مظاهر الفكر اللّساني الغربي في اللّسانيات العربية الحديثة
صفحة 1 من اصل 1
مظاهر الفكر اللّساني الغربي في اللّسانيات العربية الحديثة
مظاهر الفكر اللّساني الغربي في اللّسانيات العربية الحديثة
أ.عبد الرحيم البار
جامعــة محمّــد خيضــر بسكــــرة
أ.عبد الرحيم البار
جامعــة محمّــد خيضــر بسكــــرة
الملخص :
استطاعت اللّسانيات الغربية أن تؤسّس لعلم اللّغة الحديث وفق منوال عصري ينطلق من معطيــــــــات النظريات اللّسانيــــة الحديثة المنبثقة عن أراء وأفكار أعلام اللّغة. فلا ضير من أنّ هذا الحراك اللّسانــي الغربي كان مواكبا للنّهضة العلمية التي طالـــــــــــــت العلوم الأخرى، فراحت اللّسانيات الغربيـــــة عمــــــوما والأوروبية على وجه الخصوص تستفيد من تجـارب علــــوم الدقيقـــة والرياضيــات، وتأثّـر المختصـــــون فــــي المجال الهام بهذا النبض المعرفــي الحديــث. وبعد قيـــــــــــــام المناهج والبدء في التأسيس الفعلـــي للمدارس اللّغويـــــة لم تكـــــن اللّغة العربية على غرار لغات العالم الأخرى في منأى عن هذا التغيــــــــر الحضاري اللّغوي المؤثر، بل أنّها تأثرت تأثرا واضحا بهذا المنعطف الحديث، فظهرت نماذج تتبنــى النظريـــات والأفكـــــــار المؤيـــدة لهذا التوجــــه اللغوي الجديــــــــــد في عالم تسوده روح التطور والتقنية الحديثة.
Abstract
Western linguistics was able to establish the foundations of modern science of language through contemporary methods that start from modem linguistic theories which emanate from the point of views and beliefs of linguists. It is by no means that this movement in western linguistic coincided with the scientific renaissance that affected other sciences. Western linguistics,and the European in particular, benefited from the experiences of experimental sciences and mathematics. Specialists in the field have been influenced by this modern scientific pulse. After the rise of method and the actual starting of establishing the foundations of linguistic schools, Arabic language, together with other languages, was not an exception regarding these influential changes. It has been clearly influenced by this modern turn; patterns that adopt these modern theories emerged in a world dominated by technological development
من الواضح أنّ اللّسانيّات الغربيّة علا صداها كل الساحات اللّغويّة العالمية، وخاصة بعد ظهور الدّراسات الوصفيّة، والبنيويّة بزعامة فرديناند دوسوسير الذي أفضى طابع العلميّة على كل الدّراسات اللّغويّة؛ فاتسع نطاق الفكر اللّساني الغربي ليصل صداه الوطن العربي الكبير مشرقا ومغربا؛ مستندا في ذلك إلى تأثر المتطلّعين والمولعين بالدّراسات الغربيّة المختلفة. حيث ظهرت دراسات وأعمال شملت كافة الانجازات اللّغويّة الأوروبية خاصة والغربيّة بصفة عامة. فتمّ طرق باب المناهج على نحو المَنْهَج التّاريخي، والوصفي والبنيوي، وظهرت عيّنات دراسيّة تتناول أعمال دوسوسير، وانتقلت إلى الاهتمام بالدّراسات الصوتيّة الغربيّة. واهتمت بنظريات اللّغة وتحليلها؛ كنظرية فيرث، ونظرية مارتيني، والنحو التوليدي التحويلي، وأمست السّاحة اللّغويّة العربيّة محطّة تبادل فكري ومنهجي يستمد قواه من فحوى الممارسات اللّغويّة الغربيّة؛ فظهر الأتباع والأشياع، ورافقتها أعمال لسانيّة لا تكاد تحيد على النّمط الغربي في التأليف والتصنيف، وراحت تضاهي النظرات اللّغويّة العربيّة الأصيلة كالنّظريّة الخليلية في علم الأصوات، أو النّظريّة الجرجانية في علم البلاغة، فلم يمضي القرن التاسع عشر، ويأتي القرن العشرين حتى اتضحت معالم الفكر اللّساني الغربي بكافة اتجاهاته في أرجاء المعمورة العربيّة، وظهر رواد المناهج، والنظريات الفكريّة اللّغويّة الغربيّة من بني العرب وراحوا ينظمون على نحو ما تمليه تلك المناهج ولا يكادون يفترون عنها في صغير أعمالهم أو كبيرها وأسّس لمفاهيم جديدة اعتلت المنصة اللّغويّة العربيّة كمصطلح البنيويّة العربيّة، والتّداوليّة، والوظيفية العربيّة، وظهرت معاجم لغويّة تحتوي مستندات غربية، وكثرت الترجمة، وولع الكثير من مثقفي العرب إلى إتباع ما تمليه لسانيّات الغرب باختلاف معطياتها بلا هوادة.
وربّما نقف هنا على نماذج لأعمال ينبع صميمها من المدّارس اللّسانيّة الغربيّة، ومناهجها الدّراسيّة، وإجراءاتها العملية، وقبل الانتقال إلى ذكر النّموذج العربي يجب تحديد أهم النظريّات والأعمال التي انبعث منها الفكر اللّساني الغربي التي كانت بمثابة الأدوات التي اعتمد عليها العرب في أعمالهم:
إذا تأملنا الدّراسات اللّغويّة منذ بدايتها؛ فإنّنا نشهد تأثرها بالرؤى والأفكار الفلسفية التي كانت سائدة في زمنها، فلا ضير أنّ ذلك كان المحرّك الأول والأساس لنشوء هذه المناهج اللّغويّة؛ فالمَنْهَج التّاريخي نشأ متأثرا بفلسفة العلوم، وبالأخص النظريات التي كانت تبحث في تطور حياة الإنسان والظواهر الطبيعية، منها على سبيل المثال 'نظرية داروين' التي صاغها في كتابه: (أصل الأنواع)، فنجد 'فرانز بوب' (Franz Bopp) يعرج على ذلك بقوله: "من الواجب عدّ اللّغات أجسادا عضوية مركبة، وفق قوانين ثابتة؛ لأنها تحمل في كيانها مبدأ الحياة النابضة، وتتطور وتموت بطريقة تدريجية، وإذا ما أعوزها الانسجام، والتلاحم فسوف..تصيّر صيغها، ومكنوناتها الأساسية شيئا فشيئا -إلى- أعضاء ثانوية نسبيا" (1)، فهذا يؤكد على أنّ رواد الدّراسات اللّسانيّة التّاريخيّة مضوا في وصف اللّغة على أنّها ظاهرة بيولوجية تدرس وفق منوال علوم الحياة والبيولوجيا ويضيف 'أوغست بوت' (august pott) قولا متعلقا بهذا المنحى: "إن اللّغة في حالة دائمة من التغير طوال حياتها فهي ككل شيء عضوي تمر عبر مراحل متتالية: الحمل والبلوغ، والنمو السريع والبطيء، والقوة والريعان، ثمّ الضعف والانقراض التدريجي" (2).
فلاشكّ من أنّ المَنْهَج التّاريخي كان مولعا بمبادئ نظرية داروين في أصل الأنواع، وتطور الحياة البيولوجية، وفي الحقيقة أنّ جميع المدارس اللّسانيّة والمناهج اللّغويّة كانت وديعة أعمال لغوية سابقة حصرت جلّها في كل من: 'ليبنيتز Leibniz' و'فيكو Vico'، و'هاردر Herder'، و'وليم جونز William Jones'، فهؤلاء هُمْ قواعد التنظير، والنّواة الأولى التي اعتبرت مهد الدّراسات الأوروبية اللّغويّة الأولى، والتي هي الأخرى أسهمت في ظهور المدارس اللّسانيّة الحديثة على اختلاف توجّهاتها، ونأتي هنا إلى ذكر أعمال، ودراسة أفكار هذه الفئة التّاريخيّة من العلماء، وذلك للخلوص إلى البوادر الأولى التي تمثل القاعدة الأساسية للبحث اللّغوي، ونذكرهم هنا الواحد تلوى الأخر:
1-ليبنيتز (Gottfried Wilhelm Von Leibniz 1716-1646):
اهتم هذا المفكر بعلم الفلسفة، ومبادئ الرياضيات الأولية، وكان يولي اهتماماته بدراسة اللهجات العامية، واللّغات المحلية معتبرا ذلك عاملا مساعدا في اكتشاف الجذور الأولى للغات الإنسانية، ومن أعماله تأسيس قواعد كتابة عالمية تقوم على الأبجدية الرومانية، ونظام الاستخلاص والاستفادة (translieration). كما كان مشجعا للبحث اللّغوي في شتى أنحاء المناطق. ودعا إلى تأسيس قواميس لغوية تقوم على قواعد تلاءم اللّغات.
2-غيامبتسته فيكو (Giambattista Vico 1744-1668):
عُرف هذا المفكر الإيطالي بمجهداته اللّغويّة الجبارة، وبرزت نظرته اللّغويّة في مؤلفه: (Principe di Una scienza nuova d'intorno alla comune natura delle mazioni)؛ فهذا الكتاب عرف بمستوى مراحل اللّغة الثلاث، وصنفت كالآتي:
-مجموعة اللّغات الأولى: ضمت اللّغات(الهيروغليفية) كما سماها 'فيكو'، واعتبر أن هذا النّوع من اللّغات مقدّسا تفرضه 'الحتمية التواصلية' على البشر في المرحلة الأولى من الوجود.
-مجموعة اللّغات الثانية: في نظره هي لغات مبتكرة من قبل المميزين من البشر كالأبطال والقادة، ولذلك أطلق عليها فيكو اسم اللّغة البطولية.
-مجموعة اللّغات الثالثة: يقصد بها لغة الجماهير أو اللّغات العامة، وهي تستعمل بين كافة البشر، وحسب فيكو تتنوع بتنوع الطبيعة والبيئات.
3-جوهن فون هاردر (Johan Gottfried Von Herder 1803- 1744): وُصِف البحث اللّغوي عند هاردر بالطابع العلمي، وظهرت ملامح ذلك في مقال له نشره سنة 1772م بعنوان 'حول أصل اللّغة' (Uber den ursprung der Sprache)، ونص المقال أنّ هاردر رفض فكرة أن تكون اللّغة إلهاما إلهي معتبرا ذلك خطأ كبيرا لأنّ اللّغات بحسبه تختلف، وتندثر، وتتأثر، وهذا لا يمنحها الصبغة الإلهامية المزعومة بحسب رأيه. ونفى أيضا أن تكون اللّغات من ابتكار الإنسان، وأكّد بأن الطبيعة بمختلف عواملها هي الدافع إلى نشوء اللّغات. وتطرق هاردر إلى فكرة أسبقية اللّغة عن الفكر، أو أسبقية الفكر عن اللّغة؛ فكان رأيه حول هذه النزعة الفكريّة: 'بما أن الاثنين أي اللّغة والفكر بحاجة كل واحد منهما للأخر؛ فإنّ لهما السبق والبداية معًا؛ لأنهما رافقا الإنسان منذ الوجود؛ فلا يمكن وصف أحدهما بصفة الابتداء دون الأخر.
4-فيلهلم فون همبولت (Wilhelm Von Humboldt 1835-1767):
اشتهر هذا اللّغوي الألماني بنزعته القومية، ولهذا ظهر عنده (الفكر اللّغوي القومي). وكانت مؤلفاته لها أثر عميق في عالم اللّغة من أهم هذه المؤلّفات كتاب: (اختلاف بنية اللّغات البشرية) الذي تناول فيه خصائص اللّغات القديمة. وبالأخص اللّغة 'الكاوية القديمة' (kawi). وكان 'فون همبولت' يختلف عن سابقيه في قراءاته النّظرية للّغة، فقد اعتبر أنّ (للعقل أثرا بارزا في نشأة اللّغات الإنسانية)، كما أنّه لم يبعد (الظروف الطبيعيّة) كعوامل خارجية مساعدة على نشأة اللّغة.
فأعمال هؤلاء البواكير أسهمت كل الإسهام في نشوء علوم اللّغة المختلفة بدءا بالدّراسات التّاريخيّة، والدّراسات البنيويّة والوصفيّة، وكانت المحفز القوي في نشأة المدارس اللّسانيّة التي أخذت من هذه الأعمال بحس الميول الفكري، والنشاط العملي.
لا ريب من أنّ الفكر اللّساني الغربي فكر عظيم أخذ من الوجود ضمن حيز العلوم قوة كبيرة مستلهما ذلك من ثورات العلوم، ونهضات المعرفة؛ فكان ذلك لزاما على أهله من رواد اللّغة، ومثقفيها أن يسهموا بقدر ما يحصل له من قوة متماسكة ضاربة في حقل المعارف، والمكنونات العلميّة، ولهذا نجد الدّراسات اللّغويّة جامعة بين التطور والتغير، والأخذ والرد، والمشابهة والتحليل؛ فقد صبغت بالبصمة التّاريخيّة مع 'وليام جونز 'William Jones؛ وراحت تستند إلى مناهج المقارنة؛ والتحليل ثمّ بعد ذلك ظهر 'فرديناند دوسوسير' صاحب النزعة العلميّة المتأثرة بما يحصل في عالم العلوم المختلفة؛ فأدرك جاهدا حقيقة الدقة العلميّة؛ والصبغة المعرفيّة؛ فراح في عجالة يؤهل اللّغات لما يفيدها؛ فنتج عن ذلك مفهوم جديد لدراسة اللّغة أَلحَقَ حركة تغيرية في حقول اللّغة عامة، واللّسانيّات خاصة، وبات يصطلح على علم اللّسانيّات؛ بأنّه "الدّراسة العلميّة للّغة الإنسانية" (3) فبرزت مفاهيم لغويّة، ومبادئ إجرائية جديدة ذات توجه معرفي علمي كمبدأ التناسق، ودوره في الحفاظ على انسجام المكوّنات اللّغويّة، ثمّ المطابقة والبساطة، وبات للّغة دور وظيفي مقنن، وسهر اللّسانيّون من أمثال 'مارتيني' الذي استفاد من سلفه 'دوسوسير'، وغيره على إدراج اللّغة ضمن نسق وظيفي كامل يقوم على "وظيفة كلية تسمى اللّغة –الوظيفية- تمكّن جنسنا البشري من إعطاء شكلا مناسبا للأفكار، وتبليغها؛ فليست الألسن سوى إنجازات خاصة تعتمد فرضية الكلية على ملاحظة أنّ الألسن يمكن ترجمة بعضها إلى بعض، فلابد إذًا من وجود أنواع التشكل المسماة بكليات اللّغة" (4)، وليس ببعيد إلى أن ظهر الفذ الجديد ناعوم تشومسكي الذي يجهز دراسة اللّغة وفق ما تمليه الضرورة العصرية؛ فظهر عنده مصطلح التحويل، والتوليد لتتأسس فيما بعد نظرية النحو التوليدي التحويلي؛ وهي نظرية في عمومها رياضية تجريدية.
وهكذا هي اللّسانيّات الغربيّة علم رائع، ومتجدد يسعى نحو التقدم والازدهار، واحتلال مكانة مناسبة بين العلوم الإنسانية المختلفة.
وقبل الحديث عن أثر هذا الفكر اللّساني الغربي في اللسانيات العربية نقوم هنا ببسط وتحديد أهم النظريات التي مثلت النواة الأولى لإرهاصات الفكر اللّساني الغربي الحديث، وتوغلت في الفكر اللساني العربي:
1-نظريّة التغير اللّغوي: تؤمن كل الاتجاهات اللّسانيّة بأن الأنظمة اللّغويّة متغيرة، ومتطورة بحيث لا يمكن دراسة لغة من اللّغات بعيدة عن أصولها، ومنشئها لأن ذلك يساعد في تحديد التراكيب اللّغويّة، ومظاهرها الفونولوجية والمرفولوجية.
2-نظريّة المكوّنات الداخلية للّغة: ويضم هنا وجهة نظر راسك (Rask)؛ بحيث وصف (تراكيب اللّغة) بأنّها تسير، وتنتقل إلى 'البساطة واليسر'، وتصيّر من 'الظواهر المتصرفة' إلى الظواهر الفاصلة.
3-نظريّة الشهرة والاستعمال: يرى أصحاب هذه النّظريّة أنّ الانتشار اللّغوي، وغلبة اللّغة على غيرها داخل البيئة الاجتماعية الواحدة؛ يعود إلى عامل الشهرة، والاستعمال اللّغوي الواسع داخل الدائرة اللّغوية التي تتواجد بها اللّغات المختلفة فتكون غلبة اللّغة للأكثر تداولا على الألسن.
4-النّظريّة السيكولوجية: أخضع هؤلاء الظواهر اللّغويّة إلى أسباب نفسية، وذهب كل من هارمان أوسثوف (Herman osthof)، وكارل بروغمان (Karl brugmann) إلى أن اللّغة في تكوينها تخضع للذات الإنسانية: "اللّغة ليست كائنا بعيدا عن الناس، ولا يمكنها أن تقود بنفسها حياتها الخاصة، بل ليس لها وجود حقيقي إلا داخل نفوس الأفراد وعليه فإنّ كل التغيّرات التي تطرأ عليها لا تكون إلا من صنع الأفراد المتكلمين" (5).
5-نظريّة الاختيار والمناسبة: تختص هذه النّظريّة بالجانب الصوتي؛ بحيث كان أصحابها يولون اهتمامهم بدراسة اللّغات الرومانية من الناحية الصوتيّة كدراسة التغيّرات الحاصلة فيها، حيث دعا 'هوغو سخوخارت' (Hugo schuchardt) إلى دراسة التغيّرات الصوتيّة وفق مبدأ التذوق (taste)، أو الموضة (fashion)؛ اللّذان يسهمان في انتقاء المناسب من اللّغة.
6-نظريّة اللّغات الغالبة (Substratum theory): يُرجع أصحاب هذه النّظريّة سبب سيادة اللّغات، وتطوّرها الاستعمالي وسيطرتها إلى 'تنحي' اللّغات الأخرى، وأسباب هذا التنحي عديدة ومختلفة منها: العقائد، والأعراق، والسيطرة، والتبعية، والاحتلال، وغيرها.
7-نظريّة الوحدة اللّغويّة (Stammbaumtheorie): أسّسها العالم اللّغوي 'شليشر'(Schleicher) ؛ وهدفه تحديد أواصل القرابة بين اللّغات الهندوأوروبية؛ وضبط صور التّطوّر اللّغوي في المراحل الزّمنيّة المختلفة، يقول مونان (Mounin): "هذه النّظريّة تهدف إلى جعل التّاريخ اللّغوي يتناسق والنّظرة البيولوجية التطورية التي نادى بها داروين" (6) في فلسفته العلميّة فاستطاع داروين أن يحدث ضجة كبيرة بنظريته العميقة المثيرة للجدل.
8-نظرية الأمواج (Wellen théorie): تعود هذه النّظريّة إلى 'جوهانس شميت' (Johannes Schmidt) و"مفادها أن اللّغات تنتشر على سطح الأرض كما تنتشر الدوائر المرتسمة على سطح الماء إثر سقوط حجر عليه، وكما تتباعد الدوائر عن نقطة انطلاقها، وتتقاطع مع دوائر أخرى نتيجة سقوط أجسام أخرى، فكذلك الشأن بالنسبة للغات حيث تتشعب شيئا فشيئا، وتتسع الهوة تدريجيا بين اللّغة الأصلية واللّغات المتفرعة" (7). ويلحظ على هذا الاتجاه اهتمامهم بالبعد اللّغوي الجغرافي باعتبار أن اللّغات تتباين من منطقة إلى أخرى، وهذا يؤكد تدخل عامل التنّوع الجغرافي، وتأثيره في الجانب اللّغوي، وتنتج عن ذلك "مظاهر تؤدي إلى حدوث وقائع، وأشكال لسانية جغرافية" (.
9-نظرية تكوين وتسهيل النطق: يرى أتباع هذه النّظريّة بأنّ هناك عوامل داخلية قديمة تسهم في إحداث التغير الصوتي؛ باعتبار أنّ العجز عن التعبير، وإحداث تواصل كامل، ومتبادل كان يقتضي دخول عناصر تتحكم في العمليّة الصوتيّة بصورة لا إرادية، كالحذف، والاستبدال، وأسس لهذه النّظريّة المعرفية كل من 'ويسبرسن'(Jespersen) ، و'ويتني' (Whitney)، ويؤيد هذه النّظريّة التغير الفونولوجي الحاصل في معظم لغات التواصل العالمي؛ حيث تغير في استعمال الكلمات من طرف الأفراد دون قصد وانتباه.
10-النّظريّة الفيزيولوجية: تعطي هذه النّظريّة نوعا جديدا من التفسيرات فهي ترى أنّ التغير اللّغوي يعود إلى تغير في تكوين سمات الإنسان، وتعاقب الأجيال البشرية على مر العصور حيث يرى 'هارمان أسثوف' (Hermann osthoff)؛ أن هناك تغيرات فيزيولوجية عديدة طرأت على كل أعضاء الجهاز النطقي (الصوتي) عند الإنسان منذ القدم، وهذه التغيّرات كانت السبب الوحيد والمباشر في التغير اللّغوي؛ فأصحاب هذه الرؤية نفوا فكرة الثبات للشكل الفيزيولوجي لجهاز النطق، وبالتالي هذا ينفي ثبوتية اللّغات وأنها بهذه الكيفية تكون متغيرة.
11-النّظريّة الرياضيّة: تؤمن هذه النّظريّة بأنّ كل ما يرتبط باللّغة من الناحية الصوتيّة، أو التركيبيّة له أبعاد علميّة مثله مثل باقي العلوم الأخرى التي تدرس وفق منوال '(الحساب والإحصاء)، و(المسلمات)، و(الفرضيات)، و(الدوال)؛ فهؤلاء أرادوا الجزّ بعلم اللّسانيّات إلى حقل (الدقة الرياضية) تيمننا بـ(العلوم الدقيقة الأخرى)، وهذا ما يتضح عند دوسوسير، وتشومسكي، وغيرهم.
12-النّظريّة الاجتماعيّة: أصحاب هذه الوجهة يرون أنّ المجتمع هو الأساس في تكوين اللّغة، وضبط ركائزها، وهو في اعتقادهم قمة (البعث اللّغوي)؛ لأنّ البيئة الاجتماعية هي المكوّن الأساس لشخصية الإنسان انطلاقا من أفكاره، وسلوكياته المختلفة. وبالتالي لا نستطيع أن ننفي علاقتها بالوجود اللّغوي؛ فهي بلا شك منطلق أي تغير حاصل للّغات سواء على الجانب (الصوتي)، أو (النّحوي)، أو (المرفولوجي)، وغيره من الأبعاد اللّغويّة المرتبطة بالفرد ضمن البيئة الاجتماعية.
13-النّظريّة النفسية (السلوكية): تعود نشأتها إلى عالم النفس الأمريكي واطسون (Watson) الذي أسّس لعلم النفس السلوكي؛ فلا يكاد يخلو بحث من الأبحاث العلميّة، أو توجه من التوجهات اللّسانيّة، أو مفكر لغوي ولم تظهر عليه أثار واطسون الفكرية، وهذا ما نجده واضحا عند 'بلومفيلد' وعند 'تشومسكي'، وغيرهم ممن تأثّروا بنظرية علم النفس السلوكي.
وبعدما اطلعنا على أهم النقاط النظرية والفكرية للحضارة اللغوية الأوروبية نقدم هنا نماذج عن الامتداد الفكري اللساني الغربي في اللسانيات العربية الحديثة.
أ-إبراهيم أنيس وأعماله اللّغويّة: لقد كان لهذا اللّغوي البارز أعمالا هامة مثلت رؤاه وأفكاره لتتضح وتتجسد في كتبه المختلفة؛ محاولا تطبيق عدة مناهج غربية كالوصفيّة والتّاريخيّة والبنيويّة، وغيرها مستأنسا في ذلك لنماذج من اللّغة العربيّة مقتنعا بأن هناك سندا توافقيا بين ما تمليه المناهج الغربيّة، ونظيرتها اللّسانيّات العربيّة ويمكننا هنا استبيان ما استطعنا استلهامه من أعماله المتنوعة:
-إنّ الدّارس لكتب إبراهيم أنيس خاصة كتابي: 'الأصوات اللّغويّة' و'دلالة الألفاظ' يلحظ ملاحظة هامة أن الأستاذ إبراهيم يسعى إلى مقارنة مباشرة بين آراء وأنظار اللّغويين القدامى في دراستهم للأصوات، وتصنيفها، وما تقدمه الدّراسات الوصفيّة، والتّاريخيّة في اللّسانيّات الغربيّة، ويتطلع الأستاذ إبراهيم أنيس في منهجه الوصفي إلى ما يلي:
1-دراسة الأصوات العربيّة دراسة وصفية مستحضرا في ذلك قواعد المَنْهَج الوصفي.
2-قيامه بتصنيف الأصوات العربيّة ضمن قاعدة النّظريّة الفونولوجية الحديثة.
3-دراسة مستويات اللهجات، والبحث في تطوراتها، ومقارنتها بعلم القراءات القرآنية ثمّ القيام بوصفها وصفا دقيقا يحقق المعرفة الخاصة بتطور الألفاظ العربيّة.
4-اعتمد في كتابه دلالة الألفاظ تطبيق مفاهيم النظريات الدلالية الحديثة المستوحاة من مفاهيم بلومفيلد البنيويّة، ومقارنتها بما يستدل عليه من كلام العرب.
5- يؤمن بجدارة الأبحاث اللّسانيّة الغربيّة في تنمية اللسانيات العربية في جميع مناحيها.
ب-محمود سعران وأعماله اللّغويّة: لاشك من أنّ الأستاذ 'محمود' كان على منوال الأستاذ إبراهيم أنيس، فقد تهافت إلى دراسة المناهج الغربيّة، والتأثر بها ودعا إلى توظيفها بما يناسب اللّغة العربيّة من إجراءات، وتطبيقات، ولقد تجلّت هذه البادرة في كتابه المميز الذي صدر سنة 1962م بعنوان 'علم اللّغة مقدمة للقارئ العربي'؛ فقد كان متأثرا تأثّرا بالغا بالدّراسات البنيويّة، وهذا ما ميز محتوى كتاباته ولقد كان صريحا بقوله: " وأنا لم ألتزم في جملة ما عرضت مذهبا بعينه في كل أصوله وفروعه من هذا الدّرس اللّغوي المتعدّدة، بل ركنت إلى التعريف بالأصول العامة التي ارتضيتها، والتي قلّ أنّ يختلف فيها أهل هذا العلم مع بيان مصادرها، ومذاهب أصحابها في معظم الأحوال مع الإشارة في الوقت نفسه إلى الآراء المخالفة الصادرة عن مذاهب أخرى حتى يكون القارئ على بينة من المذاهب اللّغويّة المختلفة، وعلى دراية بالفلسفات التي قامت عليه.(9) "
ويمكن حصر أهم سمات التأثّر فيما يلي:
1-يرّوج لفكرة البنيويّة العربيّة، وقد وظّف مصطلح البنيويّة في العديد من كتاباته وقدّم لذلك مقابلا في العربيّة.
2-أراد استخلاص نموذجا موحدّا في الدّراسات البنيويّة العربيّة*، يجمع بين التحليل الشّكلي الذي ظهر عند التوزيعيين، وبين نظرية فيرث التي تجمع بين الصوت والدلالة.
3-أرسى المَنْهَج الوصفي على عموم أعماله، ورآه مناسبا لجميع الدّراسات اللّغويّة العربيّة.
ج-تمّام حسّان وأعماله اللّغويّة: هذا اللّغوي من أبرز أشهر اللّغويين العرب الذين أثْرَوا الساحة اللّغويّة العربيّة بأهم الأعمال، والمجهدات، ولم يخفى تأثره الظاهر بمعطيات اللّسانيّات الغربيّة من مناهج، ونظريات، فقد كان منكبا على الدّراسات الوصفيّة، وتبنى المَنْهَج الوصفي في دراساته اللّغويّة، ونجد كتابه المعنون ب: 'اللّغة بين المعيارية والوصفيّة' الذي صدر عام 1958م نقطة انطلاق توجهه التحليلي، وكان قد ألف قبل هذا الكتاب عملا آخر عنونه ب: 'مناهج البحث في اللّغة'، وصدر عام 1955م، ففي هذا الكتاب اعتمد أسلوبا خاصا في شرح المَنْهَج الوصفي يجمع بين (نماذج لغوية فصحى)، و(أخرى عامية)، وأخرى (نماذج لغوية أجنبية) بحجة أنّ هذه الطريقة أوفى في بسط إجراءات المَنْهَج الوصفي في اللّغة العربيّة وأقربها للشرح والتحليل الوصفي العميق، ونعرج هنا لأهم ما أظهره الأستاذ (تمّام حسّان) في هذا التوجه المعرفي والمَنْهَجي والنظري الملحوظ كما يلي:
1-دراسة النّحو العربي من كل جوانبه، ومعطياته دراسة وصفية تتخللها رؤى نقدية، ويجب الإقرار هنا بأنّ الأستاذ (تمام حسان) خصّ النّحو العربي القسط الأوفر في آراءه الوصفيّة التحليليّة.
2-استنتج (تمام حسان) نقاط تفاهم منهجيّة بين الجذور اللّغويّة العربيّة، وما ترصده المناهج اللّسانيّة الغربية، ومثّل لذلك باعتبار (نظريّة فيرث السياقيّة) تتلاقى في اهتمامها بالسّياق اللّغوي مع ما ورد في (نظريّة النّظم) التي وجدت عند (عبد القادر الجرجاني)، واعتبر هذا عاملا محفّزا لإضفاء الصيغ المَنْهَجية الغربيّة على المكون اللّغوي العربي، والسعي قدما إلى تطوير نظام اللّغة العربيّة اعتمادا على الطرق المَنْهَجية العصريّة.
3-دعا في كتابه الأول المسمّى 'مناهج البحث اللّغوي' إلى دراسة المكوّنات اللّسانيّة وفق التحليل البنيوي، واهتم بمصطلحات الفونيم الصوتي، ووظيفة الكلمة؛ ولعلّه أدرج مخطّطا دراسيا يقوم على التحليل العلمي حيث تضبطه أدوات قواعد الوصف كاستعماله للتوزيع، والقيم الخلافية، والوظيفة، والبنية وانتقاءه كل ما يناسب قواعد اللّغة العربيّة من إجراءات النّظريّة الوصفيّة والبنيويّة ويقول تمام حسان معلقا على كتابه (مناهج البحث اللّغوي): "فقد جاء ذلك الكتاب في حينه ليقدم للقارئ العربي ما اصطنعه الغربيون من منهج وصفي، وليعرض هذا المَنْهَج عرضا مفصلا آخذا أمثلته ووسائل إيضاحه من الفصحى حينا ومن العاميّات حينا ومن لغات أجنبية حينا ثالثا، فلم يكن بحثا خالصا للفصحى بقدر ما كان عرضا للمنهج الوصفي" (10).
4-أما في دراسة المستوى النّحوي، فقد استعمل (نمطا منهجيا) تحليليا يعتمد أساسا على التوجه (البرغماتي) 'الفعّال' فهو: حسب ما يراه (تمّام حسّان) يقوم بتصنيف وترتيب العناصر المكوّنة للبنية على أساس (الشّكل والوظيفة)؛ أي باستقراء نتائج التحليل البنيوي لقواعد النّحو العربي.
5-إذا تأملنا كتاب 'اللّغة العربيّة معناها ومبناها' للأستاذ 'تمّام حسّان' الذي صدر عام 1973م نتأكد من أنّ صاحبه سعى جاهدا لقولبة دراسة وصفية واضحة المعالم للّغة العربيّة؛ بناءا لما تتضمنه قواعد البنيويّة؛ ويكمن هدفه في هذه الدّراسة فيما يلي:
أ-دراسة اللّغة العربيّة دراسة (وصفيّة شاملة) تقف عند حدود اللّغة العربيّة وفق ما تمليه 'نظرية فيرث السياقية' التي تميز بين (المعنى المعجمي)، و(المعنى المقامي).
ب-إعادة قراءة التراث (النّحوي العربي) قراءة جديدة علميّة وفق نظريّة علميّة تعمل على صياغة (منهجية حديثة) تراعي البعد العلمي العالمي الجديد.
6-ويمكن القول: أنّ الأستاذ (تمّام حسّان) أراد من أعماله أهدافا منظّمة ومحدّدة وهي:
-استخلاص المَنْهَج الوصفي للنّظريّة اللّغويّة العربيّة القديمة، وإعادة قراءة التراث القديم بمنوال جديد يواكب به الحضارة اللّسانيّة المتطوّرة.
-اعتماد نظرية (فيرث السياقيّة) في دراسة (الدلالة العربيّة)، ورآها بأنّها أكثر دقّة ووضوحا.
-دراسة أصوات اللّغة العربيّة وفق ما تمليه نظريّة الفونولوجيا المستلهمة من جهود مدرسة 'براغ'.
ت-كمال بشر وأعماله اللّغويّة: لقد كان هذا الأخير متأثرا بالدّراسات الغربيّة، وسعى كغيره لتدويل المناهج الغربيّة في انجازاته المختلفة، وتجلت اهتماماته في كتابه الشهير 'دراسات في علم اللّغة' المنجز عام 1969م، ولقد اهتم بالتأصيل للنظرية اللّسانيّة الحديثة من التراث الغوي العربي جازما وواصفا بأنّ ما أتى به بن الجني والسكاكي يتطابق مع ما أتى به 'فيرث' في نظريّته السياقيّة ونحصر هنا أهم النقاط التي تم التوصل إليها في أعماله:
1-قام بدراسة وصفيّة تحليلية لأعمال بن الجني والسكاكي، واستنتج أنّ كلاّ منهما وُفِقَ لإدراك العلاقات النسقية بين مستويات اللّغة المختلفة.
2-دعا إلى دراسة اللّغة العربيّة وفق مناهج متعددة، وليس بالضرورة التقيد بمنهج واحد.
ه-عبد الرّحمان أيوب وأعماله اللّغويّة: لقد كان لهذا اللّغوي توجها دراسيا ظاهرا في إتباع المناهج الغربيّة خاصة منها الوصفي، فقد قام بدراسة وصفية نقدية خصّ بها النحو العربي في كتابه الصادر 1957م بعنوان: 'دراسات نقدية في النحو العربي' أراد من خلالها التوطيد للنظريات اللّسانيّة الحديثة، وتكمن أهدافه فيما يلي:
1-رأى بأنّ المَنْهَج الوصفي ملائما للنّحو العربي؛ لأنّ هذا الأخير في نظره يقوم على الاستنباطات العقلية القياسية في حين أنّ اللّسانيّات الوصفيّة تختار الأمثل، والأنسب.
2-كان منصبا على دراسة كتاب 'مناهج اللّسانيّات البنيويّة' لمؤلفه 'زليج هاريس'، وتأثّر بما يراه هاريس الذي يدعو إلى الدّراسة الوصفيّة التي تقوم على مبدأ التحليل الشّكلي.
3-أكد عبد الرّحمان أيوب بأنّ العرب تأثّروا بـ'فلسفة المنطق'، واحتج بذلك في تقسيمهم الثنائي للجملة على أساس المسند والمسند إليه، ورأى أن هذا كان متجليا في تعريف 'أرسطو' للجملة.
يمكن الجزم بأنّ المدارس اللّسانيّة كلها كان لها أثرا واسعا في البقاع العربيّة إلا أن اللّسانيّات البنيويّة كانت أشد وطئا وتأثيرا في الدّراسات اللّغويّة العربيّة الحديثة؛ ودليل ذلك تلك الأعمال التي أوردناها، ولا ربما لا يخلوا بلدا من البلاد العربيّة إلا وراح مثقفيه اللّغويين إلى دراسة هذا المَنْهَج والتمثيل له، واستنطاق قواعده، ومقاربتها بمكنونات التراث اللّغوي العربي محاولين في ذلك رفع الغموض على تراث اللّغة العربيّة، والاحتجاج على قدرتها في التلقي والاستفادة من كل ما تقدّمه الحضارة الإنسانية في عالم اللّغويات، وعلى هذه الشاكلة كانت الوصفيّة؛ فتعالى صوتها مثل البنيويّة، فاقتنع الكثير من رواد اللّغة المشاهير على الأخذ بإجراءاتها، والعمل بها ورأوا ذلك مناسبا للدّراسات العربيّة في زمن الحضارة اللّغويّة.
وعلى غرار البنيويّة والوصفيّة لم تخلوا الدّراسات اللّغويّة العربيّة من إرهاصات علميّة أخرى فقد تقدمت التّوليديّة والتحولية، واللّسانيّات التّداوليّة، والوظيفية إلى ساحة اللّسانيّات العربيّة بشرف، ونال منها العرب قسطا هاما من الدّراسات، والتطبيقات، ونوضح هذا بنماذج فيما يلي:
-اللّسانيّات التّداوليّة والوظيفية: نجد (أحمد المتوكل)؛ وهو باحث لغوي مغربي مولعا بإتباع هذا الفرع اللّساني المعاصر؛ فراح يدرسه مادة ومنهجا متبعا في ذلك خطوات هذا المولد اللّساني المعاصر بكل دقة وترتيب؛ محاولا جاهدا أن يصب خصائص هذا الاتجاه المعرفي الجديد على التراث اللّساني العربي النفيس. فهبّ يؤسس للوظيفية والتّداوليّة العربيّة وفق المنوال الغربي مستشهدا في ذلك بأمثلة عربيّة تتناسب والرؤى الغربيّة الحديثةّ ونتزود هنا بقوله: "وفي مجال التنظير اللّساني يستهدف اللّساني وضع نموذجا للمعرفة اللّغويّة –بها -يسعى المنظّرون في إقامة نموذج لقدرة مستعملي اللّغة الطبيعية على التواصل بواسطة اللّغة– فهو – نموذج يمثل للملكات اللّغويّة، وغير اللّغويّة المساهمة في عملية التواصل إنتاجا وفهما" (11)، ويمكننا أن نفصل وجهته من خلال استحضار أعماله وفق ما يلي:
قبل الحديث والتطرق إلى أعمال أحمد المتوكل نقف هنا عند إرهاصات اللّسانيّات التّداوليّة، وعموم خصائصها ومفاهيمها:
مصطلح التّداوليّة: يقابله في العربيّة علم الخطاب، أو التخاطب وهو "اسم مشتق من مادة (خ.ط.ب)" (12)، ولفظ 'خطب' في قاموس لسان العرب تعني "الخطاب والمخاطبة: -أي- مراجعة الكلام، وقد خاطبه بالكلام مخاطبة وخطابا، وهما يتخاطبان، والمخاطبة صيغة مبالغة تفيد الاشتراك، والمشاركة في فعل ذي شأن" (13). وورد معنى الخطاب عند الزمخشري في تفسيره للفظة 'فصل الخطاب' الواردة في {القرآن الكريم}، بقوله: هو"القصد الذي ليس فيه اختصار مخل، ولا إشباع ممل" (14). أما التّداوليّة كعلم لساني غربي؛ فهو يعلم يدرس كيفية استعمال اللّغة داخل حيز التواصل اللّغوي؛ ولا ربّما التعريف واضحا عند روادها على أمثال موريس الذي ينسب له أقدم تعريف للتداولية بحيث يعتبرها جزء من السمياء تعالج العلاقات بين الإشارات ومستعمليها، وقد ذهب كل من 'آن ماري ديبر'، وفراس واز ريكاناتي' و' فرانسيس جاك' إلى اعتبار التّداوليّة علم يقف عند ضوابط استعمال اللّغة في حيز تواصلي اجتماعي، وجذور هذا العلم تعود إلى فلاسفة اللّغة كل من 'بيرس'، و'كارناب'، و'موريس' الذين أرادوا البعث باللّسانيّات الحديثة في قالب جديد هدفه إنشاء عملية تواصل نموذجية، والتّداوليّة تمثل "حلقة وصل هامة بين حقول معرفيّة عديدة منها الفلسفة التحليلية..وعلم النفس المعرفي..وعلوم اللّغة" (15).
-أحمد متوكل وتأثره بالمنحى اللّساني التداولي: لقد نقل أحمد المتوكل النموذج التحليلي لوظائف اللّغة التّداوليّة دون أي 'حذف'، أو 'تحوير'، أو 'تضمين'، وهذا دليل قطعي على تأثره البالغ بمباحث (اللّسانيّات التّداوليّة والوظيفية)، فقط اكتفى بترجمة العناصر التحليلية إلى ما يقابلها عربيا وفق استعمال أمثلة من اللّغة العربيّة كنماذج للتحليل وتجلت أعماله مباشرة في كتبه التالية: (اللّسانيّات الوظيفيّة، قضايا اللّغة العربيّة في اللّسانيّات الوظيفيّة، والتركيبات الوظيفيّة قضايا ومقاربات)، ونقدّم هنا الصوّر التعريفيّة للمفاهيم التّداوليّة كما قدّمه أحمد المتوكل.
-تصنيفه للوظائف التّداوليّة:
أ-الوظائف الداخلية:
1-البؤرة: وصفها أحمد المتوكل بأنّها المكوّن الذي تشير (دلالته) إلى المعنى الهام في (الجملة المستعملة) مثلا نأخذ جملة 'دخل الأستاذ مسرعا يلقي الدرس':
فالبؤرة هنا تتحدد بحسب حركة المقابل من المشاهد والمستمع؛ أي إن كان التلاميذ أهمهم أمر دخول الأستاذ؛ فالبؤرة تحدد في الجملة كما يلي: 'دخل الأستاذ مسرعا يلقي الدرس'، وإن كان التلاميذ أهمهم سرعة دخول الأستاذ، فتصبح البؤرة معيّنة في لفظ مسرعا أي 'دخل الأستاذ مسرعا يلقي الدرس'، وإن كان إلقاء الدرس هو أهم من دخول الأستاذ وسرعة دخوله، فتكون البؤرة في كلمة الدرس أي 'دخل الأستاذ مسرعا يلقي الدرس'؛ بمعنى أن البؤرة أو 'المفيد' من الكلام، والمهم يقاس بالبؤرة 'المقابلة' لدى المستمع والمشاهد.
والبؤرة تتفرع إلى نوعين نوع يسمّى بالبؤرة الجديد، وهو ما لا يتضمنه ذهن السامع أو المشاهد من فكرة سابقة عما يتلقاه في عملية التخاطب، ونوع يسمّى بؤرة مقابلة، وهذا النّوع يكون معناه غير مفاجئ لدى المتلقي باعتبار أسبقية الوجود أي الإدراك.
2-المحور: وهو العنصر الدال على المقصود به من عملية الكلام أي 'المحدث والمخبر عنه' نمثل لذلك بالجمل الآتية ضمن عملية حواريّة:
يقول: 'فريد': 'يا خالد أجاء أحمد' يرد 'خالد' بقوله: 'لا أدري يا فريد أظنه لم يأتي بعد' تضمن هذا الحوار ثلاثة أسماء: فريد، خالد، أحمد؛ فالعبارة الأولى استهدفت شخص 'أحمد'؛ وهي بصيغة السؤال والعبارة الثانية استهدفت شخص 'أحمد'؛ وإن دلّ عنها مضمنون العبارة فقط؛ وهي بصيغة الإجابة، والنتيجة هنا أن المحور الذي نشأت عليه العملية الكلامية هو كلمة 'أحمد'.
ب-الوظائف الخارجيّة:
1-المبتدأ: في النّحو العربي المبتدأ هو الذي يبتدئ به الكلام، ويستثنى من ذلك الفعل والحرف وظرفي الزّمان والمكان لأنّهما شبه جملة، أما في التداوليات فالمبتدأ كما وصفه المتوكل وظيفته ترتيب المكوّنات داخل الجملة أيّن كان موقعه؛ وهو برأيه الرابط بين تراكيبها مثلا:
-'جاء عمرُ المدرسةَ'، و'عمرُ جاء المدرسةَ'، و'المدرسةَ جاء عمرُ' فلنحظ أن كلمة 'عمر' في العبارة الأولى فاعل، وفي العبارة الثانية مبتدأ، والعبارة الثالثة فاعل تقدّمه مفعوله، ففي المفهوم التداولي المبتدأ ما وقع معناه في ذهن السامع مُستدركًا قبل غيره لأنّه هو المقصود في نص الكلام؛ لأنّ مجاله خارج تركيب الجملة بحيث يقتصر دوره في وظيفة معنويّة هدفها الربط التركيبي؛ فأحمد المتوكّل يرى بما تراه التّداوليّة من أنّ المبتدأ لا يمثّل وظيفة داخلية.
2-الذيل: يفسره أحمد المتوكل بالذي يتبع البنية الحملية، (فيرتب)، أو(يصّنف) ووظيفته خارجية مثله مثل الفضلى في اللّغة العربيّة.
3-المنادى: أضاف 'أحمد المتوكل' في انجازاته مسمى جديدا في الدّراسات التّداوليّة يسميه المكوّن المنادى باعتبار أن اللّغة العربيّة لها خصوصيتها في التحليل التداولي.
لقد كان الهدف من دراستنا هنا هو استنباط أثر الفكر اللّساني العربي في التّراث العربي وتجميع مظاهره الوجودية المختلفة التي منحت الواقع اللساني صورة معرفية ومنهجية مميزة في عصر لغوي تسوده روح المبادرة والتفوق ويفرض عليه التقدم العلمي في كافة العلوم صبغة تطورية تسابقية تسعى كل لغة من اللغات أن تظفر به تمليه حواصل التقنية والمعارف الدقيقة والاكتشافات الإبداعية الفعالة في جميع الحقول الدراسية المختلفة ولا ضير أنّ اللّسانيّات العربيّة قد استجابة لهذه الركبة النوعية ضمن دائرة التنافس وإثبات الوجود بل إن رواد اللّسانيّة العربيّة لم يستثنوا من هذا الحراك القائم أي مجال معرفي في عالم علوم اللسان العربي وفنون الأدب العربي، فظهرت كما أسلفنا مناهج عدّة كان أهمها المَنْهَج الوصفي، والبنيوي ثمّ تلاه النحو التوليدي، والتحويلي، واللّسانيّات الوظيفية، والتّداوليّة. بحيث حرص أصحابه على نقل التجارب الناجحة من الفكر اللساني الغربي وتقديمها في قوالب علمية استنتاجية بما يتوافق مع مقدرات اللغة العربية وخصوصياتها التكوينية. والحقيقة أنّ المجال لا يسعنا لحصر كل التجارب التي تبين إرهاصات النظريات الغربية في عالم المعارف اللسانية العربية. ولا يمكننا أيضا التوسّع في شرح كل ما قدمناه عن هذه النماذج وإنّما كان ما أسلفناه صورة توضيحية رسمنا من خلالها أهم النظريات والأفكار التي انبثقت عن الفكر الغربي فقدمنا عن ذلك نماذج توضيحية للبيان والاستشهاد. والثابت أنّ الفكر اللساني الغربي امتد غلى التراث العربي عبر مفكري اللسانيات العربية الحديثة والمعاصرة وفق أداة تحافظ على روابط الأصالة وبوادر التقدم.
الهوامش والإحالات:
(1)-Geoffrey Sampson, schools of linguistics, London Hutchinson and co, 1980, p17.
(2)-المرجع نفسه، ص17.
(3)-نواري سعودي أبو زيد، محاضرات في اللّسانيّات التطبيقية، بيت الحكمة للنشر والتوزيع، ط1، العلمة-سطيف-الجزائر، 2012م، ص9.
(4)-روبير مارتان، مدخل لفهم اللّسانيّات، ترجمة عبد القادر المهيري، المنظمة العربيّة للترجمة،ط1، بيروت،2007م، ص89..
(5)-H.Osthoff and k, brugmann, P, XII in G, Sampson, Op, Cit, 1878, p27.
(6)-Georges Mounin, la linguistique du XXe siècle, PUF,1972, P200.
(7)-عبد الجليل مرتاض، مفاهيم لسانيّة، دار الغرب للنشر والتوزيع، وهران-الجزائر2005م، ص55.
(-أحمد مومن، اللّسانيّات النشأة والتطوّر، ديوان المطبوعات الجامعية، ط 4، الجزائر2008م، ص82.
(9)-محمود السعران، علم اللّغة، دار الفكر العربي، ط2، القاهرة، ص317.
(10)-تمّام حسّان، اللّغة العربيّة معناها ومبناها، دار الثقافة، الدّار البيضاء المغرب، 1994م، ص7.
(11)-أحمد المتوكل، التركيبات الوظيفية قضايا ومقاربات، مكتبة دار الإيمان الرباط، ط1، 2005م، ص49.
(12)-عبد القادر شرشار، تحليل الخطاب السردي وقضايا النص، دار القدس العربي، ط1، وهران2009م، ص15. 2
(13)-ابن منظور ، لسان العرب، مراجعة يوسف خياط، دار لسان العرب، ج2، بيروت1988م، ص856.
(14)-الزمخشري، الكشاف عن حقائق التنزيل، تحقيق محمد مرسي عامر، دار المصحف، القاهرة-مصر، د-ت، ج56، ص125.
(15)-مسعود صحراوي، التّداوليّة عند العلماء العرب، دار التنوير للنشر والتوزيع، ط1، الجزائر2008م، ص25.
استطاعت اللّسانيات الغربية أن تؤسّس لعلم اللّغة الحديث وفق منوال عصري ينطلق من معطيــــــــات النظريات اللّسانيــــة الحديثة المنبثقة عن أراء وأفكار أعلام اللّغة. فلا ضير من أنّ هذا الحراك اللّسانــي الغربي كان مواكبا للنّهضة العلمية التي طالـــــــــــــت العلوم الأخرى، فراحت اللّسانيات الغربيـــــة عمــــــوما والأوروبية على وجه الخصوص تستفيد من تجـارب علــــوم الدقيقـــة والرياضيــات، وتأثّـر المختصـــــون فــــي المجال الهام بهذا النبض المعرفــي الحديــث. وبعد قيـــــــــــــام المناهج والبدء في التأسيس الفعلـــي للمدارس اللّغويـــــة لم تكـــــن اللّغة العربية على غرار لغات العالم الأخرى في منأى عن هذا التغيــــــــر الحضاري اللّغوي المؤثر، بل أنّها تأثرت تأثرا واضحا بهذا المنعطف الحديث، فظهرت نماذج تتبنــى النظريـــات والأفكـــــــار المؤيـــدة لهذا التوجــــه اللغوي الجديــــــــــد في عالم تسوده روح التطور والتقنية الحديثة.
Abstract
Western linguistics was able to establish the foundations of modern science of language through contemporary methods that start from modem linguistic theories which emanate from the point of views and beliefs of linguists. It is by no means that this movement in western linguistic coincided with the scientific renaissance that affected other sciences. Western linguistics,and the European in particular, benefited from the experiences of experimental sciences and mathematics. Specialists in the field have been influenced by this modern scientific pulse. After the rise of method and the actual starting of establishing the foundations of linguistic schools, Arabic language, together with other languages, was not an exception regarding these influential changes. It has been clearly influenced by this modern turn; patterns that adopt these modern theories emerged in a world dominated by technological development
من الواضح أنّ اللّسانيّات الغربيّة علا صداها كل الساحات اللّغويّة العالمية، وخاصة بعد ظهور الدّراسات الوصفيّة، والبنيويّة بزعامة فرديناند دوسوسير الذي أفضى طابع العلميّة على كل الدّراسات اللّغويّة؛ فاتسع نطاق الفكر اللّساني الغربي ليصل صداه الوطن العربي الكبير مشرقا ومغربا؛ مستندا في ذلك إلى تأثر المتطلّعين والمولعين بالدّراسات الغربيّة المختلفة. حيث ظهرت دراسات وأعمال شملت كافة الانجازات اللّغويّة الأوروبية خاصة والغربيّة بصفة عامة. فتمّ طرق باب المناهج على نحو المَنْهَج التّاريخي، والوصفي والبنيوي، وظهرت عيّنات دراسيّة تتناول أعمال دوسوسير، وانتقلت إلى الاهتمام بالدّراسات الصوتيّة الغربيّة. واهتمت بنظريات اللّغة وتحليلها؛ كنظرية فيرث، ونظرية مارتيني، والنحو التوليدي التحويلي، وأمست السّاحة اللّغويّة العربيّة محطّة تبادل فكري ومنهجي يستمد قواه من فحوى الممارسات اللّغويّة الغربيّة؛ فظهر الأتباع والأشياع، ورافقتها أعمال لسانيّة لا تكاد تحيد على النّمط الغربي في التأليف والتصنيف، وراحت تضاهي النظرات اللّغويّة العربيّة الأصيلة كالنّظريّة الخليلية في علم الأصوات، أو النّظريّة الجرجانية في علم البلاغة، فلم يمضي القرن التاسع عشر، ويأتي القرن العشرين حتى اتضحت معالم الفكر اللّساني الغربي بكافة اتجاهاته في أرجاء المعمورة العربيّة، وظهر رواد المناهج، والنظريات الفكريّة اللّغويّة الغربيّة من بني العرب وراحوا ينظمون على نحو ما تمليه تلك المناهج ولا يكادون يفترون عنها في صغير أعمالهم أو كبيرها وأسّس لمفاهيم جديدة اعتلت المنصة اللّغويّة العربيّة كمصطلح البنيويّة العربيّة، والتّداوليّة، والوظيفية العربيّة، وظهرت معاجم لغويّة تحتوي مستندات غربية، وكثرت الترجمة، وولع الكثير من مثقفي العرب إلى إتباع ما تمليه لسانيّات الغرب باختلاف معطياتها بلا هوادة.
وربّما نقف هنا على نماذج لأعمال ينبع صميمها من المدّارس اللّسانيّة الغربيّة، ومناهجها الدّراسيّة، وإجراءاتها العملية، وقبل الانتقال إلى ذكر النّموذج العربي يجب تحديد أهم النظريّات والأعمال التي انبعث منها الفكر اللّساني الغربي التي كانت بمثابة الأدوات التي اعتمد عليها العرب في أعمالهم:
إذا تأملنا الدّراسات اللّغويّة منذ بدايتها؛ فإنّنا نشهد تأثرها بالرؤى والأفكار الفلسفية التي كانت سائدة في زمنها، فلا ضير أنّ ذلك كان المحرّك الأول والأساس لنشوء هذه المناهج اللّغويّة؛ فالمَنْهَج التّاريخي نشأ متأثرا بفلسفة العلوم، وبالأخص النظريات التي كانت تبحث في تطور حياة الإنسان والظواهر الطبيعية، منها على سبيل المثال 'نظرية داروين' التي صاغها في كتابه: (أصل الأنواع)، فنجد 'فرانز بوب' (Franz Bopp) يعرج على ذلك بقوله: "من الواجب عدّ اللّغات أجسادا عضوية مركبة، وفق قوانين ثابتة؛ لأنها تحمل في كيانها مبدأ الحياة النابضة، وتتطور وتموت بطريقة تدريجية، وإذا ما أعوزها الانسجام، والتلاحم فسوف..تصيّر صيغها، ومكنوناتها الأساسية شيئا فشيئا -إلى- أعضاء ثانوية نسبيا" (1)، فهذا يؤكد على أنّ رواد الدّراسات اللّسانيّة التّاريخيّة مضوا في وصف اللّغة على أنّها ظاهرة بيولوجية تدرس وفق منوال علوم الحياة والبيولوجيا ويضيف 'أوغست بوت' (august pott) قولا متعلقا بهذا المنحى: "إن اللّغة في حالة دائمة من التغير طوال حياتها فهي ككل شيء عضوي تمر عبر مراحل متتالية: الحمل والبلوغ، والنمو السريع والبطيء، والقوة والريعان، ثمّ الضعف والانقراض التدريجي" (2).
فلاشكّ من أنّ المَنْهَج التّاريخي كان مولعا بمبادئ نظرية داروين في أصل الأنواع، وتطور الحياة البيولوجية، وفي الحقيقة أنّ جميع المدارس اللّسانيّة والمناهج اللّغويّة كانت وديعة أعمال لغوية سابقة حصرت جلّها في كل من: 'ليبنيتز Leibniz' و'فيكو Vico'، و'هاردر Herder'، و'وليم جونز William Jones'، فهؤلاء هُمْ قواعد التنظير، والنّواة الأولى التي اعتبرت مهد الدّراسات الأوروبية اللّغويّة الأولى، والتي هي الأخرى أسهمت في ظهور المدارس اللّسانيّة الحديثة على اختلاف توجّهاتها، ونأتي هنا إلى ذكر أعمال، ودراسة أفكار هذه الفئة التّاريخيّة من العلماء، وذلك للخلوص إلى البوادر الأولى التي تمثل القاعدة الأساسية للبحث اللّغوي، ونذكرهم هنا الواحد تلوى الأخر:
1-ليبنيتز (Gottfried Wilhelm Von Leibniz 1716-1646):
اهتم هذا المفكر بعلم الفلسفة، ومبادئ الرياضيات الأولية، وكان يولي اهتماماته بدراسة اللهجات العامية، واللّغات المحلية معتبرا ذلك عاملا مساعدا في اكتشاف الجذور الأولى للغات الإنسانية، ومن أعماله تأسيس قواعد كتابة عالمية تقوم على الأبجدية الرومانية، ونظام الاستخلاص والاستفادة (translieration). كما كان مشجعا للبحث اللّغوي في شتى أنحاء المناطق. ودعا إلى تأسيس قواميس لغوية تقوم على قواعد تلاءم اللّغات.
2-غيامبتسته فيكو (Giambattista Vico 1744-1668):
عُرف هذا المفكر الإيطالي بمجهداته اللّغويّة الجبارة، وبرزت نظرته اللّغويّة في مؤلفه: (Principe di Una scienza nuova d'intorno alla comune natura delle mazioni)؛ فهذا الكتاب عرف بمستوى مراحل اللّغة الثلاث، وصنفت كالآتي:
-مجموعة اللّغات الأولى: ضمت اللّغات(الهيروغليفية) كما سماها 'فيكو'، واعتبر أن هذا النّوع من اللّغات مقدّسا تفرضه 'الحتمية التواصلية' على البشر في المرحلة الأولى من الوجود.
-مجموعة اللّغات الثانية: في نظره هي لغات مبتكرة من قبل المميزين من البشر كالأبطال والقادة، ولذلك أطلق عليها فيكو اسم اللّغة البطولية.
-مجموعة اللّغات الثالثة: يقصد بها لغة الجماهير أو اللّغات العامة، وهي تستعمل بين كافة البشر، وحسب فيكو تتنوع بتنوع الطبيعة والبيئات.
3-جوهن فون هاردر (Johan Gottfried Von Herder 1803- 1744): وُصِف البحث اللّغوي عند هاردر بالطابع العلمي، وظهرت ملامح ذلك في مقال له نشره سنة 1772م بعنوان 'حول أصل اللّغة' (Uber den ursprung der Sprache)، ونص المقال أنّ هاردر رفض فكرة أن تكون اللّغة إلهاما إلهي معتبرا ذلك خطأ كبيرا لأنّ اللّغات بحسبه تختلف، وتندثر، وتتأثر، وهذا لا يمنحها الصبغة الإلهامية المزعومة بحسب رأيه. ونفى أيضا أن تكون اللّغات من ابتكار الإنسان، وأكّد بأن الطبيعة بمختلف عواملها هي الدافع إلى نشوء اللّغات. وتطرق هاردر إلى فكرة أسبقية اللّغة عن الفكر، أو أسبقية الفكر عن اللّغة؛ فكان رأيه حول هذه النزعة الفكريّة: 'بما أن الاثنين أي اللّغة والفكر بحاجة كل واحد منهما للأخر؛ فإنّ لهما السبق والبداية معًا؛ لأنهما رافقا الإنسان منذ الوجود؛ فلا يمكن وصف أحدهما بصفة الابتداء دون الأخر.
4-فيلهلم فون همبولت (Wilhelm Von Humboldt 1835-1767):
اشتهر هذا اللّغوي الألماني بنزعته القومية، ولهذا ظهر عنده (الفكر اللّغوي القومي). وكانت مؤلفاته لها أثر عميق في عالم اللّغة من أهم هذه المؤلّفات كتاب: (اختلاف بنية اللّغات البشرية) الذي تناول فيه خصائص اللّغات القديمة. وبالأخص اللّغة 'الكاوية القديمة' (kawi). وكان 'فون همبولت' يختلف عن سابقيه في قراءاته النّظرية للّغة، فقد اعتبر أنّ (للعقل أثرا بارزا في نشأة اللّغات الإنسانية)، كما أنّه لم يبعد (الظروف الطبيعيّة) كعوامل خارجية مساعدة على نشأة اللّغة.
فأعمال هؤلاء البواكير أسهمت كل الإسهام في نشوء علوم اللّغة المختلفة بدءا بالدّراسات التّاريخيّة، والدّراسات البنيويّة والوصفيّة، وكانت المحفز القوي في نشأة المدارس اللّسانيّة التي أخذت من هذه الأعمال بحس الميول الفكري، والنشاط العملي.
لا ريب من أنّ الفكر اللّساني الغربي فكر عظيم أخذ من الوجود ضمن حيز العلوم قوة كبيرة مستلهما ذلك من ثورات العلوم، ونهضات المعرفة؛ فكان ذلك لزاما على أهله من رواد اللّغة، ومثقفيها أن يسهموا بقدر ما يحصل له من قوة متماسكة ضاربة في حقل المعارف، والمكنونات العلميّة، ولهذا نجد الدّراسات اللّغويّة جامعة بين التطور والتغير، والأخذ والرد، والمشابهة والتحليل؛ فقد صبغت بالبصمة التّاريخيّة مع 'وليام جونز 'William Jones؛ وراحت تستند إلى مناهج المقارنة؛ والتحليل ثمّ بعد ذلك ظهر 'فرديناند دوسوسير' صاحب النزعة العلميّة المتأثرة بما يحصل في عالم العلوم المختلفة؛ فأدرك جاهدا حقيقة الدقة العلميّة؛ والصبغة المعرفيّة؛ فراح في عجالة يؤهل اللّغات لما يفيدها؛ فنتج عن ذلك مفهوم جديد لدراسة اللّغة أَلحَقَ حركة تغيرية في حقول اللّغة عامة، واللّسانيّات خاصة، وبات يصطلح على علم اللّسانيّات؛ بأنّه "الدّراسة العلميّة للّغة الإنسانية" (3) فبرزت مفاهيم لغويّة، ومبادئ إجرائية جديدة ذات توجه معرفي علمي كمبدأ التناسق، ودوره في الحفاظ على انسجام المكوّنات اللّغويّة، ثمّ المطابقة والبساطة، وبات للّغة دور وظيفي مقنن، وسهر اللّسانيّون من أمثال 'مارتيني' الذي استفاد من سلفه 'دوسوسير'، وغيره على إدراج اللّغة ضمن نسق وظيفي كامل يقوم على "وظيفة كلية تسمى اللّغة –الوظيفية- تمكّن جنسنا البشري من إعطاء شكلا مناسبا للأفكار، وتبليغها؛ فليست الألسن سوى إنجازات خاصة تعتمد فرضية الكلية على ملاحظة أنّ الألسن يمكن ترجمة بعضها إلى بعض، فلابد إذًا من وجود أنواع التشكل المسماة بكليات اللّغة" (4)، وليس ببعيد إلى أن ظهر الفذ الجديد ناعوم تشومسكي الذي يجهز دراسة اللّغة وفق ما تمليه الضرورة العصرية؛ فظهر عنده مصطلح التحويل، والتوليد لتتأسس فيما بعد نظرية النحو التوليدي التحويلي؛ وهي نظرية في عمومها رياضية تجريدية.
وهكذا هي اللّسانيّات الغربيّة علم رائع، ومتجدد يسعى نحو التقدم والازدهار، واحتلال مكانة مناسبة بين العلوم الإنسانية المختلفة.
وقبل الحديث عن أثر هذا الفكر اللّساني الغربي في اللسانيات العربية نقوم هنا ببسط وتحديد أهم النظريات التي مثلت النواة الأولى لإرهاصات الفكر اللّساني الغربي الحديث، وتوغلت في الفكر اللساني العربي:
1-نظريّة التغير اللّغوي: تؤمن كل الاتجاهات اللّسانيّة بأن الأنظمة اللّغويّة متغيرة، ومتطورة بحيث لا يمكن دراسة لغة من اللّغات بعيدة عن أصولها، ومنشئها لأن ذلك يساعد في تحديد التراكيب اللّغويّة، ومظاهرها الفونولوجية والمرفولوجية.
2-نظريّة المكوّنات الداخلية للّغة: ويضم هنا وجهة نظر راسك (Rask)؛ بحيث وصف (تراكيب اللّغة) بأنّها تسير، وتنتقل إلى 'البساطة واليسر'، وتصيّر من 'الظواهر المتصرفة' إلى الظواهر الفاصلة.
3-نظريّة الشهرة والاستعمال: يرى أصحاب هذه النّظريّة أنّ الانتشار اللّغوي، وغلبة اللّغة على غيرها داخل البيئة الاجتماعية الواحدة؛ يعود إلى عامل الشهرة، والاستعمال اللّغوي الواسع داخل الدائرة اللّغوية التي تتواجد بها اللّغات المختلفة فتكون غلبة اللّغة للأكثر تداولا على الألسن.
4-النّظريّة السيكولوجية: أخضع هؤلاء الظواهر اللّغويّة إلى أسباب نفسية، وذهب كل من هارمان أوسثوف (Herman osthof)، وكارل بروغمان (Karl brugmann) إلى أن اللّغة في تكوينها تخضع للذات الإنسانية: "اللّغة ليست كائنا بعيدا عن الناس، ولا يمكنها أن تقود بنفسها حياتها الخاصة، بل ليس لها وجود حقيقي إلا داخل نفوس الأفراد وعليه فإنّ كل التغيّرات التي تطرأ عليها لا تكون إلا من صنع الأفراد المتكلمين" (5).
5-نظريّة الاختيار والمناسبة: تختص هذه النّظريّة بالجانب الصوتي؛ بحيث كان أصحابها يولون اهتمامهم بدراسة اللّغات الرومانية من الناحية الصوتيّة كدراسة التغيّرات الحاصلة فيها، حيث دعا 'هوغو سخوخارت' (Hugo schuchardt) إلى دراسة التغيّرات الصوتيّة وفق مبدأ التذوق (taste)، أو الموضة (fashion)؛ اللّذان يسهمان في انتقاء المناسب من اللّغة.
6-نظريّة اللّغات الغالبة (Substratum theory): يُرجع أصحاب هذه النّظريّة سبب سيادة اللّغات، وتطوّرها الاستعمالي وسيطرتها إلى 'تنحي' اللّغات الأخرى، وأسباب هذا التنحي عديدة ومختلفة منها: العقائد، والأعراق، والسيطرة، والتبعية، والاحتلال، وغيرها.
7-نظريّة الوحدة اللّغويّة (Stammbaumtheorie): أسّسها العالم اللّغوي 'شليشر'(Schleicher) ؛ وهدفه تحديد أواصل القرابة بين اللّغات الهندوأوروبية؛ وضبط صور التّطوّر اللّغوي في المراحل الزّمنيّة المختلفة، يقول مونان (Mounin): "هذه النّظريّة تهدف إلى جعل التّاريخ اللّغوي يتناسق والنّظرة البيولوجية التطورية التي نادى بها داروين" (6) في فلسفته العلميّة فاستطاع داروين أن يحدث ضجة كبيرة بنظريته العميقة المثيرة للجدل.
8-نظرية الأمواج (Wellen théorie): تعود هذه النّظريّة إلى 'جوهانس شميت' (Johannes Schmidt) و"مفادها أن اللّغات تنتشر على سطح الأرض كما تنتشر الدوائر المرتسمة على سطح الماء إثر سقوط حجر عليه، وكما تتباعد الدوائر عن نقطة انطلاقها، وتتقاطع مع دوائر أخرى نتيجة سقوط أجسام أخرى، فكذلك الشأن بالنسبة للغات حيث تتشعب شيئا فشيئا، وتتسع الهوة تدريجيا بين اللّغة الأصلية واللّغات المتفرعة" (7). ويلحظ على هذا الاتجاه اهتمامهم بالبعد اللّغوي الجغرافي باعتبار أن اللّغات تتباين من منطقة إلى أخرى، وهذا يؤكد تدخل عامل التنّوع الجغرافي، وتأثيره في الجانب اللّغوي، وتنتج عن ذلك "مظاهر تؤدي إلى حدوث وقائع، وأشكال لسانية جغرافية" (.
9-نظرية تكوين وتسهيل النطق: يرى أتباع هذه النّظريّة بأنّ هناك عوامل داخلية قديمة تسهم في إحداث التغير الصوتي؛ باعتبار أنّ العجز عن التعبير، وإحداث تواصل كامل، ومتبادل كان يقتضي دخول عناصر تتحكم في العمليّة الصوتيّة بصورة لا إرادية، كالحذف، والاستبدال، وأسس لهذه النّظريّة المعرفية كل من 'ويسبرسن'(Jespersen) ، و'ويتني' (Whitney)، ويؤيد هذه النّظريّة التغير الفونولوجي الحاصل في معظم لغات التواصل العالمي؛ حيث تغير في استعمال الكلمات من طرف الأفراد دون قصد وانتباه.
10-النّظريّة الفيزيولوجية: تعطي هذه النّظريّة نوعا جديدا من التفسيرات فهي ترى أنّ التغير اللّغوي يعود إلى تغير في تكوين سمات الإنسان، وتعاقب الأجيال البشرية على مر العصور حيث يرى 'هارمان أسثوف' (Hermann osthoff)؛ أن هناك تغيرات فيزيولوجية عديدة طرأت على كل أعضاء الجهاز النطقي (الصوتي) عند الإنسان منذ القدم، وهذه التغيّرات كانت السبب الوحيد والمباشر في التغير اللّغوي؛ فأصحاب هذه الرؤية نفوا فكرة الثبات للشكل الفيزيولوجي لجهاز النطق، وبالتالي هذا ينفي ثبوتية اللّغات وأنها بهذه الكيفية تكون متغيرة.
11-النّظريّة الرياضيّة: تؤمن هذه النّظريّة بأنّ كل ما يرتبط باللّغة من الناحية الصوتيّة، أو التركيبيّة له أبعاد علميّة مثله مثل باقي العلوم الأخرى التي تدرس وفق منوال '(الحساب والإحصاء)، و(المسلمات)، و(الفرضيات)، و(الدوال)؛ فهؤلاء أرادوا الجزّ بعلم اللّسانيّات إلى حقل (الدقة الرياضية) تيمننا بـ(العلوم الدقيقة الأخرى)، وهذا ما يتضح عند دوسوسير، وتشومسكي، وغيرهم.
12-النّظريّة الاجتماعيّة: أصحاب هذه الوجهة يرون أنّ المجتمع هو الأساس في تكوين اللّغة، وضبط ركائزها، وهو في اعتقادهم قمة (البعث اللّغوي)؛ لأنّ البيئة الاجتماعية هي المكوّن الأساس لشخصية الإنسان انطلاقا من أفكاره، وسلوكياته المختلفة. وبالتالي لا نستطيع أن ننفي علاقتها بالوجود اللّغوي؛ فهي بلا شك منطلق أي تغير حاصل للّغات سواء على الجانب (الصوتي)، أو (النّحوي)، أو (المرفولوجي)، وغيره من الأبعاد اللّغويّة المرتبطة بالفرد ضمن البيئة الاجتماعية.
13-النّظريّة النفسية (السلوكية): تعود نشأتها إلى عالم النفس الأمريكي واطسون (Watson) الذي أسّس لعلم النفس السلوكي؛ فلا يكاد يخلو بحث من الأبحاث العلميّة، أو توجه من التوجهات اللّسانيّة، أو مفكر لغوي ولم تظهر عليه أثار واطسون الفكرية، وهذا ما نجده واضحا عند 'بلومفيلد' وعند 'تشومسكي'، وغيرهم ممن تأثّروا بنظرية علم النفس السلوكي.
وبعدما اطلعنا على أهم النقاط النظرية والفكرية للحضارة اللغوية الأوروبية نقدم هنا نماذج عن الامتداد الفكري اللساني الغربي في اللسانيات العربية الحديثة.
أ-إبراهيم أنيس وأعماله اللّغويّة: لقد كان لهذا اللّغوي البارز أعمالا هامة مثلت رؤاه وأفكاره لتتضح وتتجسد في كتبه المختلفة؛ محاولا تطبيق عدة مناهج غربية كالوصفيّة والتّاريخيّة والبنيويّة، وغيرها مستأنسا في ذلك لنماذج من اللّغة العربيّة مقتنعا بأن هناك سندا توافقيا بين ما تمليه المناهج الغربيّة، ونظيرتها اللّسانيّات العربيّة ويمكننا هنا استبيان ما استطعنا استلهامه من أعماله المتنوعة:
-إنّ الدّارس لكتب إبراهيم أنيس خاصة كتابي: 'الأصوات اللّغويّة' و'دلالة الألفاظ' يلحظ ملاحظة هامة أن الأستاذ إبراهيم يسعى إلى مقارنة مباشرة بين آراء وأنظار اللّغويين القدامى في دراستهم للأصوات، وتصنيفها، وما تقدمه الدّراسات الوصفيّة، والتّاريخيّة في اللّسانيّات الغربيّة، ويتطلع الأستاذ إبراهيم أنيس في منهجه الوصفي إلى ما يلي:
1-دراسة الأصوات العربيّة دراسة وصفية مستحضرا في ذلك قواعد المَنْهَج الوصفي.
2-قيامه بتصنيف الأصوات العربيّة ضمن قاعدة النّظريّة الفونولوجية الحديثة.
3-دراسة مستويات اللهجات، والبحث في تطوراتها، ومقارنتها بعلم القراءات القرآنية ثمّ القيام بوصفها وصفا دقيقا يحقق المعرفة الخاصة بتطور الألفاظ العربيّة.
4-اعتمد في كتابه دلالة الألفاظ تطبيق مفاهيم النظريات الدلالية الحديثة المستوحاة من مفاهيم بلومفيلد البنيويّة، ومقارنتها بما يستدل عليه من كلام العرب.
5- يؤمن بجدارة الأبحاث اللّسانيّة الغربيّة في تنمية اللسانيات العربية في جميع مناحيها.
ب-محمود سعران وأعماله اللّغويّة: لاشك من أنّ الأستاذ 'محمود' كان على منوال الأستاذ إبراهيم أنيس، فقد تهافت إلى دراسة المناهج الغربيّة، والتأثر بها ودعا إلى توظيفها بما يناسب اللّغة العربيّة من إجراءات، وتطبيقات، ولقد تجلّت هذه البادرة في كتابه المميز الذي صدر سنة 1962م بعنوان 'علم اللّغة مقدمة للقارئ العربي'؛ فقد كان متأثرا تأثّرا بالغا بالدّراسات البنيويّة، وهذا ما ميز محتوى كتاباته ولقد كان صريحا بقوله: " وأنا لم ألتزم في جملة ما عرضت مذهبا بعينه في كل أصوله وفروعه من هذا الدّرس اللّغوي المتعدّدة، بل ركنت إلى التعريف بالأصول العامة التي ارتضيتها، والتي قلّ أنّ يختلف فيها أهل هذا العلم مع بيان مصادرها، ومذاهب أصحابها في معظم الأحوال مع الإشارة في الوقت نفسه إلى الآراء المخالفة الصادرة عن مذاهب أخرى حتى يكون القارئ على بينة من المذاهب اللّغويّة المختلفة، وعلى دراية بالفلسفات التي قامت عليه.(9) "
ويمكن حصر أهم سمات التأثّر فيما يلي:
1-يرّوج لفكرة البنيويّة العربيّة، وقد وظّف مصطلح البنيويّة في العديد من كتاباته وقدّم لذلك مقابلا في العربيّة.
2-أراد استخلاص نموذجا موحدّا في الدّراسات البنيويّة العربيّة*، يجمع بين التحليل الشّكلي الذي ظهر عند التوزيعيين، وبين نظرية فيرث التي تجمع بين الصوت والدلالة.
3-أرسى المَنْهَج الوصفي على عموم أعماله، ورآه مناسبا لجميع الدّراسات اللّغويّة العربيّة.
ج-تمّام حسّان وأعماله اللّغويّة: هذا اللّغوي من أبرز أشهر اللّغويين العرب الذين أثْرَوا الساحة اللّغويّة العربيّة بأهم الأعمال، والمجهدات، ولم يخفى تأثره الظاهر بمعطيات اللّسانيّات الغربيّة من مناهج، ونظريات، فقد كان منكبا على الدّراسات الوصفيّة، وتبنى المَنْهَج الوصفي في دراساته اللّغويّة، ونجد كتابه المعنون ب: 'اللّغة بين المعيارية والوصفيّة' الذي صدر عام 1958م نقطة انطلاق توجهه التحليلي، وكان قد ألف قبل هذا الكتاب عملا آخر عنونه ب: 'مناهج البحث في اللّغة'، وصدر عام 1955م، ففي هذا الكتاب اعتمد أسلوبا خاصا في شرح المَنْهَج الوصفي يجمع بين (نماذج لغوية فصحى)، و(أخرى عامية)، وأخرى (نماذج لغوية أجنبية) بحجة أنّ هذه الطريقة أوفى في بسط إجراءات المَنْهَج الوصفي في اللّغة العربيّة وأقربها للشرح والتحليل الوصفي العميق، ونعرج هنا لأهم ما أظهره الأستاذ (تمّام حسّان) في هذا التوجه المعرفي والمَنْهَجي والنظري الملحوظ كما يلي:
1-دراسة النّحو العربي من كل جوانبه، ومعطياته دراسة وصفية تتخللها رؤى نقدية، ويجب الإقرار هنا بأنّ الأستاذ (تمام حسان) خصّ النّحو العربي القسط الأوفر في آراءه الوصفيّة التحليليّة.
2-استنتج (تمام حسان) نقاط تفاهم منهجيّة بين الجذور اللّغويّة العربيّة، وما ترصده المناهج اللّسانيّة الغربية، ومثّل لذلك باعتبار (نظريّة فيرث السياقيّة) تتلاقى في اهتمامها بالسّياق اللّغوي مع ما ورد في (نظريّة النّظم) التي وجدت عند (عبد القادر الجرجاني)، واعتبر هذا عاملا محفّزا لإضفاء الصيغ المَنْهَجية الغربيّة على المكون اللّغوي العربي، والسعي قدما إلى تطوير نظام اللّغة العربيّة اعتمادا على الطرق المَنْهَجية العصريّة.
3-دعا في كتابه الأول المسمّى 'مناهج البحث اللّغوي' إلى دراسة المكوّنات اللّسانيّة وفق التحليل البنيوي، واهتم بمصطلحات الفونيم الصوتي، ووظيفة الكلمة؛ ولعلّه أدرج مخطّطا دراسيا يقوم على التحليل العلمي حيث تضبطه أدوات قواعد الوصف كاستعماله للتوزيع، والقيم الخلافية، والوظيفة، والبنية وانتقاءه كل ما يناسب قواعد اللّغة العربيّة من إجراءات النّظريّة الوصفيّة والبنيويّة ويقول تمام حسان معلقا على كتابه (مناهج البحث اللّغوي): "فقد جاء ذلك الكتاب في حينه ليقدم للقارئ العربي ما اصطنعه الغربيون من منهج وصفي، وليعرض هذا المَنْهَج عرضا مفصلا آخذا أمثلته ووسائل إيضاحه من الفصحى حينا ومن العاميّات حينا ومن لغات أجنبية حينا ثالثا، فلم يكن بحثا خالصا للفصحى بقدر ما كان عرضا للمنهج الوصفي" (10).
4-أما في دراسة المستوى النّحوي، فقد استعمل (نمطا منهجيا) تحليليا يعتمد أساسا على التوجه (البرغماتي) 'الفعّال' فهو: حسب ما يراه (تمّام حسّان) يقوم بتصنيف وترتيب العناصر المكوّنة للبنية على أساس (الشّكل والوظيفة)؛ أي باستقراء نتائج التحليل البنيوي لقواعد النّحو العربي.
5-إذا تأملنا كتاب 'اللّغة العربيّة معناها ومبناها' للأستاذ 'تمّام حسّان' الذي صدر عام 1973م نتأكد من أنّ صاحبه سعى جاهدا لقولبة دراسة وصفية واضحة المعالم للّغة العربيّة؛ بناءا لما تتضمنه قواعد البنيويّة؛ ويكمن هدفه في هذه الدّراسة فيما يلي:
أ-دراسة اللّغة العربيّة دراسة (وصفيّة شاملة) تقف عند حدود اللّغة العربيّة وفق ما تمليه 'نظرية فيرث السياقية' التي تميز بين (المعنى المعجمي)، و(المعنى المقامي).
ب-إعادة قراءة التراث (النّحوي العربي) قراءة جديدة علميّة وفق نظريّة علميّة تعمل على صياغة (منهجية حديثة) تراعي البعد العلمي العالمي الجديد.
6-ويمكن القول: أنّ الأستاذ (تمّام حسّان) أراد من أعماله أهدافا منظّمة ومحدّدة وهي:
-استخلاص المَنْهَج الوصفي للنّظريّة اللّغويّة العربيّة القديمة، وإعادة قراءة التراث القديم بمنوال جديد يواكب به الحضارة اللّسانيّة المتطوّرة.
-اعتماد نظرية (فيرث السياقيّة) في دراسة (الدلالة العربيّة)، ورآها بأنّها أكثر دقّة ووضوحا.
-دراسة أصوات اللّغة العربيّة وفق ما تمليه نظريّة الفونولوجيا المستلهمة من جهود مدرسة 'براغ'.
ت-كمال بشر وأعماله اللّغويّة: لقد كان هذا الأخير متأثرا بالدّراسات الغربيّة، وسعى كغيره لتدويل المناهج الغربيّة في انجازاته المختلفة، وتجلت اهتماماته في كتابه الشهير 'دراسات في علم اللّغة' المنجز عام 1969م، ولقد اهتم بالتأصيل للنظرية اللّسانيّة الحديثة من التراث الغوي العربي جازما وواصفا بأنّ ما أتى به بن الجني والسكاكي يتطابق مع ما أتى به 'فيرث' في نظريّته السياقيّة ونحصر هنا أهم النقاط التي تم التوصل إليها في أعماله:
1-قام بدراسة وصفيّة تحليلية لأعمال بن الجني والسكاكي، واستنتج أنّ كلاّ منهما وُفِقَ لإدراك العلاقات النسقية بين مستويات اللّغة المختلفة.
2-دعا إلى دراسة اللّغة العربيّة وفق مناهج متعددة، وليس بالضرورة التقيد بمنهج واحد.
ه-عبد الرّحمان أيوب وأعماله اللّغويّة: لقد كان لهذا اللّغوي توجها دراسيا ظاهرا في إتباع المناهج الغربيّة خاصة منها الوصفي، فقد قام بدراسة وصفية نقدية خصّ بها النحو العربي في كتابه الصادر 1957م بعنوان: 'دراسات نقدية في النحو العربي' أراد من خلالها التوطيد للنظريات اللّسانيّة الحديثة، وتكمن أهدافه فيما يلي:
1-رأى بأنّ المَنْهَج الوصفي ملائما للنّحو العربي؛ لأنّ هذا الأخير في نظره يقوم على الاستنباطات العقلية القياسية في حين أنّ اللّسانيّات الوصفيّة تختار الأمثل، والأنسب.
2-كان منصبا على دراسة كتاب 'مناهج اللّسانيّات البنيويّة' لمؤلفه 'زليج هاريس'، وتأثّر بما يراه هاريس الذي يدعو إلى الدّراسة الوصفيّة التي تقوم على مبدأ التحليل الشّكلي.
3-أكد عبد الرّحمان أيوب بأنّ العرب تأثّروا بـ'فلسفة المنطق'، واحتج بذلك في تقسيمهم الثنائي للجملة على أساس المسند والمسند إليه، ورأى أن هذا كان متجليا في تعريف 'أرسطو' للجملة.
يمكن الجزم بأنّ المدارس اللّسانيّة كلها كان لها أثرا واسعا في البقاع العربيّة إلا أن اللّسانيّات البنيويّة كانت أشد وطئا وتأثيرا في الدّراسات اللّغويّة العربيّة الحديثة؛ ودليل ذلك تلك الأعمال التي أوردناها، ولا ربما لا يخلوا بلدا من البلاد العربيّة إلا وراح مثقفيه اللّغويين إلى دراسة هذا المَنْهَج والتمثيل له، واستنطاق قواعده، ومقاربتها بمكنونات التراث اللّغوي العربي محاولين في ذلك رفع الغموض على تراث اللّغة العربيّة، والاحتجاج على قدرتها في التلقي والاستفادة من كل ما تقدّمه الحضارة الإنسانية في عالم اللّغويات، وعلى هذه الشاكلة كانت الوصفيّة؛ فتعالى صوتها مثل البنيويّة، فاقتنع الكثير من رواد اللّغة المشاهير على الأخذ بإجراءاتها، والعمل بها ورأوا ذلك مناسبا للدّراسات العربيّة في زمن الحضارة اللّغويّة.
وعلى غرار البنيويّة والوصفيّة لم تخلوا الدّراسات اللّغويّة العربيّة من إرهاصات علميّة أخرى فقد تقدمت التّوليديّة والتحولية، واللّسانيّات التّداوليّة، والوظيفية إلى ساحة اللّسانيّات العربيّة بشرف، ونال منها العرب قسطا هاما من الدّراسات، والتطبيقات، ونوضح هذا بنماذج فيما يلي:
-اللّسانيّات التّداوليّة والوظيفية: نجد (أحمد المتوكل)؛ وهو باحث لغوي مغربي مولعا بإتباع هذا الفرع اللّساني المعاصر؛ فراح يدرسه مادة ومنهجا متبعا في ذلك خطوات هذا المولد اللّساني المعاصر بكل دقة وترتيب؛ محاولا جاهدا أن يصب خصائص هذا الاتجاه المعرفي الجديد على التراث اللّساني العربي النفيس. فهبّ يؤسس للوظيفية والتّداوليّة العربيّة وفق المنوال الغربي مستشهدا في ذلك بأمثلة عربيّة تتناسب والرؤى الغربيّة الحديثةّ ونتزود هنا بقوله: "وفي مجال التنظير اللّساني يستهدف اللّساني وضع نموذجا للمعرفة اللّغويّة –بها -يسعى المنظّرون في إقامة نموذج لقدرة مستعملي اللّغة الطبيعية على التواصل بواسطة اللّغة– فهو – نموذج يمثل للملكات اللّغويّة، وغير اللّغويّة المساهمة في عملية التواصل إنتاجا وفهما" (11)، ويمكننا أن نفصل وجهته من خلال استحضار أعماله وفق ما يلي:
قبل الحديث والتطرق إلى أعمال أحمد المتوكل نقف هنا عند إرهاصات اللّسانيّات التّداوليّة، وعموم خصائصها ومفاهيمها:
مصطلح التّداوليّة: يقابله في العربيّة علم الخطاب، أو التخاطب وهو "اسم مشتق من مادة (خ.ط.ب)" (12)، ولفظ 'خطب' في قاموس لسان العرب تعني "الخطاب والمخاطبة: -أي- مراجعة الكلام، وقد خاطبه بالكلام مخاطبة وخطابا، وهما يتخاطبان، والمخاطبة صيغة مبالغة تفيد الاشتراك، والمشاركة في فعل ذي شأن" (13). وورد معنى الخطاب عند الزمخشري في تفسيره للفظة 'فصل الخطاب' الواردة في {القرآن الكريم}، بقوله: هو"القصد الذي ليس فيه اختصار مخل، ولا إشباع ممل" (14). أما التّداوليّة كعلم لساني غربي؛ فهو يعلم يدرس كيفية استعمال اللّغة داخل حيز التواصل اللّغوي؛ ولا ربّما التعريف واضحا عند روادها على أمثال موريس الذي ينسب له أقدم تعريف للتداولية بحيث يعتبرها جزء من السمياء تعالج العلاقات بين الإشارات ومستعمليها، وقد ذهب كل من 'آن ماري ديبر'، وفراس واز ريكاناتي' و' فرانسيس جاك' إلى اعتبار التّداوليّة علم يقف عند ضوابط استعمال اللّغة في حيز تواصلي اجتماعي، وجذور هذا العلم تعود إلى فلاسفة اللّغة كل من 'بيرس'، و'كارناب'، و'موريس' الذين أرادوا البعث باللّسانيّات الحديثة في قالب جديد هدفه إنشاء عملية تواصل نموذجية، والتّداوليّة تمثل "حلقة وصل هامة بين حقول معرفيّة عديدة منها الفلسفة التحليلية..وعلم النفس المعرفي..وعلوم اللّغة" (15).
-أحمد متوكل وتأثره بالمنحى اللّساني التداولي: لقد نقل أحمد المتوكل النموذج التحليلي لوظائف اللّغة التّداوليّة دون أي 'حذف'، أو 'تحوير'، أو 'تضمين'، وهذا دليل قطعي على تأثره البالغ بمباحث (اللّسانيّات التّداوليّة والوظيفية)، فقط اكتفى بترجمة العناصر التحليلية إلى ما يقابلها عربيا وفق استعمال أمثلة من اللّغة العربيّة كنماذج للتحليل وتجلت أعماله مباشرة في كتبه التالية: (اللّسانيّات الوظيفيّة، قضايا اللّغة العربيّة في اللّسانيّات الوظيفيّة، والتركيبات الوظيفيّة قضايا ومقاربات)، ونقدّم هنا الصوّر التعريفيّة للمفاهيم التّداوليّة كما قدّمه أحمد المتوكل.
-تصنيفه للوظائف التّداوليّة:
أ-الوظائف الداخلية:
1-البؤرة: وصفها أحمد المتوكل بأنّها المكوّن الذي تشير (دلالته) إلى المعنى الهام في (الجملة المستعملة) مثلا نأخذ جملة 'دخل الأستاذ مسرعا يلقي الدرس':
فالبؤرة هنا تتحدد بحسب حركة المقابل من المشاهد والمستمع؛ أي إن كان التلاميذ أهمهم أمر دخول الأستاذ؛ فالبؤرة تحدد في الجملة كما يلي: 'دخل الأستاذ مسرعا يلقي الدرس'، وإن كان التلاميذ أهمهم سرعة دخول الأستاذ، فتصبح البؤرة معيّنة في لفظ مسرعا أي 'دخل الأستاذ مسرعا يلقي الدرس'، وإن كان إلقاء الدرس هو أهم من دخول الأستاذ وسرعة دخوله، فتكون البؤرة في كلمة الدرس أي 'دخل الأستاذ مسرعا يلقي الدرس'؛ بمعنى أن البؤرة أو 'المفيد' من الكلام، والمهم يقاس بالبؤرة 'المقابلة' لدى المستمع والمشاهد.
والبؤرة تتفرع إلى نوعين نوع يسمّى بالبؤرة الجديد، وهو ما لا يتضمنه ذهن السامع أو المشاهد من فكرة سابقة عما يتلقاه في عملية التخاطب، ونوع يسمّى بؤرة مقابلة، وهذا النّوع يكون معناه غير مفاجئ لدى المتلقي باعتبار أسبقية الوجود أي الإدراك.
2-المحور: وهو العنصر الدال على المقصود به من عملية الكلام أي 'المحدث والمخبر عنه' نمثل لذلك بالجمل الآتية ضمن عملية حواريّة:
يقول: 'فريد': 'يا خالد أجاء أحمد' يرد 'خالد' بقوله: 'لا أدري يا فريد أظنه لم يأتي بعد' تضمن هذا الحوار ثلاثة أسماء: فريد، خالد، أحمد؛ فالعبارة الأولى استهدفت شخص 'أحمد'؛ وهي بصيغة السؤال والعبارة الثانية استهدفت شخص 'أحمد'؛ وإن دلّ عنها مضمنون العبارة فقط؛ وهي بصيغة الإجابة، والنتيجة هنا أن المحور الذي نشأت عليه العملية الكلامية هو كلمة 'أحمد'.
ب-الوظائف الخارجيّة:
1-المبتدأ: في النّحو العربي المبتدأ هو الذي يبتدئ به الكلام، ويستثنى من ذلك الفعل والحرف وظرفي الزّمان والمكان لأنّهما شبه جملة، أما في التداوليات فالمبتدأ كما وصفه المتوكل وظيفته ترتيب المكوّنات داخل الجملة أيّن كان موقعه؛ وهو برأيه الرابط بين تراكيبها مثلا:
-'جاء عمرُ المدرسةَ'، و'عمرُ جاء المدرسةَ'، و'المدرسةَ جاء عمرُ' فلنحظ أن كلمة 'عمر' في العبارة الأولى فاعل، وفي العبارة الثانية مبتدأ، والعبارة الثالثة فاعل تقدّمه مفعوله، ففي المفهوم التداولي المبتدأ ما وقع معناه في ذهن السامع مُستدركًا قبل غيره لأنّه هو المقصود في نص الكلام؛ لأنّ مجاله خارج تركيب الجملة بحيث يقتصر دوره في وظيفة معنويّة هدفها الربط التركيبي؛ فأحمد المتوكّل يرى بما تراه التّداوليّة من أنّ المبتدأ لا يمثّل وظيفة داخلية.
2-الذيل: يفسره أحمد المتوكل بالذي يتبع البنية الحملية، (فيرتب)، أو(يصّنف) ووظيفته خارجية مثله مثل الفضلى في اللّغة العربيّة.
3-المنادى: أضاف 'أحمد المتوكل' في انجازاته مسمى جديدا في الدّراسات التّداوليّة يسميه المكوّن المنادى باعتبار أن اللّغة العربيّة لها خصوصيتها في التحليل التداولي.
لقد كان الهدف من دراستنا هنا هو استنباط أثر الفكر اللّساني العربي في التّراث العربي وتجميع مظاهره الوجودية المختلفة التي منحت الواقع اللساني صورة معرفية ومنهجية مميزة في عصر لغوي تسوده روح المبادرة والتفوق ويفرض عليه التقدم العلمي في كافة العلوم صبغة تطورية تسابقية تسعى كل لغة من اللغات أن تظفر به تمليه حواصل التقنية والمعارف الدقيقة والاكتشافات الإبداعية الفعالة في جميع الحقول الدراسية المختلفة ولا ضير أنّ اللّسانيّات العربيّة قد استجابة لهذه الركبة النوعية ضمن دائرة التنافس وإثبات الوجود بل إن رواد اللّسانيّة العربيّة لم يستثنوا من هذا الحراك القائم أي مجال معرفي في عالم علوم اللسان العربي وفنون الأدب العربي، فظهرت كما أسلفنا مناهج عدّة كان أهمها المَنْهَج الوصفي، والبنيوي ثمّ تلاه النحو التوليدي، والتحويلي، واللّسانيّات الوظيفية، والتّداوليّة. بحيث حرص أصحابه على نقل التجارب الناجحة من الفكر اللساني الغربي وتقديمها في قوالب علمية استنتاجية بما يتوافق مع مقدرات اللغة العربية وخصوصياتها التكوينية. والحقيقة أنّ المجال لا يسعنا لحصر كل التجارب التي تبين إرهاصات النظريات الغربية في عالم المعارف اللسانية العربية. ولا يمكننا أيضا التوسّع في شرح كل ما قدمناه عن هذه النماذج وإنّما كان ما أسلفناه صورة توضيحية رسمنا من خلالها أهم النظريات والأفكار التي انبثقت عن الفكر الغربي فقدمنا عن ذلك نماذج توضيحية للبيان والاستشهاد. والثابت أنّ الفكر اللساني الغربي امتد غلى التراث العربي عبر مفكري اللسانيات العربية الحديثة والمعاصرة وفق أداة تحافظ على روابط الأصالة وبوادر التقدم.
الهوامش والإحالات:
(1)-Geoffrey Sampson, schools of linguistics, London Hutchinson and co, 1980, p17.
(2)-المرجع نفسه، ص17.
(3)-نواري سعودي أبو زيد، محاضرات في اللّسانيّات التطبيقية، بيت الحكمة للنشر والتوزيع، ط1، العلمة-سطيف-الجزائر، 2012م، ص9.
(4)-روبير مارتان، مدخل لفهم اللّسانيّات، ترجمة عبد القادر المهيري، المنظمة العربيّة للترجمة،ط1، بيروت،2007م، ص89..
(5)-H.Osthoff and k, brugmann, P, XII in G, Sampson, Op, Cit, 1878, p27.
(6)-Georges Mounin, la linguistique du XXe siècle, PUF,1972, P200.
(7)-عبد الجليل مرتاض، مفاهيم لسانيّة، دار الغرب للنشر والتوزيع، وهران-الجزائر2005م، ص55.
(-أحمد مومن، اللّسانيّات النشأة والتطوّر، ديوان المطبوعات الجامعية، ط 4، الجزائر2008م، ص82.
(9)-محمود السعران، علم اللّغة، دار الفكر العربي، ط2، القاهرة، ص317.
(10)-تمّام حسّان، اللّغة العربيّة معناها ومبناها، دار الثقافة، الدّار البيضاء المغرب، 1994م، ص7.
(11)-أحمد المتوكل، التركيبات الوظيفية قضايا ومقاربات، مكتبة دار الإيمان الرباط، ط1، 2005م، ص49.
(12)-عبد القادر شرشار، تحليل الخطاب السردي وقضايا النص، دار القدس العربي، ط1، وهران2009م، ص15. 2
(13)-ابن منظور ، لسان العرب، مراجعة يوسف خياط، دار لسان العرب، ج2، بيروت1988م، ص856.
(14)-الزمخشري، الكشاف عن حقائق التنزيل، تحقيق محمد مرسي عامر، دار المصحف، القاهرة-مصر، د-ت، ج56، ص125.
(15)-مسعود صحراوي، التّداوليّة عند العلماء العرب، دار التنوير للنشر والتوزيع، ط1، الجزائر2008م، ص25.
مواضيع مماثلة
» موقف المحدثين من إسقاط الدّرس اللّساني الحديث على النحو العربي. الأستاذ: الخثير داودي.
» تجلي الإبداع في التجربة الشعرية الحديثة
» مظاهر التقليد والتجديد في شعر ابن خفاجة . أ. محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـة
» اللغة العربية والهوية
» المقال السابع: كتاب " العربية" ليوهان فك - عرض وتوجيه-
» تجلي الإبداع في التجربة الشعرية الحديثة
» مظاهر التقليد والتجديد في شعر ابن خفاجة . أ. محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـة
» اللغة العربية والهوية
» المقال السابع: كتاب " العربية" ليوهان فك - عرض وتوجيه-
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى