفكيك هذا الفهم من وجهة نظر المغايرة اللغوية، والعدول بها من مستوى أدائي إلى مستوى أدائي آخر، وهو عدول من صواب مطرد إلى صواب غيــر مطرد"11.ويؤدي ذلك إلى استحداث أطر معيارية جديدة أساسها نظامُ الضرائر، الذي كان ابن جني يأخذ به كثيرا، وهو يعني في عمومه إلحاق صيغ تعبيرية حديثة بأخرى قديمة سواء في الميزان الصرفي أو في الاستعمــال التركيبي، وذلك للحكم على صحة وسلامة تلك الصيغ .
وقد عاب كثير من اللغويين آنذاك على ابن جني أخذه بالضرائر، ومنــهم الشراح الذين تناولوا شعر المتنبي كالواحدي وابن معقل الأزدي وابن فورجة وغيرهم 12، والاطراد في التعبير تمثله المعيارية المتحكمة في علم الكتابة مذ أن وضع علماء اللغة والبلاغة قواعد غدت دروسا تعليمية في فنون القول والإنشاء، إلا أن الشعر المحدث في عصر ابن جني وقبله، قد خلخل تلك القواعد في التعبير، خاصة ما تناول منه، المعاني الذهنية التي هي نواة الشعر الحِكَمي، كما هو شأن شعر المتنبي وأبي تمام وقبلهما شعر بشار وأبي نواس، فالابتكار في المعاني هو الذي يجعل الشعر يتجاوز التعبير الجاهز ويعدل عنه إلى ابتكار صيغ تعبيرية جديدة، ويكون ذلك عادة على حساب المعيار النحوي، الذي يخضع – في هذه الحالة – إلى ما سماه ابن جني بالتقدير الإعرابي، فالمعنى العميق أولى من صرامة النحو، ومن الطرق التي يقترحها ابن جني في تقدير الإعراب ليوائم تقدير المعنى، طريق تقدير المحذوف، يشرح ابن جني على نحو مفصل هذه الظاهرة فيقول:"ألا ترى إلى فرق ما بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى فإذا مر بك شيء من هذا عن أصحابنا فاحفظ نفسك منه ولا تسترسل إليه فإن أمكنك أن يكون تقدير الإعراب على سمت تفسير المعنى فهو ما لا غاية وراءه وإن كان تقدير الإعراب مخالفاً لتفسير المعنى تقبلت تفسير المعنى على ما هو عليه وصححت طريق تقدير الإعراب حتى لا يشذ شيء منها عليك وإياك أن تسترسل فتفسد ما تؤثر إصلاحه ألا تراك تفسر نحو قولهم: ضربت زيداً سوطاً أن معناه ضربت زيداً ضربة بسوط."13 بل إن ابن جني لا يتوانى على نقل الشواهد التي يتجاوز فيها المعنى الصرامة النحوية، بل إن المعنى – هاهنا – يؤسس لنحوه الخاص، الذي لا يُقرأ إلا بالتأويل، فحسب نظرية ابن جني فإن التقدير الإعرابي وجب إخضاعه لتقدير المعنى. ينقل ابن جني هذا الحوار بين الشاعر الكلبي وبعض النحويين فيقول: "وقال عمار الكلبي - وقد عيب عليه بيت من شعره فامتعض لذلك -:
ماذَا لقيناَ من المُستعربِين ومن قياسِ نحْوهِم هذَا الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذي ابتدَعُوا
إن قلتُ قافيةً بكراً يكـــــــــــــــــــــــــــون بها بيتُ خلافِ الذي قاسُوهُ أو ذرعُوا
قاَلوا لحنْتَ وهذا ليس منتصبـــــــــــــــــــــاً وذاك خَفضٌ وهــــــــــــــــــذا ليس يَرتفعُ
وحرَّضُوا بين عبدَ الله مــــــــــــــــــــن حمْقٍ وبين زيدٍ فطَـــــــــــــــــال الضربُ والوجعُ
كَمْ بين قومٍ قد احتالُوا لمنطقهِــــــــمو وبين قومٍ عـــــــــــــــــــــــــــــــلى إعرابِهم طُبِعوا
ما كلُّ قَولِي مشروحاً لكُم فخُـــــــــذُوا ما تعْرفونَ ومــــــــــا لمْ تعرِفوا فدَعُوا 14
وقد أدى ذلك - حقيقة - إلى حركية علمية أدبية كبيرة أنتجت كتبا نقدية لابن سلام الجمحي والأصمعي وابن طباطبا والجاحظ وابن جني والقاضي الجرجاني وعبد القاهر الجرجاني وغيرهم، وكل هذه المؤلفات قامت لتناقش مسائل نقدية تخص النظم الجديد في الشعر والقواعد الحديثة التي غدا يتأسس عليها القول الشعري عند أبي تمام والمتنبي والشريف الرضي وغيرهم، ولم تعد تلك القوالب المقولية التي أرساها عمود الشعر ذات سلطة قوية، وإنما غدت قواعدَ جديدة تعطي الحرية للشاعر أن يلوِّن تعابيره وأساليبه بتلوينات تركيبية عديدة حتى إن الفرزدق حينما استوقفه الأصمعي في قول شعري له للبس واقع فيه قال قولته المشهورة: علينا أن نقول وعليكم معشر النقاد اللغويين أن تؤوِّلوا.
- هوامش البحث :
1) - إن اشتراك الشعراء الجاهليين في خصائص عامة، أمر تثبته النصوص الكثيرة التي تدل على دوران تلك الخصائص بين شاعرين فأكثر من ذلك قول زهير:
ودار لها بالرقمتين كأنها مراجع وشم في نواشر معصم
ونجد نفس النسق الشعري عند طرفة :
لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
للمزيد من الأمثلة انظر كتاب من تاريخ الأدب العربي – العصر الجاهلي والعصر الإسلامي – لطه حسين ص286-287 ج 1- ط4 دار العلم للملايين – بيروت .1981.
2) - ينظر طبقات فحول الشعراء :ابن سلام الجمحي ص81 تحقيق محمود محمد شاكر مطبعة المدني – ط2-القاهرة 1974 .وينظر ابن قتيبة :الشعر والشعراء ج1ص 86 وكتاب الأغاني ج8 ص 91
3) - ناصر الدين الأسد :مصادر الشعر الجاهلي : ص 222 وانظر كذلك كتاب من تاريخ الأدب العربي – العصر الجاهلي والعصر الإسلامي - لطه حسين ص285 ج 1- ط4 دار العلم للملايين – بيروت .1981 .
4) - أدونيس: الثابت والمتحوّل ج3، ص 18،17، ط1، دار العودة، 1978بيروت.
5) - ينظر أضواء على آثار ابن جني في اللغة المطبوعة والمفقودة. لغنيم بن غانم الينبعاوي ص16 –الطبعة الأولى – 1999-جامعة أم القرى – السعودية .
6) - ينظر ذلك عند وحيد صبحي كبابة في كتابه :الخصومة بين الطائيين وعمود الشعر العربي - منشورات اتحاد الكتاب العرب – 1997 - دمشق
7) - من أولئك ابن سلام الجمحي في كتابه طبقات فحول الشعراء:ص86، والأصمعي( أبوسعيد ) في كتابه :فحولة الشعر ص78 . تقديم صلاح الدين المنجد :ط 1971 – دار الكتاب الجديد –القاهرة
- ينظر ذلك عند ابن سلام في كتابه طبقات فحول الشعراء ص34
9) - ينظر ذلك في كتاب :نقد الشعر لقدامة بن جعفر في إشارته إلى كتاب أرسطو ص 89. تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي – دار الكتب العلمية -1984 – بيروت .
10) - حسن عبد الله شرف :النقد في الصر الوسيط والمصطلح في طبقلت ابن سلام 25 – دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع ط1 – 1984- بيروت .
11) - محمد بن مريسي الحارثي: قراءة في الفسر ص2 جريدة الرياض العدد -13954 – 7/9/2006 – السعودية .
12) - ينظر ابن جني اللغوي – عبد الغفار حامد محمد بلال ص58– جامعة الأزهر –القاهرة -1978.
13) - ابن جني (أبو الفتح عثمان ): الخصائص ج 2 - ص196.- تحقيق محمد علي النجار –ط3- دار الكتب المصرية -1987- القاهرة .
14) - المصدر السابق ج2 ص254.
أ.حليمة بلوافي
المركز الجامعي لعين تموشنت
تمهيد :
إن أخص ما يميز اتحاد النص الجاهلي في جملة الخصائص الشكلية هو حدوث تراكم للتجربة الأدبية وتوارث الأجيال لتلك الخصائص بضرب من الحتمية، حتى غدت معايير عامة للقول الأدبي والشعري منه على الخصوص " فبين الحداء الذي يظن أنه نواة الشعر العربي وبين القصيدة المحكمة عصر طويل للنقد الأدبي ألح على الشعر بالإصلاح والتهذيب حتى انتهى إلى الصحة وإلى الجودة والإحكام .فلم يكن طفرة أن يهتدي العربي لوحدة الروي في القصيدة ولا لوحدة حركة الروي، ولا للتصريع في أولها، ولا افتتاحها بالنسيب والوقوف بالأطلال، لم يكن طفرة أن يعرف العرب كل تلك الأصول الشعرية في القصيد، وكل تلك المواضعات في ابتداءاته مثلا، وإنما عرف ذلك بعد تجارب، وبعد إصلاح وتهذيب وهذا التهذيب هو النقد الأدبي."1 فالبناء الهندسي للنص الشعري الجاهلي، ودوران استعمال المعجم الشعري بين مختلف النصوص والاستهلال المشترك، ومسالك القصيدة حتى تفضي إلى نهايتها، والإيقاع المتناغم بين أجزائها ...كل ذلك خصائص عامة اشترك فيها شعراء الفترة الجاهلية .
1- رواد التأسيس النقدي القديم :
وإذا أضفت إلى ذلك كله تقاليد خاصة بالصناعة الشعرية كالروية والأناة، والتهذيب والمراجعة، كان ذلك توصيفا لمدرسة شعرية، سيمتد تأثيرها إلى أجيال لاحقة قد تصل إلى نهاية العصر الأموي، كما هو الشأن بالنسبة للمدرسة الأوسية التي أرسى دعائمها زهير بن أبي سلمى وامتدت إلى شعراء صدر الإسلام كالحطيئة وهي مدرسة تبدأ بأوس بن حجر وتنتهي بكثير، فقد كان زهير بن أبي سلمى راوية أوس وتلميذه، ثم صار زهير أستاذا لابنه كعب وللحطيئة ...ثم جاء هدبة بن خشرم الشاعر وتتلمذ للحطيئة وصار راويته، ثم تتلمذ جميل بن معمر العذري لهدبة وروى شعره، ثم كان آخر من اجتمع له الشعر والرواية كثيرا تلميذ جميل وراويته2، يقول ناصر الدين الأسد في توصيف المدرسة الشعرية :" شعراء يروون فيما يروون شعر شاعر بعينه فيحفظون هذا الشعر، ويتتلمذون للشاعر، ويحتذون فيما ينظمون شعره، واعين مقلدين في بدأ أمرهم، ثم يصبح التقليد طبيعة وفطرة يصدرون عنها صدورا فنيا . وبذلك تكتمل لدينا سلسلة من الشعراء الرواة يكون لهم من الخصائص الفنية التي تجمع بينهم ما يتيح أن نسميهم مدرسة شعرية كما سماها الأستاذ طه حسين "3
فالمدرسة الشعرية هي فعل تراكمي للتجارب الشعرية التي ترسم إطارا عاما يحتذى به الشعراء التالين بواسطة الرواية والتقليد، ويكون الملمح الشكلي أهم ما يميز المدرسة الشعرية، ونعني به استهلال النص، ثم انعطافه إلى موضوعات مترابطة ثم انتهاءه على نحو مخصوص يقتضيه فحوى النص، فضلا على الاشتراك في المعجم الشعري الذي يعني فيما يعنيه حضور اللغة ومفرداتها بأنساق معينة تدل على انتماء الشاعر لتلك المدرسة .
لم يبلغ النقد القديم ذروة نضجه إلا مع حلول القرن الرابع الهجري، حيث واكب حركة شعرية نشطة أحدثت ثورة في المفاهيم القديمة والأصول الأولى التي نظّرت للقول الشعري، ووضعت أسس وقواعد الإبداع الصحيح، والمقبول والذي تتوافر فيه سمات عمود الشعر كما رسمه أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي (-370هـ) خاصة في كتابه الموازنة بين الطائيين .
2- عوامل التأسيس النقدي القديم :
إنّ التغيرات التي طبعت الحياة الاجتماعية في نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي، وعجّلت بنقل الناس من حياة البداوة إلى حياة التمدّن، قد واكبتها تغيرات على مستوى الإبداع الشعري على يد شعراء تمرّدوا على عمود الشعر، وجعلوا القول الشعري مفتوحا على التحديث في أساليبه وطرائقه وفي موضوعاته وخصائصه، ومن أولئك الشعراء الذين دارت حول منتوجهم الشعري مناقشات وخصومات واحتدم الجدل حول المعجم الحديث الذي استحدثوه، أبو تمام والبحتري وأبو الطيب المتنبي، ووازى ذلك حركة نقدية نشطة كان من أبرز أعلامها ابن جني ذلك أن الهدف الدقيق والأسمى الذي كان يود تحقيقَه ابن جني، هو بيانُ بلاغةِ اللغة العربية وأسرارِها في التعبير والإنشاء، ولذلك نجده في كتبه على تنوّعها وكثرتها يحاول أن يُبرزَ فضائل هذه اللغة سواء في مظاهرها النظرية، في الصرف والنحو والبلاغـة والصوت، أو في تطبيقاتها الإجرائية، في استعمال تلك التنظيرات في القول الإبداعي، الشعري والنثري .
وما كان يهم ابن جني هو الجانب العلمي لهذه اللغة، ولذلك نجده يتتبع اطرادات الاستعمال اللغوي في الشعر خاصة، فلم يُعر اهتماما كبيرا للناحية الجمالية للغة الشعرية حين تناول شعر الحماسة أو شعر الهذليين أو شعر أبي الطيب المتنبي، وإنما ما راعه هو الجانب العلمي لهذه اللغة في اتساعها للمعاني الذهنية مع احتفاظها بأصولها التعبيرية فلقد أثبت علماء الشعر في العصر العباسي أنّ " كتابة الشعر، بالنسبة إلى الشعراء اللاحقين، نوعٌ من التفريع على الشعر القديم، والاشتقاق منه. وما النقد إلاّ دراسة هذا التفريع وهذا الاشتقاق قياساً على أصولهما."4 ولذا فإن ما طرب له ابن جني في شعر أبي الطيب المتنبي –مثلا – أكثر من طربه لجمال التعبير وبلاغة الإنشاء، فابن جني عالم، وهمّ العالم هو تجريد الحقائق التطبيقية في صورة قواعد عامة تصلح أن تكون قانونا مطّردا .
هذه التقاطعات العلمية البارزة في مسار ابن جني العلمي، ستتبلور في شكل مداخل نظرية، سيحاول من خلالها تقديمَ إطارٍ نظريٍ بارز المعالم حول الأسس العامة، التي تنبني عليها اللغة في الصناعة الشعرية، وهو ما يكاد يحتوي عليه كتاب"الخصائص " الذي تفيدنا المصادر التاريخية، أنه آخر ما ألَّف ابن جني من الكتب وضمّنه خلاصة تجربته العلمية والنقدية مع النصوص والمتون الشعرية والنثرية5، والتي كان يروم من خلالها بعث لغة تتَّسع لكل المعاني سواء في تعبيراتها الحقيقية أو في إيحاءاتها المجازية، وهو ما وجد له صدى واضحا في أشعار المحدَثين من أبي تمام والمتنبي وغيرهما، وهذا التحديث الإبداعي في اللغة، أو العلمي النظري، لقي صداًّ عنيفا من قبل المتشبثين باللغة التقليدية التي تحترم سنن عمود الشعر العربي وبالشدّة نفسها التي تعرض لها المتنبي من قبل النقاد واللغويين، لقي ابن جني إعراضا من قبل الشراح والنقاد، وألصقوا به تهما لعل أبرزَها ميلُه لشعر المتنبي سعيا منه لخدمة مذهبه النحوي واللغوي، الذي كان يجمع فيه بين المذهبين البصري والكوفي، وهو ما عُرِف عند اللغويين بالمذهب البغدادي .
3- مظاهرمن التأسيس النقدي القديم :
ومع خروج بعض الشعراء على سنن الأقدمين كما تبدت في تنظيرات الأصمعي (ت 210هـ ) وابن سلام الجمحي (ت 232 هـ)ابتداء من القرن الثالث الهجري، فُتِحت مجالات جديدة في النقد لعل أهمها تتبع عثرات الشعراء المحدثين وإحصاء سقطاتهم على مستوى اللفظ المعجمي في علاقته بالمعنى وعلى مستوى التركيب الأسلوبي في علاقته بالقيمة الجمالية لمحمول الخطاب الشعري، وأدى ذلك إلى نشوء احتدام بين المعارضين للتحديث في الشكل الشعري وبين المؤيدين لذلك واتسع الأمر إلى مبحث سمي بالخصومات6، كما اتسم النقد في هذه المرحلة بالتجديد في رؤاه التقويمية والتي انجر عنها استحداثُ عُدّةٍ جديدة من المصطلحات النقدية والمفاهيم النظرية نجدها مبثوثة في ثنايا كتب النقد القديم مع ابن قتيبة في الشعر والشعراء، وابن طباطبا في عيار الشعر والجرجاني في دلائل الإعجاز وابن جني في شرح ديوان المتنبي المعروف بالِفسر .وقد نصّب بعض النقاد أنفسهم للوساطة بين المؤيدين للتحديث والمعارضين كما يتجلى ذلك في الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي عبد العزيز الجرجاني .
ولعل أهم قضيةٍ لفتت اهتمام النقاد قضيةُ الطبع والصنعة، حيث مال المؤيدون للتحديث في الشعر إلى أن الشعر صناعةٌ كباقي الصنائع يتعهّدُه صاحبه بالانتقاء للألفاظ واختيار أنسب التراكيب، وبالتالي فإن الاهتمام باللغة يمثل أسّ مذهب الصنعة وهو رديف الاهتمام بالشكل، على نقيض مذهب الطبع الذي يميل مناصروه من النقاد إلى تقفي سنن الأولين من الشعراء الفحول7 والمجيدين في التعبير والإنشاء والتأليف على سمتهم في تشكيل الصور والتعبير عن مشاعر النفوس .
4- اللغة والنقد :
إن النقد العربي القديم بدأ باعتبار المنحى اللغوي العام هو المنفذ لتقويم الشعر، لأن الملكة اللغوية هي زاد الشاعر في الإبداع، أما المعاني فإنها مطروحة في الطريق – كما قال الجاحظ – وقد كان أبو عمرو بن العلاء والأصمعي وبشر بن المعتمر وثعلب من أوائل الذين قدّموا تقويمات انطباعية جزئية للصيغ التركيبية للقول الشعري في زمنهم .
ولقد كانت لصحيفة بشر بن المعتمر (- 210 هـ) الأثر الواضح في وضع طريق ومنهج لرؤية نقدية للأدب، وذلك من حيث تأسيسها لجملة من المقومات النقدية الخاصة بالقول الأدبي كاستعداد الأديب، وأحوال المخَاطَبين، والأسس الواجب مراعاتها، وهي أقرب إلى التصور البلاغي للقول الأدبي.
أما الأصمعي فقد كان أميل إلى النقد اللغوي، وهو أول من طرح مصطلح "الفحولة" وناقشه من وجهة نظر لغوية ومن حيث توافر المعجم اللفظي اللغوي عند الشاعر وسبقه إلى المعاني. أما ابن سلام الجمحي فقد طرح مصطلح ً الطبقات ًوذهب به إلى نظرية نقدية تأخذ مبدأ الترتيب وتراكم الإنتاج الشعري كأساس من أسس المفاضلة بين الشعراء8. ومع الجاحظ تبلورت مسألة اللفظ والمعنى، وأضحى ميل النقاد واضحا نحو الإعلاء من شأن اللفظ والتركيب وضرورة أن ينتقي المبدع معجمه اللفظي ويتعهد سياقه اللغوي بترتيب عناصره وترصيف أجزائه المقولية.
أما ابن قتيبة فيعدّ استثناء مميزا ضمن نقاد هذه الفترة إذ لم يعتمد على المقاييس الخاصة بالمكان أو الزمان، أو المتعلقة بالشاعر، وإنما من حيث بنية النص وجماليته وطرحه لدلالات جديدة ومعان مستحدثة .
وقفز النقد العربي القديم مع حلول القرن الرابع الهجري قفزة نوعية بارزة، حيث بدأت تحولات أساسية في مفهوم النقد مع ابن طباطبا في عيار الشعر وقدامة بن جعفر في نقد الشعر، والآمدي في الموازنة وأبي هلال العسكري في الصناعتين والجرجاني في الوساطة والمرزباني في الموشح والأشباه والنظائر للخالديين ..هذه الأقطاب النقدية البارزة في النقد القديم أسهمت بشكل لافت في بعث حركة نقدية نشطة تأخذ بكل جوانب العمل الأدبي : شعره ونثره، إضافة إلى وضع المصنفات الكبرى الشارحة أو المترجِمة أو المؤرِّخة للآراء ًالنقدية ً في عصور أدبية مختلفة، وكان أبرز تلك المصنفات الشروح التي تناولت الشعر بالتفسير والتعليق والتأويل، وتركت ملامح بارزة لرؤية نقدية مؤسسة على معطيات لغوية وأدبية : فالجرجاني مثلا في الوساطة بين المتنبي وخصومه لبس عباءة القاضي لفضّ النزاع، وطرح إشكالات تعبيرية تتناول اللفظ في مستواه الإفرادي ومستواه التركيبي بينما نجد أبا بكر محمد بن هاشم وأبا عثمان بن سعيد بن هاشم المعروفين بالخالديين يبرزان مبحثا نقديا مهما في تناولهما لقضية السرقات الشعرية واقتربا بها إلى مفهوم تلاقح النصوص أو التناص بالمفهوم الحديث، وبدا قدامة بن جعفر متأثرا بكتاب أرسطو المترجَم9 - وهو فن الشعر – إذ انتهج أسلوب الموازنة بين النصوص الشعرية واستخلاص ميزات كل منها ثم بيان أسس المفاضلة بينها .
أما مع بداية القرن الخامس الهجري بدأ النقد يأخذ منعطفات أكثر حدّة، إذ تأجّجت الخصومات بين النقاد، وأدى ذلك إلى تكتل هؤلاء النقاد في مجموعات تشترك عموما إما في تهليلها بالتحديث في بنية الشعر أو في تقديسها لعمود الشعر واحترامها لأسس الإنشاء الشعري القديم خاصة عند فحول الشعراء .وقد كان وراء هذا التأجيج في مواقف النقاد خرقُ بعض الشعراء لسنن القول الشعري، وتمردهم على معيارية النقد المتمثلة في عمود الشعر، وتأسيسهم للغة جديدة لا عهد للناس بها ومن بين أولئك الشعراء أبو نواس وأبو تمام والشريف الرضيّ والمتنبي وغيرهم .
ولمّا كان النقد اللغوي القديم يتجه أساسا إلى تقويم الوحدات المعجمية في مستواها التركيبي، فإنه يستند إلى مرجعية نحوية تركيبية تارة ومنطقية دلالية تارة أخرى، وهو يراجع مع كلّ تقويم قواعد القول الشعري كما رُسِمت أصولهُا عند الأوّليين من الشعراء، وهذا ما عُرف فيما بعد بـ ًالأشباه والنظائر ً والتي ترمي في مجملها إلى إلحاق كل قول شعري في تركيبه وأسلوبه وتعبيره عن المعنى، بشبيه له في شعر الأسبقين .وبرزت كتب الأشباه والنظائر لتعزِّز من سلطة عمود الشعر وهي تهدف فيما تهدف إليه – إلى حفظ الشعر العربي من تيارات التحديث التي في زعمها تذهب كثيرا برونق الشعر وبهائه .
وما كان للنقد القديم أن يتطور ويواكب الإبداع الشعري، لولا ذلك الصراع الذي اشتد بين النقاد حول الحداثة في الشعر، وحداثة المعجم اللغوي، "ولم يحظ الشعر المحدث برضى النقاد إلا في القرن الرابع للهجرة، حين أخذ النقد يستسيغ قوالب الشعر ألحديثة10 بل إنَّ سلطة الدين والمفاهيم التي أرساها حول الشعر، قد جعلت النقاد منقسمين حول حرية الشعر في اقتحام كلّ الموضوعات الذاتية وانجر عن ذلك مسائلُ كثيرةٌ كانت محل نقاش وجدال واسعين من قبل نقاد القرن الثاني والثالث ألهجريين ولعل أهم تلك المسائل مسالة الصدق والكذب ً في الشعر، وما ترتب عن ذلك من مسائل فرعية كالخيال في الشعر وحدوده، والمجاز في التعبير وأدواته .
5- النقد وحداثة الشعر :
كان الانتصار للشعر المحدث، من قبل النقاد القدامى، هو إعلان عن ميلاد أنسجة تعبيرية جديدة وطرائق أسلوبية حديثة في اقتران اللفـــظ بالمعنى، وبالتالي دخول معجم جديد يقفز على المعجم الشعري القديم، ورؤية أخرى لقواعد التركيب، التمس لها النقاد التأويل المسوّغ لفهمها والذي يجعلها صحيحة سليمة وليست لاحنة مستهجنة هو تقعيد للغة متداولة يوظفها أهل الإبداع من الكتاب والشعراء، وذلك لقناعة العلماء أن اللغة إذا بقيت حبيسة القواعد المعيارية الصارمة، فإنها -لا محالة – ستفقد كثيرا من حيويتها في التعبير عن المعاني الحديثة والحِكم العميقة، ولذلك فإن للغة أسرارا وجب الكشف عنها – في رأي ابن جني مثلا– والذي سماها في مقدمة كتابه " الخصائص " بالحكمة، ورأى أن التوظيف اللغوي في الشعر يتجاوز التقدير النحوي، ويحدث عدولٌ عن الاستعمال المألوف للكلمة، وذلك بواسطة الانحرافات ولطف المقاصد والتلفت والتثني وما إلى ذلك مما سيبينه ابن جني في شرحه للشعر .يقول محمد بن مريسي الحارثي وهو يعاين فهم ابن جني لظاهرة العدول في اللغة: " وقد توسع ابن جني في تفكيك هذا الفهم من وجهة نظر المغايرة اللغوية، والعدول بها من مستوى أدائي إلى مستوى أدائي آخر، وهو عدول من صواب مطرد إلى صواب غيــر مطرد"11.ويؤدي ذلك إلى استحداث أطر معيارية جديدة أساسها نظامُ الضرائر، الذي كان ابن جني يأخذ به كثيرا، وهو يعني في عمومه إلحاق صيغ تعبيرية حديثة بأخرى قديمة سواء في الميزان الصرفي أو في الاستعمــال التركيبي، وذلك للحكم على صحة وسلامة تلك الصيغ .
وقد عاب كثير من اللغويين آنذاك على ابن جني أخذه بالضرائر، ومنــهم الشراح الذين تناولوا شعر المتنبي كالواحدي وابن معقل الأزدي وابن فورجة وغيرهم 12، والاطراد في التعبير تمثله المعيارية المتحكمة في علم الكتابة مذ أن وضع علماء اللغة والبلاغة قواعد غدت دروسا تعليمية في فنون القول والإنشاء، إلا أن الشعر المحدث في عصر ابن جني وقبله، قد خلخل تلك القواعد في التعبير، خاصة ما تناول منه، المعاني الذهنية التي هي نواة الشعر الحِكَمي، كما هو شأن شعر المتنبي وأبي تمام وقبلهما شعر بشار وأبي نواس، فالابتكار في المعاني هو الذي يجعل الشعر يتجاوز التعبير الجاهز ويعدل عنه إلى ابتكار صيغ تعبيرية جديدة، ويكون ذلك عادة على حساب المعيار النحوي، الذي يخضع – في هذه الحالة – إلى ما سماه ابن جني بالتقدير الإعرابي، فالمعنى العميق أولى من صرامة النحو، ومن الطرق التي يقترحها ابن جني في تقدير الإعراب ليوائم تقدير المعنى، طريق تقدير المحذوف، يشرح ابن جني على نحو مفصل هذه الظاهرة فيقول:"ألا ترى إلى فرق ما بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى فإذا مر بك شيء من هذا عن أصحابنا فاحفظ نفسك منه ولا تسترسل إليه فإن أمكنك أن يكون تقدير الإعراب على سمت تفسير المعنى فهو ما لا غاية وراءه وإن كان تقدير الإعراب مخالفاً لتفسير المعنى تقبلت تفسير المعنى على ما هو عليه وصححت طريق تقدير الإعراب حتى لا يشذ شيء منها عليك وإياك أن تسترسل فتفسد ما تؤثر إصلاحه ألا تراك تفسر نحو قولهم: ضربت زيداً سوطاً أن معناه ضربت زيداً ضربة بسوط."13 بل إن ابن جني لا يتوانى على نقل الشواهد التي يتجاوز فيها المعنى الصرامة النحوية، بل إن المعنى – هاهنا – يؤسس لنحوه الخاص، الذي لا يُقرأ إلا بالتأويل، فحسب نظرية ابن جني فإن التقدير الإعرابي وجب إخضاعه لتقدير المعنى. ينقل ابن جني هذا الحوار بين الشاعر الكلبي وبعض النحويين فيقول: "وقال عمار الكلبي - وقد عيب عليه بيت من شعره فامتعض لذلك -:
ماذَا لقيناَ من المُستعربِين ومن قياسِ نحْوهِم هذَا الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذي ابتدَعُوا
إن قلتُ قافيةً بكراً يكـــــــــــــــــــــــــــون بها بيتُ خلافِ الذي قاسُوهُ أو ذرعُوا
قاَلوا لحنْتَ وهذا ليس منتصبـــــــــــــــــــــاً وذاك خَفضٌ وهــــــــــــــــــذا ليس يَرتفعُ
وحرَّضُوا بين عبدَ الله مــــــــــــــــــــن حمْقٍ وبين زيدٍ فطَـــــــــــــــــال الضربُ والوجعُ
كَمْ بين قومٍ قد احتالُوا لمنطقهِــــــــمو وبين قومٍ عـــــــــــــــــــــــــــــــلى إعرابِهم طُبِعوا
ما كلُّ قَولِي مشروحاً لكُم فخُـــــــــذُوا ما تعْرفونَ ومــــــــــا لمْ تعرِفوا فدَعُوا 14
وقد أدى ذلك - حقيقة - إلى حركية علمية أدبية كبيرة أنتجت كتبا نقدية لابن سلام الجمحي والأصمعي وابن طباطبا والجاحظ وابن جني والقاضي الجرجاني وعبد القاهر الجرجاني وغيرهم، وكل هذه المؤلفات قامت لتناقش مسائل نقدية تخص النظم الجديد في الشعر والقواعد الحديثة التي غدا يتأسس عليها القول الشعري عند أبي تمام والمتنبي والشريف الرضي وغيرهم، ولم تعد تلك القوالب المقولية التي أرساها عمود الشعر ذات سلطة قوية، وإنما غدت قواعدَ جديدة تعطي الحرية للشاعر أن يلوِّن تعابيره وأساليبه بتلوينات تركيبية عديدة حتى إن الفرزدق حينما استوقفه الأصمعي في قول شعري له للبس واقع فيه قال قولته المشهورة: علينا أن نقول وعليكم معشر النقاد اللغويين أن تؤوِّلوا.
- هوامش البحث :
1) - إن اشتراك الشعراء الجاهليين في خصائص عامة، أمر تثبته النصوص الكثيرة التي تدل على دوران تلك الخصائص بين شاعرين فأكثر من ذلك قول زهير:
ودار لها بالرقمتين كأنها مراجع وشم في نواشر معصم
ونجد نفس النسق الشعري عند طرفة :
لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
للمزيد من الأمثلة انظر كتاب من تاريخ الأدب العربي – العصر الجاهلي والعصر الإسلامي – لطه حسين ص286-287 ج 1- ط4 دار العلم للملايين – بيروت .1981.
2) - ينظر طبقات فحول الشعراء :ابن سلام الجمحي ص81 تحقيق محمود محمد شاكر مطبعة المدني – ط2-القاهرة 1974 .وينظر ابن قتيبة :الشعر والشعراء ج1ص 86 وكتاب الأغاني ج8 ص 91
3) - ناصر الدين الأسد :مصادر الشعر الجاهلي : ص 222 وانظر كذلك كتاب من تاريخ الأدب العربي – العصر الجاهلي والعصر الإسلامي - لطه حسين ص285 ج 1- ط4 دار العلم للملايين – بيروت .1981 .
4) - أدونيس: الثابت والمتحوّل ج3، ص 18،17، ط1، دار العودة، 1978بيروت.
5) - ينظر أضواء على آثار ابن جني في اللغة المطبوعة والمفقودة. لغنيم بن غانم الينبعاوي ص16 –الطبعة الأولى – 1999-جامعة أم القرى – السعودية .
6) - ينظر ذلك عند وحيد صبحي كبابة في كتابه :الخصومة بين الطائيين وعمود الشعر العربي - منشورات اتحاد الكتاب العرب – 1997 - دمشق
7) - من أولئك ابن سلام الجمحي في كتابه طبقات فحول الشعراء:ص86، والأصمعي( أبوسعيد ) في كتابه :فحولة الشعر ص78 . تقديم صلاح الدين المنجد :ط 1971 – دار الكتاب الجديد –القاهرة
- ينظر ذلك عند ابن سلام في كتابه طبقات فحول الشعراء ص34
9) - ينظر ذلك في كتاب :نقد الشعر لقدامة بن جعفر في إشارته إلى كتاب أرسطو ص 89. تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي – دار الكتب العلمية -1984 – بيروت .
10) - حسن عبد الله شرف :النقد في الصر الوسيط والمصطلح في طبقلت ابن سلام 25 – دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع ط1 – 1984- بيروت .
11) - محمد بن مريسي الحارثي: قراءة في الفسر ص2 جريدة الرياض العدد -13954 – 7/9/2006 – السعودية .
12) - ينظر ابن جني اللغوي – عبد الغفار حامد محمد بلال ص58– جامعة الأزهر –القاهرة -1978.
13) - ابن جني (أبو الفتح عثمان ): الخصائص ج 2 - ص196.- تحقيق محمد علي النجار –ط3- دار الكتب المصرية -1987- القاهرة .
14) - المصدر السابق ج2 ص254.
مواضيع مماثلة
» "النّقد الأدبي الثّقافي" في التراث العربي: دعــوة إلى تبني المصطلح فقط في مجال النّصّ الأدبي. أ.محمد معروف
» مدخل إلى النقد الأسلوبي قراءة في شواهد من تراثنا النقدي أ. د/منقور عبد الجليل
» المقال الثالث عشر: النص الأدبي بين المعطى اللغوي والأداء الاصطلاحي
» المقال التاسع: مأساوية الموت في الشعر المغربي القديم
» جمالية الانزياح التركيبي في الشعر المغربي القديم أسلوب الحذف في شعر الحصري الضرير
» مدخل إلى النقد الأسلوبي قراءة في شواهد من تراثنا النقدي أ. د/منقور عبد الجليل
» المقال الثالث عشر: النص الأدبي بين المعطى اللغوي والأداء الاصطلاحي
» المقال التاسع: مأساوية الموت في الشعر المغربي القديم
» جمالية الانزياح التركيبي في الشعر المغربي القديم أسلوب الحذف في شعر الحصري الضرير
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى