الجهود اللغوية للإمام الشـريف التلمساني (ت771هـ)
صفحة 1 من اصل 1
الجهود اللغوية للإمام الشـريف التلمساني (ت771هـ)
الجهود اللغوية للإمام الشـريف التلمساني (ت771هـ)
د. إدريس بن خويا
جامعة أدرار
د. إدريس بن خويا
جامعة أدرار
ملخص:
يعد الإمام الشريف التلمساني المالكي من أعلام القرن الثامن الهجري، ومن أعلام التراث الجزائري، وهو من العلماء الذين خدموا المذهب المالكي وأسهموا في تطوره والحفاظ عليه، ومن ثمة العمل به.
ويعد –كذلك- كتابه "مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول"، وكتابه "مثارات الغلط في الأدلة" من أنفس كتب أعلام الجزائر في علم أصول الفقه؛ التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية، وقد جمع الشريف التلمساني من خلال كتابيه بين طريقة الشافعية وطريقة الحنفية على الأصول، والأدلة الكلية على طريقة الفقهاء، لا على طريقة المتكلمين، شاملاً لأدلة المالكية؛ خصوصا في مواطن الخلاف لأجل توظيف القضايا اللغوية لأجل استنباط الحكم الشرعي. كما أنه يعمد لذكر بعض الشروح الفقهية المخرجة على القاعدة، والاستشهاد بكثير من أشعار العرب. واعترافاً بقوة تأصيل علماء الأصول، وحسن تعريفاتهم، بعيداً عن الجدل، وتشعب الخلاف؛ لأنه العلم الذي يحتاج إليه الفقيه والمتفقه، والمحدّث والمفسر، ولا يستغني عنه ذوو النظر، ولا ينكر فضله أهل الأثر.
وعلى غرار ذلك، فأننا سنحاول الوقوف من خلال هذه المداخلة على جهود التلمساني اللغوية، محاولين في ذلك مقارباتها مع الدرس اللساني الحديث من حين إلى حين
وأما الإشكال المطروح في هذه المداخلة فيتمثل في معرفة المنهج اللغوي لهذه الشخصية؟ وما مدى توفيقه في تخريجاته اللغوية، وتوظيفها من أجل الاستنباط الأحكام الشرعية؛ سواء أكانت من النص القرآني أم السني؟.
----------
الشريف التلمساني في سطور:
هو محمد بن أحمد بن علي الإدريسي الحسني أبو عبد الله العَلْويني؛ نسبة إلى قرية عَلْوين من أعلام تلمسان، ويعرف بالشريف التلمساني صاحب الفروع والأصول، وفارس المعقول والمنقول، علم من أعلام المالكية، انتهت إليه إمامتهم بالمغرب.
وهو أحد راسخي العلماء، وآخر الأئمة المجتهدين العظماء؛ أبو عبد الله سدي محمد بن بن أحمد المعروف: الشريف التلمساني، إمام أهل المغرب قاطبة، وأعلم أهل عصره بإجماع، وأحد رجال الكمال علما وذاتا وخَلقا وخُلقا.
كان مولده سنة 710هـ، ونشأ بتلمسان آخذاً العلم من مشايخها، واختص بأولاد الإمام، وتفقه عليهما في الفقه والأصول وعلم الكلام. ثم لزم الشيخ أبا عبد الله الأبلي، وتضلّع من معارفه، فاستبحر وتفجرت العلوم من مداركه.
ارتحل إلى تونس سنة741هـ، ولقي بالشيخ القاضي أبا عبد الله بن عبد السلام، وحضر مجلسه، وأفاد منه واستعظم رؤيته في العلم، وكان ابن عبد السلام يصغي إليه ويؤثر محله ويعرف حقّه. ثم توجه إلى تلمسان وكُلِّف وقتها بتدريس العلم، وثبته في الصدور والنفوس، فملأ المغرب معارف وتلاميذ ،ثم رحل مع السلطان أبي عنان إلى فاس.
وعندما ملك أبو حمو موسى بن يوسف بن عبد الرحمان تلمسان، استدعى الشريف التلمساني من فاس، فانطلق أبو عبد الله إلى تلمسان فقربه السلطان أبو حمو إليه، وأصهر له في ابنته، فزوّجها إياه، وبنى له مدرسة أقام يدرّس فيها إلى أن وفته المنية سنة 771هـ .
*علومه:
-محدث بارع في علوم الحديث، متنه وسنده، صحيحه وسقيمه.
-فقيه مجتهد في الأصول والفروع، ثبتا وتحصيلا، واسع المعرفة بالأحكام ووجوه الاستنباط منها.
-خبير بالعلوم العربية وآدابها وقواعدها نحوا وصرفا وبلاغة وبيانا، قوي في غريب اللغة والشعر والأمثال.
-كثير المعرفة بسير الأعلام من الفقهاء والصالحين، وبمذاهب الصوفية وإشاراتهم.
-قمة في العلوم العقلية كلها من منطق وحساب وفرائض وتنجيم وهندسة وغيرها.
كل ذلك يؤكد على عظمة شخصيته الأدبية والعلمية الفذة، ويشهد له بالإمامة والاجتهاد ورقي القدر والمنصب في عصره بين فطاحل العلماء العاملين المبرّزين .
*مؤلفاته:
ألّف الشريف التلمساني العديد من الكتب، منها:
- شرح جمل الخونجي في العربية.
- كتاب في القضاء والقدر.
- مثارات الغلط في الأدلة.
- مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول.
وكان لسان الدين الخطيب كلما ألفّ كتابا بعثه إليه وعرضه عليه .
مضمون الكتابين:
هما من أنفس كتب أعلام الجزائر في علم أصول الفقه ؛ التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية، فقد حرّر الشريف التلمساني كتابه جامعا فيه بين طريقة الشافعية وطريقة الحنفية على الأصول، والأدلة الكلية على طريقة الفقهاء ، لا على طريقة المتكلمين ، شاملاً لأدلة المالكية؛ اعترافاً بقوة تأصيلهم وحسن تعريفهم، بعيداً عن الجدل، وتشعب الخلاف؛ لأنه العلم الذي يحتاج إليه الفقيه والمتفقه، والمحدث والمفسر، ولا يستغني عنه ذوو النظر، ولا ينكر فضله أهل الأثر.
وأما منهجه في الكتابين فنجده قد جمع بين الطريقتين؛ أي بين الجمهور (الشافعية)، والفقهاء (الأحناف)، وهو منهج يقوم على ذكر القواعد الأصولية وقيام الأدلة عليها، ثم المقارنة بين ما قاله المتكلمون وما قاله الأحناف، ثم الترجيه بينهما. وفي كثير من الأحيان نجده يخرج في نهاية الخلاف بآراء للسادة المالكية، ويجعلها الأساس الحق الذي ينبني عليه الحكم الشرعي في أحايين أخرى. كما أنه يعمد لذكر بعض الشروح الفقهية المخرجة على القاعدة، والاستشهاد بكثير من أشعار العرب.
ونجد ممن ألفوا ضمن هذا النهج –الجمع بين الفقهاء والمتكلمين- من أعلام التراث العربي: مظفر الدين بن أحمد الساعاتي (ت694هـ) من خلال كتابه "بديع النظام الجامع بين أصول البزدوي والإحكام"، وتاج الدين السبكي (ت771هـ) من خلال كتابه "جمع الجوامع"، وأحمد بن عبد الواحد (ت861هـ) من خلال كتابه "التحرير" الذي قام بشرحه تلميذه محمد بن أمير الحاج الحلبي (ت879هـ) من خلال كتابه المسمى بـ"التقرير والتحبير".
ابتدأ كتابه المفتاح بمقدمة ركزّ من خلالها على أهمية العلوم، لاسيما علم الشريعة؛ إذ" هو في سماء المعلومات أسطع بدراً، وأهله من بين أولي الدرجات أرفع قدراً. بجنة رعايته يُتحصن يوم الفزع الأكبر من العذاب الأليم، وبنور هدايته يُستضاء في ظُلَم الحشر إلى جنات النعيم، فلقد فاز في السعادة من أحيى به رسما دائرا، وحاز مع المسلمين فيه قسما وافرا".
واشتمل هذا الكتاب على أربعة أبواب انطلقت بدورها من قسم واحد، حسب التقسيم الذي أعدّه التلمساني بنفسه، وهو في قوله: "اعلم أن ما يتمسّك به المستدل على حكم من الأحكام في المسائل الفقهية منحصر في جنسين: دليل بنفسه، ومتضمن للدليل؛ الجنس الأول الدليل بنفسه: وهو يتنوع نوعين؛ أصل بنفسه، ولازم عن أصل. النوع الأول: أصل بنفسه وهو صنفان؛ أصل نقلي، وأصل عقلي. الصنف الأول وهو الصنف النقلي..." . وهذا الأخير هو المعول عليه وأساس الدراسة في هذا الكتاب، حيث يقول: "اعلم أن الأصل النقلي يشترط فيه أن يكون صحيح السند إلى الشارع صلوات الله عليه، متضح الدلالة على الحكم المطلوب، مستمر الأحكام، راجحا على كل ما يعارضه، فهذه أربعة شروط ينبغي أن نعقد في كل شرط بابا" .
كما أنه تطرق في الصفحة الأولى من كتابه مثارات الغلط في الأدلة على قضية جوهرية لم يغفلها القدامى –رحمة الله عليهم-، ألا وهي العلاقة الجوهرية بين اللفظ والمعنى، أو بالأحرى بين الدال والمدلول، مبيّنا أهمية كل طرف، وهو ما نراه في تأكيده على أن المغالطة في اللفظ تؤدي حتما إلى المغالطة في المعنى.
*المغالطة في اللفظ والمعنى /إفرادا وتركيبا:
نرجع إلى إجابته عن العلاقة القائمة بين الدال والمدلول، وإصراره على أن ضبابية المدلول هي نتيجة لعدم صدقية الدال، ولعدم اتضاح صورته السمعية، حيث يقول:"أما من جهة اللفظ فاعلم –وفقك الله- أن اللفظ إذا طابق المعنى مطابقة تامة بحيث لا يحتمل اللفظ في الدلالة غير المعنى المقصود لم يقع غلط بسبب اللفظ البتة.وإذا ثبت أنه لا بد من احتمال في اللفظ، فذلك الاحتمال إما أن يكون في اللفظ بعد تحقق كونه مفردا أو بعد تحقق كونه مركبا، أو يكون لدورانه تردده بين الإفراد والتركيب" ..
وأرجع أن الأغلاط الواقعة في اللفظ إلى تدخل العوامل النحوية والصرفية؛ كالاختلاف الحاصل في لام التعريف (العهد والجنس)، وياء التصغير في الدلالة على التحقير والتعظيم، وهذا اشتراك عدّه راجع من جهة الأمور الخارجية اللاحقة للفظ؛ وهي ولواحق نطقية حسب رأيه.
وبالإضافة إلى اللواحق النطقية نجده يشير إلى عامل اللواحق الخطية؛ وهي الكتابة التي بدورها راجعة إلى النقط والتشكيل ..
*دلالة الحذف:
وهي مسالة نحوية دلالية بلا منازع ، وأنها راجعة إلى تقدير المتكلم كمثل قوله تعالى: "ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" ؛ وتقدير المحذوف عند التلمساني: لا تقربوا مواضع الصلاة ؛ أي أن رأي التلمساني في قضية تقديره للمحذوفات هو نتيجة تأكيده على أهمية التخاطب الحاصل بين المتكلم والمستمع، وعلى ضمان فهم الكلام بالنسبة المستمع بالدرجة الأولى، وأن هذا الرأي نجده لا يخرج عن الإطار الذي رسمه الغربيون في تأكيدهم على جوهر نظرية قصد الاتصال التي يمثلها كلّ من أوستن، وجرايس و فيتجنشتين Latter Wittgenstein .
وأن قضية الحذف في القرآن تدخل ضمن ما يسمى بجوانب الإعجاز في نصه، وجماليات تعبيره، وسر فصاحته، حيث يقول ابن القيم: » وتدبَّر هذه الطريقة في القرآن، وذكره للأهم المقصود، وحِذفه لغيره، يُطْلِعْكَ على باب من أبواب إعجازه، وكمال فصاحته « .
وإذا كان الحذف واقعا في الكلام الفصيح، فهو حادث لدلالة المذكور على المحذوف، حتى لا يكون ذلك الحذف شائعا ولا عشوائيا، وبالتالي يفقد جماليته في التعبير. وأن القرآن قد برئ من مثل هذا النوع من الحذف الذي لم يكن لضرورة ولا لدلالة، بل إن كل حذف في القرآن إلاّ ونجده في موضعه المناسب، وخير دليل نقدّمه هو ما وقف عنده ابن القيم في تلك النماذج النصية السابقة، حيث يقول في هذا الشأن: » وهذه طريقة القرآن، بل وكل كلام فصيح: أن يذكر الشيء في موضع ثم يحذفه في موضع آخر، لدلالة المذكور على المحذوف. وأكثر ما تجده مذكورا وحذفه قليل. وإما أن يحذف حذفاً مطّرداً ولم يذكره في موضع واحد، ولا في اللفظ ما يدل عليه، فهذا لا يقع في القرآن « .
وأنه خوف للإطناب أو للتكرار، وطلبا للاختصار يجوز الحذف عند علماء العربية، حيث نجد أن علماء العربية قد صرحوا : » بأن الشيء إنما يجوز حذفه إذا كان الموضع الذي ادّعى فيه حذفه قد استعمل فيه ثبوته أكثر من حذفه، فلا بد أن يكون موضع ادّعاء الحذف عندهم صالحاً للثبوت. ويكون الثبوت مع ذلك أكثر من الحذف حتى إذا جاء ذلك محذوفاً في موضع، علم بكثرة ذكره في نظائره أنه قد أزيل من هذا الموضع، فحمل عليه. فهذا شأن من يقصد البيان والدلالة « ؛ وهذا ما يدخل ضمن ما يسمى بجوازية الحذف في الموضع الذي يستحقه، لأن من ضروب الحذف ما يمسى بالاختصار في الكلام، وكل من يقصد الحذف ويعمد إليه إنما هو يبحث عن مقصدية ووضوح دلالات التراكيب الخاضعة إلى ظاهرة الحذف.
*دلالة حرف "الباء" على التأكيد:
يرى التلمساني أن الباء تفيد التأكيد عند المالكية، ووجوب التعميم في مثل قوله تعالى :"فامسحوا برؤوسكم" ، وذلك بقوله:"والجواب عند أصحابنا أنها للتأكيد، لنه نقل عن العرب زيادتها كثيرا للتأكيد، ...قوله تعالى:"وهزي إليك بجزع النخلة" ؛ أي جذع النخلة" ، وهذا دلالة على إفادة الباء معنى آخر على الجر، وهو التعميم والتأكيد.
*المشترك اللفظي:
يكاد يجمع الأصوليون على أن اللفظ الذي له أكثر من معنى يسمى بالمشترك اللفظي، وهو ما أشار إليه الغزالي في حديثه عن الألفاظ المتعددة بقوله: » وأما المشتركة فهي الأسامي التي تنطبق على مسميات مختلفة لا تشترك في الحد والحقيقة البتة؛ كاسم العين للعضو الباصر، وللميزان، وللموضع الذي تفجر منه الماء وهي العين الفوارة...فنقول: الاسم المشترك قد يدل على المختلفين كما ذكرنا « . ويقول عنه الرازي: » اللفظ الموضوع لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعاً أولا من حيث هما كذلك « ، وهو التعريف الذي اختاره الشوكاني بقوله: »اللفظة الموضوعة لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعاً أولا « .
وأما عند اللغويين المحدثين فهو ما تحدت صورة لفظه، واختلف معناه ، أو هو» أن تتعدد المعاني للفظ الواحد « .
ومن خلال ذلك يتضح أن هذه التعاريف تجمع على أن المشترك اللفظي هو دلالة اللفظ الواحد على معنيين مختلفين غير ضدين فأكثر، دلالة حقيقية على السواء، ليس بينهما علاقة. وبهذا يخرج المجاز من المشترك، كما تخرج الأغراض البلاغية للأساليب الإنشائية، وتخرج -أيضا- بعض الأدوات التي تستعمل في غير معناها الحقيقي، وتكون على سبيل المجاز في هذا الاستعمال، وربما الخلط الذي وقع دفع بعض من كتبوا في المشترك أن يخلطوا بينه وبين الألوان المجازية ، فهذا عن مفهـوم المشترك.
د-إطلاق المشترك على معنييه:
وهو من الأمور التي اختلف فيها العلماء حول جواز حمل اللفظ المشترك على معنييه، أو عدم جوازه إذا تجرد من القرائن؟، فإذا اقترنت به قرينة وجب إعماله في واحد معين تعيّن حمله عليه ، وذلك أن: » المشترك إذا اقترن به قرائنُ تُرجِّحُ أحدَ معانيه، وجب الحملُ على الراجح « ، ولكن إذا كان متجرداً عن القرائن فإنه لايجوز حمل المشترك على كل معانيه في إطلاق واحد، خلافاً لمن جوّز ذلك، وأنه ردّ ذلك إلى أمرين: » أحدها: أن الاشتراك خلاف الأصل، بل لا يعلم أنه وقع في اللغة من واضع واحد...الثاني: أن الأكثرين لا يجوِّزون استعمال اللفظ المشترك في معنييه لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز « .
ومن أهم الخلافات الدائرة عند الأصوليين في هذا النوع وقوفهم على لفظة "القرء" في النص القرآني في قوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" . ومنهم ابن القيم الحنفي الذي اعتبر اللفظة دلالة على الحيض، لا على الطهر، وهي قضية ناقشها نقاشا موسعا مستدلا بالآراء الخلافية الواقعة حول هذا اللفظ، لآراء من علماء اللغة، وكذا لعلماء أصول الفقه، مبتدئاً بأقوال الصحابة -رضوان الله عليهم-، وهو ما نجده في كتابه زاد المعاد .
وأما صاحبنا التلمساني المالكي فنراه يرجع بدلالة اللفظ إلى الطهر لا الحيض، رادا على من يزعم عكس ذلك، حيث يقول:" والقرء مشترك بين الطهر والحيض لغة، لكن الأولى حمل الآية على الأطهار، لأنه محل الطلاق، فينبغي أن يحصل التربص المأمور به منهن عقب الطلاق بدارا منهن إلى المأمور به...وأما قولكم: زمان الحيض اولى باسم القرء، لأنه زمان اجتماع الدم فباطل، بل زمان الطهر أولى به؛ لأنه في الحقيقة هو زمان اجتماع الدم في الرحم على أن يكثر، فيندفع فيخرج" .
ومما يفهم من الأدلة المقدمة هو أن اللفظ لا بد له من أن يحمل على معناه الأصلي، وذلك لما يقول التلمساني: "وإذا تساوى هذان الاحتمالان نقلا واعتبارا، كفانا أدنى مرجح، في ترجيح أحد المعنيين" .
*جهوده في نظرية السياق:
يحدثنا التلمساني في هذا الموضع عن ترجيح أحد الاحتمالين نتيجة لتدخل القرائن بمختلف أنواعها؛ وهي إما لفظية، وإما سياقية، وإما خارجية.
وقبل الحديث عن هذه القرائن حري بنا معرفة دلالة السياق، وكيفية التماسها. فالشوكاني أجابنا إجابة كافية شافية في تمييزه بين دلالة السياق ودلالة الأسباب قائلاً:" والحق أن دلالة السياق إن قامت مقام القرائن القوية المقتضية لتعيين المراد كان المخصِّص هو ما اشتملت عليه من ذلك، وإن لم يكن للسياق بهذه المنزلة ولا أفاد هذا المفاد فليس بمخصِّص" .
ومن خلال رأي الشوكاني في تحديده لدلالة السياق نجده بذلك قد أومأ على جملة من الحقائق يمكننا إجماله كالآتي :
أ-إنّ السياق ينقسم إلى سياق له دلالة، وسياق ليس له ذلك؛ فليس كل سياق دالا على مايراد التماس معناه من سياقه؛ أي لا يمكن الاستعانة بالسياق دائما.
ب-إن دلالة السياق لا تكمن في مجرد "مقال السياق"، بل فيما يشتمل عليه السياق من قرائن وإفادات. ولذلك اختلفت دلالة السياق من جملة لأخرى، ومن نظم لآخر. ووقعت أولاً ووسطاً وآخراً، تبعا لموضع القرينة، أو القرائن التي تفيد في تعيين المعنى الذي يُلتمس كشفه وإظهاره بمعونة السياق.
إن هذه الحقيقة التي أدركها الشوكاني نجدها مؤكدة عند تمام حسان الذي يرى أن السياق هو كالطريق لابد له من معالم توضّحه، ولا شَكَّ أنَّ مبان التقسيم وما تبدو فيه من صيغ صرفية وصور شكلية، وكذلك مباني التصريف مع ما تبدو به من لواصق مختلفة تقدّم قرائن مفيدة جدا في توضيح منحنيان هذا الطريق، ولكن السياق يظلُّ بحاجة ما سة إلى الكثير من القرائن الأخرى التي تتضح بها العلاقات العضوية في السياق بين الكلمات .
وبالتالي لا بد من أهمية الكشف عن القرائن لمعرفة المقصود من السياق والتماس الدلالات منه؛ لأنه على الرغم من أهمية النظم في الكشف عن الدلالات السياقية تظل الحاجة إلى قرائن أخرى قائمة؛ فمعرفة دلالة السياق هي متوقفة بدورها على معرفة القرائن التي تكتنفه، وبمعرفتها تصبح دلالة السياق واضحة جلية، بل العلاقة بين تلك القرائن هي الرابط الأساسي بين مناحي السياق، وجعلها كلاما واحد سيق لغرض معين، أو نتيجة أغراض معينة، حتى قيل في عقد الصلة بين القرينة والسياق: "ما القرينة إلاّ السياق" .
وقبل الخوض في أنواع القرينة التي ساقها التلمساني كان من الواجب حديثنا عن تحديد مفهوم القرينة أولاً؛ فهي لغة مأخوذة من مادة قرن يقرن قرنا، حيث يقول ابن منظور: "قرن الشيءَ بالشيء وقرنَه إليه يقرنه قرناً: شدَّه إليه...وقرن بين الحج والعمرة: جمع بينهما...وقارن الشيءُ الشيءَ مقارنةً وقراناً: اقترن به وصاحبه...وقرنتُ الشيءَ بالشيء وصلتُه...والقرينُ المصاحبُ...والقرينة الناقةُ تُشدُّ إلى أخرى".
وبذلك يعرفها الشريف الجرجاني بأنها: "أمر يشير إلى المطلوب" ، وعند التهانوي بأنها:"الأمر الدال على الشيء من غير الاستعمال فيه" .
أقسام القرينة عند التلمساني والعلماء الذي سبقوه:
لقد اختلف العلماء في تقسيمهم للقرائن، ومن هذه الاختلافات نجد:
أ-تقسيم الجويني القرينة إلى الحالية واللفظية قائلا: "فأما القرائن الحالية فكقول القائل: رأيت الناس، وأخذت فتوى العلماء، ونحن نعلم أن حاله لا يحتمل رؤية الناس أجمعين، ومراجعة جميع العلماء؛ فهذه القرينة وما في معناها تتضمن تخصيص الصيغة...فأما القرائن التي ليست حالية فهي تنقسم إلى الاستثناء والتخصيص" .
ب-تقسيم الغزالي إلى ثلاثة أنواع من القرائن: لفظية وعقلية وحالية، وذلك من خلال رأيه الذي يرى فيه أن القرينة إما لفظ مكشوف كقوله تعالى: ] وآتوا حقه يوم حصاده[ ؛ والحق هو العشر، وإما إحالة على دليل العقل كقوله تعالى: ] والسماوات مطويات بيمينه[ ، وإما قرائن أحوال من إشارات ورموز وحركات وسوابق ولواحق لا تدخل تحت الحصر، والتخمين يختص بدركها المشاهد لها فينقلها المشاهدون من الصحابة إلى التابعين بألفاظ صريحة .
ج-تقسيم فخر الدين الرازي للقرائن إلى حالية ومقالية؛ الأولى تشمل حال المتكلم من حيث الصدق والكذب، والهيئات المخصوصة القائمة به، وخصوص الواقعة التي ورد فيها الخطاب، بينما الثانية (المقالية) هي ما يذكره المتكلم في كلامه مما يدلّ على مراده .
د-بينما تقسيم التلمساني جاء واضح المعالم، فهو يرى القرائن في ثلاثة أقسام: لفظية وسياقية وخارجية، تظهر في الترسيمة الاتية:
د-1- القرينة اللفظية: والمراد دبها مبنى اللفظ، ومثَّلَ لها بقوله تعالى: ]والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء[ ؛ حيث إن القرء إذا جمع على قروء، فالمراد به الطهر لا الحيض؛ إذ الجمع قد يختلف باختلاف المعاني وإنْ كان اللفظ المفرد مشتركا في مثل "العود" الذي جُمع على "أعواد" وهو مشترك بين الخشبة - وجمعه إذ ذاك أعواد-، وبين آلة الغناء -وجمعه إذ ذاك عيدان-، وقس على ذلك. ثم يدعّم رأيه بما جاء به المالكية في التذكير والتأنيث والحذف فيقال ثلاثة أطهار، بينما الحيض مؤنثة فوجب حذف التاء من العدد المضاف إليها، فيقال ثلاث حيض. وبالتالي نجد سياق الآية " ثلاثة قروء" بالتاء دلالة على أنه أراد الأطهار.
إن التلمساني كعادته يضيف لنا آراء خلافية للأحناف في هذا الشأن بدليل قولهم إن للمعنى الواحد قد يكون له لفظان: أحدهما مذكر والآخر مؤنث؛ التأنيث فيه قد يكون لفظيا لا معنويا، وذلك في "جسد" و"جثة"؛ والمراد عندهم واحد. ثم يكمل القول: ثلاثة أجساد وثلاث جثث؛ فوجب حذف التاء في لفظ الحيضة في الجمع؛ لأنها مؤنثة. ووجب ذكر التاء في القرء في الجمع لأنه مذكر . وهذا التعليل ناقص إذا ما أردنا الاستدلال به من جراء توظيف القرائن اللفظية؛ لأن الجسد نفسه لا يراد به الجثة بالضرورة.
د-2-القرينة السياقية: والمراد بها ما يكتنف الشيء في سياقه –سباقا أو لحاقا- من دلالات، ومثل لها باستدلال الشافعي بقوله تعالى: ]وامرأةً مومنةً إِن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المومنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما [ ، فقوله ]خالصة لك [ دليل على اختصاص جواز عقد النكاح بلفظ الهبة بالنبي i بدليل السباق. ومثّل له أيضا برد الحنفية على الشافعي بطرف آخر من سياق الآية وهو السياق اللاحق، من خلال رأيهم أن الآية سيقت لبيان شرف النبي iوفضله على أمته، ونفي الحرج عنه. كما يدل على ذلك اللحاق من هذا السياق، ولا شك أن ذلك لا يحصل بإباحة لفظ له ومنعه من غيره؛ إذ ليس في ذلك شرف ولا رفع حرج، وإنما يحصل ذلك بإسقاط العوض عنه؛ وهو المهر . وهو ما أكده التلمساني نفسه: "فهذا السياق كلهه يدل على أن المراد بالخلوص: هو ملك البضع من غير مهر، لا اللفظ" .
ثم إن التلمساني بعد تعرضه للقرينة السياقية نجده يحاول إلحاق القرائن الحالية بها، في قوله: والقرائن الحالية قريبة من السياقية، وهي لا تنضبط" ، ولكن ذكرها من غير أن يجعلها قسما من أقسام القرائن مستقلا بنفسه.
ج-القرينة الخارجية: وهي حسب التلمساني "موافقة أحد المعنيين لدليل منفصل، من نص أو قياس أو عمل" . وهو النوع الجديد الذي أضافه التلمساني في هذه القرائن.
ج-1-موافقته للنص: وهو المثال الذي دافع عنه المالكية في المراد بالقرء الأطهار، من خلال قوله تعالى: ] ياأيها الذين آمنوا إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن[ ، فأمر بطلاقهن طلاقا يستعقب عدتهن، ولا تتراخى العدة عنه.
لكن التلمساني يرى أن الأحناف يرجحون احتمالهم استنادا لقرينة خارجية أيضا، في رأيهم قول المولى عز وجل: ] واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن[ ؛ فجعل الأشهر بدلاً عن الحيض لا عن الأطهار، فدل أن الحيض أصل في العدة. لكن الشريف يدافع عن رأيه ورأي أصحابه في قضية الاستدلال نتيجة موافقة النص في التيمم؛ وهو قوله تعالى: ] فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا[ ، والاستدلال من خلال سياق النص هو أن الماء هو الأصل، بينما الصعيد بدل منه.
ج-2-موافقة القياس: وهو خلاف جوهري دار حوله الحديث أكثر من مرة؛ ويتمثل في الحديث عن القرء واحتماليته للطهر والحيض، والمالكية والشافعية يقِّران وكعادتهما بأن القرء هو من الطهار، وحجتهم أن العدة لمَّا كانت مأمورا بها كانت من العبادات، والشأن فيالعبادة أن الحيض ينافيها، ولا تتأذى فيه فضلا عن أن تتأذى به، بدليل عدم صحة الصلاة والصيام والطواف مع الحيض، بخلاف الطهر. وبالتالي من خلال الاستدلال بالقياس يقتضي في العدة أنها تتأذى بالطهر لا بالحيض، وهو واجب موافقته على حمل القروء في الآية على الأطهار لا على الحيض. بينما نجد ترجيحا للحنفية بقياس آخر، غير الذي عرفناه سابقا عند المالكية والشافعية؛ حجتهم في ذلك أن القصد من العدة استبراء الرحم، والعلامة أو السمة الدالة على الرحم في العدة إنما على الحيض لا الطهر؛ بدليل أن الحامل والحائل يشتركان في الطهر، بينما الحيض في الغالب مختص بالحائل. ومنه وجب حمل القروء في الآية استنادا إلى القياس على الحيض لا على الطهر .
ج-3- موافقته لعمل الصحابة: وهو الخلاف القائم حول غسل الرجلين أو عدم الغسل في الوضوء والاكتفاء بمجرد المسح فقط؛ وذلك كاحتجاج العلماء على وجوب غسل الرجلين استنادا لقوله تعالى:] يَآأَيُّهَا الذِينَ ءّامَنُواْ إِذَا قُمْتُمُ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمُ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمُ إِلَى الكَعْبَيْنِ [ ؛ لأنه معطوف على اليدين والوجه بالفتح. بينما المعترضون يؤكدون على احتمالية الرأي الول، ولكن يضعون احتمالا آخر وهو العطف على الرأس استنادا لقول الشاعر:
مُعُاوِيَ إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ * فَلَسْنَا بِالجِبَالِ وِلاَ الحَدِيدَا
أما الجواب الثاني عند العلماء فمفاده أنه لم ينقل عن الصحابة والتابعين -رضوان الله عليهم- إلاّ الغسل، لا المسح .
ومن خلال ما سبق نجد تقسيم التلمساني للقرائن واضحا؛ اعتبار أن المقسم فيه كما يرى كريم الزنكي هو كون القرينة متعلقة بلفظ الشيء، أو بما هو في سياقه، أو بما هو خارج عنه، غير أن السياق الذي ألحق به الحال قد يتداخل الجانب الحالي منه مع القرينة الخارجية؛ إذ كل من القرينة الخارجية والحالية قرينة من خارج اللفظ إفرادا وتركيباً .
وبالتالي فإن القرائن حسب التلمساني هي ثلاثة أقسام: لفظية وسياقية وخارجية، وكل واحدة منها إلاّ ولها مجال للاستدلال أو لاستنباط الأحكام من النص القرآني أو السني؛ وهذا ما يدل دلالة واضحة على ما للسياق وقرائنه من أثر في الدلالة عند التلمساني، وهو بهذا يلتقي مع نظرية السياق في الدراسات اللغوية الحديثة التي تعد من أهم نتائج البحث الدلالي في العصر الحديث.
رأيه حول دلالتي الأمر والنهي:
وإذا ما حاولنا قراءة تلك المصطلحات الدلالية لوجدنا أن العالم الشريف التلمساني هو عالم دلالي شأنه شأن علماء التراث العربي، وبالخصوص كعلماء أصول الفقه الذين وقفوا على الدلالات محاولين في ذلك تصنيفها التصنيف العلمي الدقيق.
وإذا عدنا إلى الجهة الأولى التي وسمها بالمنطوق لا تضح أن هذه الدلالة من حيث المفهوم اللغوي هي من نَطَقَ النَاطِقُ ينطقُ نُطقاً: تكلم. والمَنطِق: الكلام. ويقال: قد أنطقه الله واسْتنطَقَه؛ أي كلَّمه وناطقه، وكتاب ناطِق بَيِّن .
وأما في اصطلاح المتكلمين أمثال الشوكاني (ت1255هـ): "مادل عليه اللفظ في محل النطق؛ أي يكون حكما للمذكور وحالاً من أحواله" ، وهو المفهوم نفسه نجده مسبوقاً عند ابن الحاجب (ت646هـ) في قوله: "ما دل عليه اللفظ في محل النطق" .
ومن جهة الشريف التلمساني يرى أن النظر في جهة دلالة المنطوق لابد أن يشمل الدلالة على الحكم، والدلالة على متعلق الحكم، وأن ضمه للمنطوق ضمن القسم الأول دلالة على أنه ذهب إلى ما ذهب إليه ابن الحاجب في أن المنطوق هو مادل عليه اللفظ في محل النطق.
ويقول في الأمر: "هو القول الدال على طلب الفعل، على جهة الاستعلاء" ، وهو نفسه نجده عند جماعة من العلماء أنه: "هو طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء" .
ثم تطرق إلى الأمر والنهي والتخيير؛ باعتبار أن الأمر والنهي يقوم عليهما مدار التكليف، فلا بد من معرفة أحكامها ودلالتها، يقول السرخسي (ت490هـ) في هذا الشأن: أحق ما يبدأ به البيان الأمر والنهي؛ لأن معظم الابتلاء يقع بهما، وبمعرفتهما تتم معرفة الأحكام، ويتميز الحلال من الحرام" .
وأما صيغته: فيرى الشريف أنها على صيغة: (افعل)، وهي مستعملة في اللغة في خمسة عشر موضعا حسب رأيه، وهي كالآتي:
-الأمر: كقوله تعالى: وأقيموا الصلاة .
-الإذن: كقوله تعالى: وإذا حللتم فاصطادوا .
-الإرشاد: كقوله تعالى: وأشهدوا إذا تبايعتم .
-التأديب: كقول الرسول i: كل مما يليك .
-التهديد: كقوله تعالى: اعملوا ما شئتم .
-التسوية: كقوله تعالى: فاصبروا أو لا تصبروا .
-الإهانة: كقوله تعالى: ذق إنك أنت العزيز الكريم .
-الاحتقار: كقوله تعالى: فاقض ما أنت قاض .
-الامتنان: كقوله تعالى: كلوا من طيبات ما رزقناكم .
-الإكرام: كقوله تعالى: ادخلوها بسلام ءامنين .
-التعجيز: كقوله تعالى: فأتوا بسورة من مثله .
-الدعاء: كقوله تعالى: واغفر لنا .
-التكوين: كقوله تعالى: كونوا قردة خاسئين .
-التمني: كقول امرئ القيس: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي .
-الإنذار: كقوله تعالى: فأذنوا بحرب من الله ورسوله .
إلا أننا لوعدنا إلى تراثنا العربي لوجدنا أن هذا التقسيم الدلالي لصيغة الأمر موجود، بل هناك من أضاف على هذه الصيغ صيغ أخرى لتصل إلى ثمان وعشرين صيغة، وهي :
-الوجوب: كقوله تعالى: أقيموا الصلاة .
-الندب: كقوله تعالى: فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا .
-الإباحة: كقوله تعالى: وإذا حللتم فاصطادوا .
-الإرشاد: كقوله تعالى: وأشهدوا إذا تبايعتم .
-إرادة الامتثال: كقول السيد عند عطشه لعبده اسقيني ماء.
-التسخير: كقوله تعالى: كونوا قردة خاسئين .
-الخبر: كقوله تعالى: ولنحمل خطاياكم .
-الإنعام: كقوله تعالى: كلوا من طيبات ما رزقناكم .
-التفويض: نحو قول المرأة لوليها "زوجني ممن أحبت"
-التعجب: كقوله تعالى: انظر كيف ضربوا لك الأمثال .
-التكذيب: كقوله تعالى: قل فاتوا بالتوراة .
-المشاورة: كقوله تعالى: فانظر ماذا ترى .
-الاعتبار: كقوله تعالى: انظروا كيف كان عاقبة المكذبين .
وأما دلالة النهي لغة المنع: يقال عن الشيء أَنْهَاهُ نَهْيًا فَانْتَهَى عنه، ونَهَوْتُهُ نَهْوًا، ونَهَى الله تعالى؛ أي حرم، النُّهْيَةُ العقل؛ لأنها تنهى عن القبيح، ويمنع صاحبه من الوقوع فيما يخالف الصواب، والجمع نُهًى .
وأما من حيث الاصطلاح نجد الغزالي (ت505هـ) ينص على أنه "القول الطالب للترك دلالة أولية" ، أو هو طلب الكف عن فعل على جهة الاستعلاء ، وهو ما عدّه الشريف نفسه بقوله: "القول الدال على طلب الامتناع من الفعل على جهة الاستعلاء" .
وأما صيغته فهي (لا تفعل) عند الشريف التلمساني، والرأي نفسه عند العلماء الأصوليين الذين سبقوه في هذا الجانب.
وأما هذه الصيغة فقد استعملت في اللغة في ستة معان حسب رأي التلمساني :
-النهي: كقوله تعالى: لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى .
-الدعاء: كقوله تعالى: ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به .
-بيان العاقبة: كقوله تعالى: ولا تحسبن الله غفلا عما يعمل الظالمون .
-اليأس: كقوله تعالى: لا تعتذروا .
-الإرشاد: كقوله تعالى: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم .
-التحقير: كقوله تعالى: ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا .
وإذا استقرأنا تراثنا العربي لوجدنا التقسيم نفسه لمعاني النهي، وهو ما جاء به الغزالي نفسه :
-النهي: كقوله تعالى: ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم .
-التحريم والكراهية والتحقير: كقوله تعالى: لا تمدن عينيك .
-بيان العاقبة: كقوله تعالى: ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون .
-الدعاء: كقوله تعالى: ربنا لا تزغ قلوبنا .
-اليأس: كقوله تعالى: لا تعتذروا اليوم .
-الإرشاد: كقوله تعالى: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم .
وعالج التلمساني في الطرف الثاني ضمن المنطوق ما يسمى بالدلالة على متعلق الحكم؛ الذي اشتمل بدوره على أربعة أقسام هي: النص، الظاهر، المجمل، المؤول. وهو في قوله: "إن اللفظ إما أن يحتمل معنيين أو لا يحتمل إلاّ معنى واحداً، فإن لم يحتمل بالوضع إلاّ معنى واحدا فهو النص، وإن احتمل معنيين؛ فإما أن يكون راجحا في أحد المعنيين أو لا يكون راجحاً، فإن لم يكن راجحاً في أحد المعنيين فهو المجمل، وهو غير متضح الدلالة، وإن كان راجحا في أحد المعنيين فإما أن يكون رجحانه من جهة اللفظ، أو من جهة دليل منفصل، فإن كان من جهة اللفظ فهو الظاهر، وإن كان من جهة دليل منفصل فهو المؤول" .
الدلالة بين الغموض والوضوح:
يرى نصر حامد أبو زيد أن اللغة بحكم طبيعتها تعتمد على طاقتي التجريد والتعميم، وعلى إثر ذلك قسم العلماء التركيب اللغوي إلى أربعة أنماط طبقا لآليات العلاقة بين المنطوق اللفظي والمفهوم الذهني؛ أي أن هذه الأنواع الأربعة هي نتيجة لإدراك القدماء على آليات النص في إنتاج الدلالة من خلال جدلية "الغموض والوضوح"؛ التي تشمل كل من "النص" و"الظاهر" ،"المجمل" و"المؤول"، وهذه الأقسام الربعة كلها خاصة بالعلاقة بين منطوق التركيب اللغوي وبين الدلالة؛ أي أن "النص" أقرب إلى "الظاهر" من حيث إن المعنى الراجح فيه هو المعنى القريب، بينما "المجمل" أقرب إلى "المؤول" من حيث إن المعنى الراجح فيه هو المعنى البعيد . إلاّ أن إدراك"الدارسين الأقدمين لثنائية الوضوح والغموض، كان دعما قويا لحصر المجال الإدراكي للحدث الدلالي في كل مستوياته الظاهرة والباطنة، وهو الأمر الذي أدى إلى آليات كافية لتغطية جميع أنماط التلقي، سواء كان ذلك بالوقوف على الظاهرة بآلية التفسير، أو الوقوف على الخفي بآلية التأويل" .
ومن خلال ما سبق يمكننا إجمال تلك الأنواع في الترسيمة الآتية:
• من حيث الوضوح الدلالي:
1- النص:
إن النص لغة هو "الكشف والظهور،...ونص الشيء رفعه. ونص الحديث إلى فلان: رفعه إليه" .
وأما من حيث المفهوم الاصطلاحي فهو" أن إفادته ظاهرة بنفسه...لا يحتمل التأويل" ، وهو ما نص عليه ابن الحاجب بقوله: "بأنه ما دل على معناه دلالة قطعية" .
وبذلك نجد أن الشريف التلمساني قد اقتفى أثر المتكلمين في تحديده لمفهوم النص بقوله: "وهو لا يقبل الاعتراض إلاّ من غير جهة دلالته على ما هو نص فيه" . واستشهد بالحديث النبوي الشريف قول الرسول i:" إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعاً على أن غسل الإناء من ولوغ الكلب سبع لا ثلاث، فرد على الحنفية الذي أوجبوا الغسل ثلاثا، لكنهم لا ينازعون في دلالة لفظ السبع على العدد المعلوم، بل يقولون: كان أبو هريرة يفتي بغسل الإناء ثلاثا وهو راوي الحديث، فدل على أن الحديث غير معمول به . وهو بذلك يقتفي أثر المتكلمين في أن النص يحتمل دلالة قطعية، ولا يحتمل التأويل.
2- الظاهر:
لغة بمعنى الواضح، والوضوح: الظهور، والظهور الظفر بالشيء والاطلاع عليه، وظهر الشيءُ ظهوراً: تبيّنَ، وأظهرت الشيء: بيّنْتُهُ، وهو ضد الباطن .
وأما من حيث الاصطلاح فقد عرّفه الآمدي (ت631هـ) بقوله: "ما دل على معنى بالوضع الأصلي أو العرفي، ويحتمل غيره احتمالا مرجوحاً" .
ولذلك يقول التلمساني: "الظاهر هو اللفظ الذي يحتمل معنيين، وهو راجح في أحدهما من حيث الوضع، فلذلك كان متضح الدلالة" . فهو بهذا التعريف تنبيه بما جاء به الآمدي على سبيل الذكر لا الحصر.
وأن أمثلة الظاهر ما نجده شائعا عند العلماء في أن الظاهر بحكم عرف الاستعمال إطلاق لفظ "الأسد" على الحيوان المعروف، ومن الظاهر بحكم عرف الاستعمال إطلاق لفظ "الغائط" بإزاء الخارج المخصوص من الإنسان .
ولاتضاح الدلالة من جهة الوضع ثمانية مسائل جعلها التلمساني على شاكلة الثنائيات، ومنها الآتي:
1-دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز: الحقيقة لغة" من حق الشيء إذا وجب، واشتقاقه من الشيء المحقق، وهو الحكم. يقال: ثوب محقق النسج؛ أي محكمه" . وهي "فعيلة من حقَّ الشيء بمعنى ثبت" .
وأما من حيث الاصطلاح فهي عند أبي حامد الغزالي اللفظ المستعمل في موضوعه ، هو نفسه ما صرّح به التلمساني قائلاً: "الحقيقة اللفظ المستعمل فيما وضع له؛ كإطلاق لفظ الأسد على الحيوان المفترس" .
وأما المجاز فهو لغة من جاز الموضع أو المكان، يجوزه إذا تعداه، والكلمة إذا وضعت في غير موضعها الأصلي فقد تعدته إلى غيره .
وفي الاصطلاح يرى الغزالي أن المجاز "قد يطلق على اللفظ الذي تجوز به عن موضعه" ، وعند الآمدي: "اللفظ المتواضع على استعماله، أو المستعمل في غير ما وضع له أولاً في الاصطلاح الذي به المخاطبة لما بينهما من التعلق" .
ويأتي التلمساني مسايرا لسابقيه في تحديد مفهوم هذا النوع الدلالي بقوله: "المجاز اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بينه وبين ما وضع له؛ كإطلاق لفظ الأسد على الرجل الشجاع" ؛ ويتضح من كلام التلمساني أن هذه العلاقة هي ما يربط بين الاستعمال المجازي للفظ، والاستعمال الذي وُضع له أصلاً، إلاّ أنه يرجّح استعمال اللفظ لحقيقة بدلا من مجازه في حالة ما إذا احتمل معنيين بقوله: "فإذا كان اللفظ محتملا لحقيقته ومجازه، فإنه راجح في الحقيقة" .
نجد تحديد التلمساني لثنائية الحقيقة والمجاز من أجل أن يبيّن لنا التقسيم الثلاثي للحقيقة ومقابله في المجاز، ليؤكد في الأخير على استعمال الحقيقة بدلاً من المجاز في حال احتمال معنيين للفظ، هذا التقسيم يظهر لنا في الترسيمة الآتية:
لقد ركز التلمساني في تقسيمه على طبيعة الواضع؛ إذا كان صاحب الوضع هو اللغوي كانت الحقيقة لغوية، وإذا كان الواضع هو الشارع فإن الحقيقة هي حقيقة شرعية، وإذا تعارض الناس واصطلحوا على طبيعة اقتران الدال والمدلول كانت الحقيقة عرفية.
أ- الحقيقة اللغوية: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولاً في اللغة؛ كالصلاة دلالة على الدعاء. وهو مثال ما احتج به أصحاب الشافعي وغيره أن خيار المجلس مشروع، وذلك بقول الرسول i: المُتَبَايعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا فالمراد عند المالكية وأصحاب أبي حنيفة إنما المراد بذلك المتساومان، وافتراقهما بالقول؛ أي هما في حال تساومهما بالخيار ما لم يبرما العقد ويمضياه، فإذا أمضياه فقد افترقا، ولزمهما العقد. وقد يطلق اسم الشيء على ما يقاربه كقول الرسول i: لا يبيع أحدكم على بيع أخيه ولا ينكح على نكاحه ؛ وإنما المقصود بالبيع السوم، والنكاح الخطبة؛ باعتبار أن السوم وسيلة للبيع، والخطبة وسيلة للنكاح. وجاء رد الشافعي حسب التلمساني أن إطلاق المتبايعين على المتساومين مجاز، وإطلاق التفرق على تمام العقد مجاز، ولكن الأصل في الكلام الحقيقة .
ب- الحقيقة الشرعية: فهي اللفظ المستعمل فيما وضع له في الشرع؛ كالزكاة التي تتمثل حقيقتها الشرعية في إخراج حق واجب معيّن شرعا من الأغنياء وتسليمه للفقراء.
وينص التلمساني على الرغم من الخلاف الواقع بين الأصوليين في إمكانية وقوعها، إلاّ أن الجمهور يحتجون بها ويعترفون بوقوعها؛ وهو ظاهر في احتجاجهم على أن المُحرم لا يتجوز في حال إحرامه استنادا لقول الـرسول i: لاَ يَنْكِحُ المُحْرِمُ وَلاَ يُنْكَحُ . وأجاب الأحناف أنه يحتمل أن يريد بالنكاح الوطء، ولكن إذا كان المراد به الوطء دل الخبر على حرمة الوطء على المحرم لا على حرمة العقد، والجواب كما يرى التلمساني وعند أصحابه أن إطلاق النكاح على الوطء مجاز شرعي، وعلى العقد حقيقة شرعية، وحمل اللفظ الشرعي على حقيقته الشرعية أولى من حمله على المجاز الشرعي .
ج- الحقيقة العرفية: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له في العرف؛ كالدابة التي تطلق في اللغة على كل ما يدُّب على الأرض، وفي العرف تستعمل في بعض ما يدب دون بعض؛ فالنوع الأول الذي تستعمل فيه عرفا يسمى دلالة عرفية، ومثاله إذا قال الزوج لزوجته "أنت طالق"، وقال: أردت من وَثاقٍ، فإن الطلاق بمعنى الإطلاق، وهو حقيقة لغوية في الحل من وثاق غيره، فيقال: هذا اللفظ حقيقة عرفية في حل عصمة النكاح مجاز في الوَثاق، وحمل اللفظ على حقيقته العرفية أولى من حمله على المجاز العرفي .
2-دوران اللفظ بين الانفراد والاشتراك: يرى التلمساني أن الاشتراك على خلاف الأصل؛ باعتبار أن الأصل في الألفاظ الانفراد لا الاشتراك، واحتج الجمهور على أن أمر النبي i محمول على الوجوب، وهو قوله تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ، وتأتي حجة المخالفين لهذا الأمر هو أن المراد في ذلك يحتمل الأمر القولي، وأيضا يراد به الشأن والفعل، كقوله تعالى: وما أمر فرعون برشيد ، وأنه إذا صح إطلاق لفظ الأمر على القول المخصوص لزم اشتراك لفظ الأمر بين المعنيين، وبالتالي يبطل الاستدلال مجرد الاشتراك، لكنه سبب غير مقنع ودليل غير دامغ في حد ذاته؛ لأنه كما يرى التلمساني وغيره الأصل في الألفاظ هو الانفراد لا الاشتراك، فوجب انفراد لفظ الأمر بأحد المعنيين بالوضع، وأن تكون دلالته على المعنى الآخر بالمجاز، وأنه حقيقة في القول ومجاز في الفعل، واللفظ حمله في حقيقته دون مجازه.
وبالتالي يخرج التلمساني في حل هذا الإشكال برأي جامع منطقي، أو ربما جعله كقاعدة يقف عندها المستنبط؛ وهي أنه إذا تعارض المجاز والاشتراك، كان الأخذ بالمجاز أولى من الاشتراك .
وبالتال يمكننا القول إن التلمساني يعد عالما لغويا ودلاليا بلا منازع، وإن برع في مجال الدلالة فذلك سبيل لأجل الوصول إلى استنباط الأحكام الشرعية من النصوص الدينية، ولا يأتى ذلك إلا بالاحتكام لقواعد اللغة، وللتوظيف السليم للنوع الدلالي الخاص في النصوص.
هوامش:
يعد الإمام الشريف التلمساني المالكي من أعلام القرن الثامن الهجري، ومن أعلام التراث الجزائري، وهو من العلماء الذين خدموا المذهب المالكي وأسهموا في تطوره والحفاظ عليه، ومن ثمة العمل به.
ويعد –كذلك- كتابه "مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول"، وكتابه "مثارات الغلط في الأدلة" من أنفس كتب أعلام الجزائر في علم أصول الفقه؛ التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية، وقد جمع الشريف التلمساني من خلال كتابيه بين طريقة الشافعية وطريقة الحنفية على الأصول، والأدلة الكلية على طريقة الفقهاء، لا على طريقة المتكلمين، شاملاً لأدلة المالكية؛ خصوصا في مواطن الخلاف لأجل توظيف القضايا اللغوية لأجل استنباط الحكم الشرعي. كما أنه يعمد لذكر بعض الشروح الفقهية المخرجة على القاعدة، والاستشهاد بكثير من أشعار العرب. واعترافاً بقوة تأصيل علماء الأصول، وحسن تعريفاتهم، بعيداً عن الجدل، وتشعب الخلاف؛ لأنه العلم الذي يحتاج إليه الفقيه والمتفقه، والمحدّث والمفسر، ولا يستغني عنه ذوو النظر، ولا ينكر فضله أهل الأثر.
وعلى غرار ذلك، فأننا سنحاول الوقوف من خلال هذه المداخلة على جهود التلمساني اللغوية، محاولين في ذلك مقارباتها مع الدرس اللساني الحديث من حين إلى حين
وأما الإشكال المطروح في هذه المداخلة فيتمثل في معرفة المنهج اللغوي لهذه الشخصية؟ وما مدى توفيقه في تخريجاته اللغوية، وتوظيفها من أجل الاستنباط الأحكام الشرعية؛ سواء أكانت من النص القرآني أم السني؟.
----------
الشريف التلمساني في سطور:
هو محمد بن أحمد بن علي الإدريسي الحسني أبو عبد الله العَلْويني؛ نسبة إلى قرية عَلْوين من أعلام تلمسان، ويعرف بالشريف التلمساني صاحب الفروع والأصول، وفارس المعقول والمنقول، علم من أعلام المالكية، انتهت إليه إمامتهم بالمغرب.
وهو أحد راسخي العلماء، وآخر الأئمة المجتهدين العظماء؛ أبو عبد الله سدي محمد بن بن أحمد المعروف: الشريف التلمساني، إمام أهل المغرب قاطبة، وأعلم أهل عصره بإجماع، وأحد رجال الكمال علما وذاتا وخَلقا وخُلقا.
كان مولده سنة 710هـ، ونشأ بتلمسان آخذاً العلم من مشايخها، واختص بأولاد الإمام، وتفقه عليهما في الفقه والأصول وعلم الكلام. ثم لزم الشيخ أبا عبد الله الأبلي، وتضلّع من معارفه، فاستبحر وتفجرت العلوم من مداركه.
ارتحل إلى تونس سنة741هـ، ولقي بالشيخ القاضي أبا عبد الله بن عبد السلام، وحضر مجلسه، وأفاد منه واستعظم رؤيته في العلم، وكان ابن عبد السلام يصغي إليه ويؤثر محله ويعرف حقّه. ثم توجه إلى تلمسان وكُلِّف وقتها بتدريس العلم، وثبته في الصدور والنفوس، فملأ المغرب معارف وتلاميذ ،ثم رحل مع السلطان أبي عنان إلى فاس.
وعندما ملك أبو حمو موسى بن يوسف بن عبد الرحمان تلمسان، استدعى الشريف التلمساني من فاس، فانطلق أبو عبد الله إلى تلمسان فقربه السلطان أبو حمو إليه، وأصهر له في ابنته، فزوّجها إياه، وبنى له مدرسة أقام يدرّس فيها إلى أن وفته المنية سنة 771هـ .
*علومه:
-محدث بارع في علوم الحديث، متنه وسنده، صحيحه وسقيمه.
-فقيه مجتهد في الأصول والفروع، ثبتا وتحصيلا، واسع المعرفة بالأحكام ووجوه الاستنباط منها.
-خبير بالعلوم العربية وآدابها وقواعدها نحوا وصرفا وبلاغة وبيانا، قوي في غريب اللغة والشعر والأمثال.
-كثير المعرفة بسير الأعلام من الفقهاء والصالحين، وبمذاهب الصوفية وإشاراتهم.
-قمة في العلوم العقلية كلها من منطق وحساب وفرائض وتنجيم وهندسة وغيرها.
كل ذلك يؤكد على عظمة شخصيته الأدبية والعلمية الفذة، ويشهد له بالإمامة والاجتهاد ورقي القدر والمنصب في عصره بين فطاحل العلماء العاملين المبرّزين .
*مؤلفاته:
ألّف الشريف التلمساني العديد من الكتب، منها:
- شرح جمل الخونجي في العربية.
- كتاب في القضاء والقدر.
- مثارات الغلط في الأدلة.
- مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول.
وكان لسان الدين الخطيب كلما ألفّ كتابا بعثه إليه وعرضه عليه .
مضمون الكتابين:
هما من أنفس كتب أعلام الجزائر في علم أصول الفقه ؛ التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية، فقد حرّر الشريف التلمساني كتابه جامعا فيه بين طريقة الشافعية وطريقة الحنفية على الأصول، والأدلة الكلية على طريقة الفقهاء ، لا على طريقة المتكلمين ، شاملاً لأدلة المالكية؛ اعترافاً بقوة تأصيلهم وحسن تعريفهم، بعيداً عن الجدل، وتشعب الخلاف؛ لأنه العلم الذي يحتاج إليه الفقيه والمتفقه، والمحدث والمفسر، ولا يستغني عنه ذوو النظر، ولا ينكر فضله أهل الأثر.
وأما منهجه في الكتابين فنجده قد جمع بين الطريقتين؛ أي بين الجمهور (الشافعية)، والفقهاء (الأحناف)، وهو منهج يقوم على ذكر القواعد الأصولية وقيام الأدلة عليها، ثم المقارنة بين ما قاله المتكلمون وما قاله الأحناف، ثم الترجيه بينهما. وفي كثير من الأحيان نجده يخرج في نهاية الخلاف بآراء للسادة المالكية، ويجعلها الأساس الحق الذي ينبني عليه الحكم الشرعي في أحايين أخرى. كما أنه يعمد لذكر بعض الشروح الفقهية المخرجة على القاعدة، والاستشهاد بكثير من أشعار العرب.
ونجد ممن ألفوا ضمن هذا النهج –الجمع بين الفقهاء والمتكلمين- من أعلام التراث العربي: مظفر الدين بن أحمد الساعاتي (ت694هـ) من خلال كتابه "بديع النظام الجامع بين أصول البزدوي والإحكام"، وتاج الدين السبكي (ت771هـ) من خلال كتابه "جمع الجوامع"، وأحمد بن عبد الواحد (ت861هـ) من خلال كتابه "التحرير" الذي قام بشرحه تلميذه محمد بن أمير الحاج الحلبي (ت879هـ) من خلال كتابه المسمى بـ"التقرير والتحبير".
ابتدأ كتابه المفتاح بمقدمة ركزّ من خلالها على أهمية العلوم، لاسيما علم الشريعة؛ إذ" هو في سماء المعلومات أسطع بدراً، وأهله من بين أولي الدرجات أرفع قدراً. بجنة رعايته يُتحصن يوم الفزع الأكبر من العذاب الأليم، وبنور هدايته يُستضاء في ظُلَم الحشر إلى جنات النعيم، فلقد فاز في السعادة من أحيى به رسما دائرا، وحاز مع المسلمين فيه قسما وافرا".
واشتمل هذا الكتاب على أربعة أبواب انطلقت بدورها من قسم واحد، حسب التقسيم الذي أعدّه التلمساني بنفسه، وهو في قوله: "اعلم أن ما يتمسّك به المستدل على حكم من الأحكام في المسائل الفقهية منحصر في جنسين: دليل بنفسه، ومتضمن للدليل؛ الجنس الأول الدليل بنفسه: وهو يتنوع نوعين؛ أصل بنفسه، ولازم عن أصل. النوع الأول: أصل بنفسه وهو صنفان؛ أصل نقلي، وأصل عقلي. الصنف الأول وهو الصنف النقلي..." . وهذا الأخير هو المعول عليه وأساس الدراسة في هذا الكتاب، حيث يقول: "اعلم أن الأصل النقلي يشترط فيه أن يكون صحيح السند إلى الشارع صلوات الله عليه، متضح الدلالة على الحكم المطلوب، مستمر الأحكام، راجحا على كل ما يعارضه، فهذه أربعة شروط ينبغي أن نعقد في كل شرط بابا" .
كما أنه تطرق في الصفحة الأولى من كتابه مثارات الغلط في الأدلة على قضية جوهرية لم يغفلها القدامى –رحمة الله عليهم-، ألا وهي العلاقة الجوهرية بين اللفظ والمعنى، أو بالأحرى بين الدال والمدلول، مبيّنا أهمية كل طرف، وهو ما نراه في تأكيده على أن المغالطة في اللفظ تؤدي حتما إلى المغالطة في المعنى.
*المغالطة في اللفظ والمعنى /إفرادا وتركيبا:
نرجع إلى إجابته عن العلاقة القائمة بين الدال والمدلول، وإصراره على أن ضبابية المدلول هي نتيجة لعدم صدقية الدال، ولعدم اتضاح صورته السمعية، حيث يقول:"أما من جهة اللفظ فاعلم –وفقك الله- أن اللفظ إذا طابق المعنى مطابقة تامة بحيث لا يحتمل اللفظ في الدلالة غير المعنى المقصود لم يقع غلط بسبب اللفظ البتة.وإذا ثبت أنه لا بد من احتمال في اللفظ، فذلك الاحتمال إما أن يكون في اللفظ بعد تحقق كونه مفردا أو بعد تحقق كونه مركبا، أو يكون لدورانه تردده بين الإفراد والتركيب" ..
وأرجع أن الأغلاط الواقعة في اللفظ إلى تدخل العوامل النحوية والصرفية؛ كالاختلاف الحاصل في لام التعريف (العهد والجنس)، وياء التصغير في الدلالة على التحقير والتعظيم، وهذا اشتراك عدّه راجع من جهة الأمور الخارجية اللاحقة للفظ؛ وهي ولواحق نطقية حسب رأيه.
وبالإضافة إلى اللواحق النطقية نجده يشير إلى عامل اللواحق الخطية؛ وهي الكتابة التي بدورها راجعة إلى النقط والتشكيل ..
*دلالة الحذف:
وهي مسالة نحوية دلالية بلا منازع ، وأنها راجعة إلى تقدير المتكلم كمثل قوله تعالى: "ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" ؛ وتقدير المحذوف عند التلمساني: لا تقربوا مواضع الصلاة ؛ أي أن رأي التلمساني في قضية تقديره للمحذوفات هو نتيجة تأكيده على أهمية التخاطب الحاصل بين المتكلم والمستمع، وعلى ضمان فهم الكلام بالنسبة المستمع بالدرجة الأولى، وأن هذا الرأي نجده لا يخرج عن الإطار الذي رسمه الغربيون في تأكيدهم على جوهر نظرية قصد الاتصال التي يمثلها كلّ من أوستن، وجرايس و فيتجنشتين Latter Wittgenstein .
وأن قضية الحذف في القرآن تدخل ضمن ما يسمى بجوانب الإعجاز في نصه، وجماليات تعبيره، وسر فصاحته، حيث يقول ابن القيم: » وتدبَّر هذه الطريقة في القرآن، وذكره للأهم المقصود، وحِذفه لغيره، يُطْلِعْكَ على باب من أبواب إعجازه، وكمال فصاحته « .
وإذا كان الحذف واقعا في الكلام الفصيح، فهو حادث لدلالة المذكور على المحذوف، حتى لا يكون ذلك الحذف شائعا ولا عشوائيا، وبالتالي يفقد جماليته في التعبير. وأن القرآن قد برئ من مثل هذا النوع من الحذف الذي لم يكن لضرورة ولا لدلالة، بل إن كل حذف في القرآن إلاّ ونجده في موضعه المناسب، وخير دليل نقدّمه هو ما وقف عنده ابن القيم في تلك النماذج النصية السابقة، حيث يقول في هذا الشأن: » وهذه طريقة القرآن، بل وكل كلام فصيح: أن يذكر الشيء في موضع ثم يحذفه في موضع آخر، لدلالة المذكور على المحذوف. وأكثر ما تجده مذكورا وحذفه قليل. وإما أن يحذف حذفاً مطّرداً ولم يذكره في موضع واحد، ولا في اللفظ ما يدل عليه، فهذا لا يقع في القرآن « .
وأنه خوف للإطناب أو للتكرار، وطلبا للاختصار يجوز الحذف عند علماء العربية، حيث نجد أن علماء العربية قد صرحوا : » بأن الشيء إنما يجوز حذفه إذا كان الموضع الذي ادّعى فيه حذفه قد استعمل فيه ثبوته أكثر من حذفه، فلا بد أن يكون موضع ادّعاء الحذف عندهم صالحاً للثبوت. ويكون الثبوت مع ذلك أكثر من الحذف حتى إذا جاء ذلك محذوفاً في موضع، علم بكثرة ذكره في نظائره أنه قد أزيل من هذا الموضع، فحمل عليه. فهذا شأن من يقصد البيان والدلالة « ؛ وهذا ما يدخل ضمن ما يسمى بجوازية الحذف في الموضع الذي يستحقه، لأن من ضروب الحذف ما يمسى بالاختصار في الكلام، وكل من يقصد الحذف ويعمد إليه إنما هو يبحث عن مقصدية ووضوح دلالات التراكيب الخاضعة إلى ظاهرة الحذف.
*دلالة حرف "الباء" على التأكيد:
يرى التلمساني أن الباء تفيد التأكيد عند المالكية، ووجوب التعميم في مثل قوله تعالى :"فامسحوا برؤوسكم" ، وذلك بقوله:"والجواب عند أصحابنا أنها للتأكيد، لنه نقل عن العرب زيادتها كثيرا للتأكيد، ...قوله تعالى:"وهزي إليك بجزع النخلة" ؛ أي جذع النخلة" ، وهذا دلالة على إفادة الباء معنى آخر على الجر، وهو التعميم والتأكيد.
*المشترك اللفظي:
يكاد يجمع الأصوليون على أن اللفظ الذي له أكثر من معنى يسمى بالمشترك اللفظي، وهو ما أشار إليه الغزالي في حديثه عن الألفاظ المتعددة بقوله: » وأما المشتركة فهي الأسامي التي تنطبق على مسميات مختلفة لا تشترك في الحد والحقيقة البتة؛ كاسم العين للعضو الباصر، وللميزان، وللموضع الذي تفجر منه الماء وهي العين الفوارة...فنقول: الاسم المشترك قد يدل على المختلفين كما ذكرنا « . ويقول عنه الرازي: » اللفظ الموضوع لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعاً أولا من حيث هما كذلك « ، وهو التعريف الذي اختاره الشوكاني بقوله: »اللفظة الموضوعة لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعاً أولا « .
وأما عند اللغويين المحدثين فهو ما تحدت صورة لفظه، واختلف معناه ، أو هو» أن تتعدد المعاني للفظ الواحد « .
ومن خلال ذلك يتضح أن هذه التعاريف تجمع على أن المشترك اللفظي هو دلالة اللفظ الواحد على معنيين مختلفين غير ضدين فأكثر، دلالة حقيقية على السواء، ليس بينهما علاقة. وبهذا يخرج المجاز من المشترك، كما تخرج الأغراض البلاغية للأساليب الإنشائية، وتخرج -أيضا- بعض الأدوات التي تستعمل في غير معناها الحقيقي، وتكون على سبيل المجاز في هذا الاستعمال، وربما الخلط الذي وقع دفع بعض من كتبوا في المشترك أن يخلطوا بينه وبين الألوان المجازية ، فهذا عن مفهـوم المشترك.
د-إطلاق المشترك على معنييه:
وهو من الأمور التي اختلف فيها العلماء حول جواز حمل اللفظ المشترك على معنييه، أو عدم جوازه إذا تجرد من القرائن؟، فإذا اقترنت به قرينة وجب إعماله في واحد معين تعيّن حمله عليه ، وذلك أن: » المشترك إذا اقترن به قرائنُ تُرجِّحُ أحدَ معانيه، وجب الحملُ على الراجح « ، ولكن إذا كان متجرداً عن القرائن فإنه لايجوز حمل المشترك على كل معانيه في إطلاق واحد، خلافاً لمن جوّز ذلك، وأنه ردّ ذلك إلى أمرين: » أحدها: أن الاشتراك خلاف الأصل، بل لا يعلم أنه وقع في اللغة من واضع واحد...الثاني: أن الأكثرين لا يجوِّزون استعمال اللفظ المشترك في معنييه لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز « .
ومن أهم الخلافات الدائرة عند الأصوليين في هذا النوع وقوفهم على لفظة "القرء" في النص القرآني في قوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" . ومنهم ابن القيم الحنفي الذي اعتبر اللفظة دلالة على الحيض، لا على الطهر، وهي قضية ناقشها نقاشا موسعا مستدلا بالآراء الخلافية الواقعة حول هذا اللفظ، لآراء من علماء اللغة، وكذا لعلماء أصول الفقه، مبتدئاً بأقوال الصحابة -رضوان الله عليهم-، وهو ما نجده في كتابه زاد المعاد .
وأما صاحبنا التلمساني المالكي فنراه يرجع بدلالة اللفظ إلى الطهر لا الحيض، رادا على من يزعم عكس ذلك، حيث يقول:" والقرء مشترك بين الطهر والحيض لغة، لكن الأولى حمل الآية على الأطهار، لأنه محل الطلاق، فينبغي أن يحصل التربص المأمور به منهن عقب الطلاق بدارا منهن إلى المأمور به...وأما قولكم: زمان الحيض اولى باسم القرء، لأنه زمان اجتماع الدم فباطل، بل زمان الطهر أولى به؛ لأنه في الحقيقة هو زمان اجتماع الدم في الرحم على أن يكثر، فيندفع فيخرج" .
ومما يفهم من الأدلة المقدمة هو أن اللفظ لا بد له من أن يحمل على معناه الأصلي، وذلك لما يقول التلمساني: "وإذا تساوى هذان الاحتمالان نقلا واعتبارا، كفانا أدنى مرجح، في ترجيح أحد المعنيين" .
*جهوده في نظرية السياق:
يحدثنا التلمساني في هذا الموضع عن ترجيح أحد الاحتمالين نتيجة لتدخل القرائن بمختلف أنواعها؛ وهي إما لفظية، وإما سياقية، وإما خارجية.
وقبل الحديث عن هذه القرائن حري بنا معرفة دلالة السياق، وكيفية التماسها. فالشوكاني أجابنا إجابة كافية شافية في تمييزه بين دلالة السياق ودلالة الأسباب قائلاً:" والحق أن دلالة السياق إن قامت مقام القرائن القوية المقتضية لتعيين المراد كان المخصِّص هو ما اشتملت عليه من ذلك، وإن لم يكن للسياق بهذه المنزلة ولا أفاد هذا المفاد فليس بمخصِّص" .
ومن خلال رأي الشوكاني في تحديده لدلالة السياق نجده بذلك قد أومأ على جملة من الحقائق يمكننا إجماله كالآتي :
أ-إنّ السياق ينقسم إلى سياق له دلالة، وسياق ليس له ذلك؛ فليس كل سياق دالا على مايراد التماس معناه من سياقه؛ أي لا يمكن الاستعانة بالسياق دائما.
ب-إن دلالة السياق لا تكمن في مجرد "مقال السياق"، بل فيما يشتمل عليه السياق من قرائن وإفادات. ولذلك اختلفت دلالة السياق من جملة لأخرى، ومن نظم لآخر. ووقعت أولاً ووسطاً وآخراً، تبعا لموضع القرينة، أو القرائن التي تفيد في تعيين المعنى الذي يُلتمس كشفه وإظهاره بمعونة السياق.
إن هذه الحقيقة التي أدركها الشوكاني نجدها مؤكدة عند تمام حسان الذي يرى أن السياق هو كالطريق لابد له من معالم توضّحه، ولا شَكَّ أنَّ مبان التقسيم وما تبدو فيه من صيغ صرفية وصور شكلية، وكذلك مباني التصريف مع ما تبدو به من لواصق مختلفة تقدّم قرائن مفيدة جدا في توضيح منحنيان هذا الطريق، ولكن السياق يظلُّ بحاجة ما سة إلى الكثير من القرائن الأخرى التي تتضح بها العلاقات العضوية في السياق بين الكلمات .
وبالتالي لا بد من أهمية الكشف عن القرائن لمعرفة المقصود من السياق والتماس الدلالات منه؛ لأنه على الرغم من أهمية النظم في الكشف عن الدلالات السياقية تظل الحاجة إلى قرائن أخرى قائمة؛ فمعرفة دلالة السياق هي متوقفة بدورها على معرفة القرائن التي تكتنفه، وبمعرفتها تصبح دلالة السياق واضحة جلية، بل العلاقة بين تلك القرائن هي الرابط الأساسي بين مناحي السياق، وجعلها كلاما واحد سيق لغرض معين، أو نتيجة أغراض معينة، حتى قيل في عقد الصلة بين القرينة والسياق: "ما القرينة إلاّ السياق" .
وقبل الخوض في أنواع القرينة التي ساقها التلمساني كان من الواجب حديثنا عن تحديد مفهوم القرينة أولاً؛ فهي لغة مأخوذة من مادة قرن يقرن قرنا، حيث يقول ابن منظور: "قرن الشيءَ بالشيء وقرنَه إليه يقرنه قرناً: شدَّه إليه...وقرن بين الحج والعمرة: جمع بينهما...وقارن الشيءُ الشيءَ مقارنةً وقراناً: اقترن به وصاحبه...وقرنتُ الشيءَ بالشيء وصلتُه...والقرينُ المصاحبُ...والقرينة الناقةُ تُشدُّ إلى أخرى".
وبذلك يعرفها الشريف الجرجاني بأنها: "أمر يشير إلى المطلوب" ، وعند التهانوي بأنها:"الأمر الدال على الشيء من غير الاستعمال فيه" .
أقسام القرينة عند التلمساني والعلماء الذي سبقوه:
لقد اختلف العلماء في تقسيمهم للقرائن، ومن هذه الاختلافات نجد:
أ-تقسيم الجويني القرينة إلى الحالية واللفظية قائلا: "فأما القرائن الحالية فكقول القائل: رأيت الناس، وأخذت فتوى العلماء، ونحن نعلم أن حاله لا يحتمل رؤية الناس أجمعين، ومراجعة جميع العلماء؛ فهذه القرينة وما في معناها تتضمن تخصيص الصيغة...فأما القرائن التي ليست حالية فهي تنقسم إلى الاستثناء والتخصيص" .
ب-تقسيم الغزالي إلى ثلاثة أنواع من القرائن: لفظية وعقلية وحالية، وذلك من خلال رأيه الذي يرى فيه أن القرينة إما لفظ مكشوف كقوله تعالى: ] وآتوا حقه يوم حصاده[ ؛ والحق هو العشر، وإما إحالة على دليل العقل كقوله تعالى: ] والسماوات مطويات بيمينه[ ، وإما قرائن أحوال من إشارات ورموز وحركات وسوابق ولواحق لا تدخل تحت الحصر، والتخمين يختص بدركها المشاهد لها فينقلها المشاهدون من الصحابة إلى التابعين بألفاظ صريحة .
ج-تقسيم فخر الدين الرازي للقرائن إلى حالية ومقالية؛ الأولى تشمل حال المتكلم من حيث الصدق والكذب، والهيئات المخصوصة القائمة به، وخصوص الواقعة التي ورد فيها الخطاب، بينما الثانية (المقالية) هي ما يذكره المتكلم في كلامه مما يدلّ على مراده .
د-بينما تقسيم التلمساني جاء واضح المعالم، فهو يرى القرائن في ثلاثة أقسام: لفظية وسياقية وخارجية، تظهر في الترسيمة الاتية:
د-1- القرينة اللفظية: والمراد دبها مبنى اللفظ، ومثَّلَ لها بقوله تعالى: ]والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء[ ؛ حيث إن القرء إذا جمع على قروء، فالمراد به الطهر لا الحيض؛ إذ الجمع قد يختلف باختلاف المعاني وإنْ كان اللفظ المفرد مشتركا في مثل "العود" الذي جُمع على "أعواد" وهو مشترك بين الخشبة - وجمعه إذ ذاك أعواد-، وبين آلة الغناء -وجمعه إذ ذاك عيدان-، وقس على ذلك. ثم يدعّم رأيه بما جاء به المالكية في التذكير والتأنيث والحذف فيقال ثلاثة أطهار، بينما الحيض مؤنثة فوجب حذف التاء من العدد المضاف إليها، فيقال ثلاث حيض. وبالتالي نجد سياق الآية " ثلاثة قروء" بالتاء دلالة على أنه أراد الأطهار.
إن التلمساني كعادته يضيف لنا آراء خلافية للأحناف في هذا الشأن بدليل قولهم إن للمعنى الواحد قد يكون له لفظان: أحدهما مذكر والآخر مؤنث؛ التأنيث فيه قد يكون لفظيا لا معنويا، وذلك في "جسد" و"جثة"؛ والمراد عندهم واحد. ثم يكمل القول: ثلاثة أجساد وثلاث جثث؛ فوجب حذف التاء في لفظ الحيضة في الجمع؛ لأنها مؤنثة. ووجب ذكر التاء في القرء في الجمع لأنه مذكر . وهذا التعليل ناقص إذا ما أردنا الاستدلال به من جراء توظيف القرائن اللفظية؛ لأن الجسد نفسه لا يراد به الجثة بالضرورة.
د-2-القرينة السياقية: والمراد بها ما يكتنف الشيء في سياقه –سباقا أو لحاقا- من دلالات، ومثل لها باستدلال الشافعي بقوله تعالى: ]وامرأةً مومنةً إِن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المومنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما [ ، فقوله ]خالصة لك [ دليل على اختصاص جواز عقد النكاح بلفظ الهبة بالنبي i بدليل السباق. ومثّل له أيضا برد الحنفية على الشافعي بطرف آخر من سياق الآية وهو السياق اللاحق، من خلال رأيهم أن الآية سيقت لبيان شرف النبي iوفضله على أمته، ونفي الحرج عنه. كما يدل على ذلك اللحاق من هذا السياق، ولا شك أن ذلك لا يحصل بإباحة لفظ له ومنعه من غيره؛ إذ ليس في ذلك شرف ولا رفع حرج، وإنما يحصل ذلك بإسقاط العوض عنه؛ وهو المهر . وهو ما أكده التلمساني نفسه: "فهذا السياق كلهه يدل على أن المراد بالخلوص: هو ملك البضع من غير مهر، لا اللفظ" .
ثم إن التلمساني بعد تعرضه للقرينة السياقية نجده يحاول إلحاق القرائن الحالية بها، في قوله: والقرائن الحالية قريبة من السياقية، وهي لا تنضبط" ، ولكن ذكرها من غير أن يجعلها قسما من أقسام القرائن مستقلا بنفسه.
ج-القرينة الخارجية: وهي حسب التلمساني "موافقة أحد المعنيين لدليل منفصل، من نص أو قياس أو عمل" . وهو النوع الجديد الذي أضافه التلمساني في هذه القرائن.
ج-1-موافقته للنص: وهو المثال الذي دافع عنه المالكية في المراد بالقرء الأطهار، من خلال قوله تعالى: ] ياأيها الذين آمنوا إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن[ ، فأمر بطلاقهن طلاقا يستعقب عدتهن، ولا تتراخى العدة عنه.
لكن التلمساني يرى أن الأحناف يرجحون احتمالهم استنادا لقرينة خارجية أيضا، في رأيهم قول المولى عز وجل: ] واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن[ ؛ فجعل الأشهر بدلاً عن الحيض لا عن الأطهار، فدل أن الحيض أصل في العدة. لكن الشريف يدافع عن رأيه ورأي أصحابه في قضية الاستدلال نتيجة موافقة النص في التيمم؛ وهو قوله تعالى: ] فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا[ ، والاستدلال من خلال سياق النص هو أن الماء هو الأصل، بينما الصعيد بدل منه.
ج-2-موافقة القياس: وهو خلاف جوهري دار حوله الحديث أكثر من مرة؛ ويتمثل في الحديث عن القرء واحتماليته للطهر والحيض، والمالكية والشافعية يقِّران وكعادتهما بأن القرء هو من الطهار، وحجتهم أن العدة لمَّا كانت مأمورا بها كانت من العبادات، والشأن فيالعبادة أن الحيض ينافيها، ولا تتأذى فيه فضلا عن أن تتأذى به، بدليل عدم صحة الصلاة والصيام والطواف مع الحيض، بخلاف الطهر. وبالتالي من خلال الاستدلال بالقياس يقتضي في العدة أنها تتأذى بالطهر لا بالحيض، وهو واجب موافقته على حمل القروء في الآية على الأطهار لا على الحيض. بينما نجد ترجيحا للحنفية بقياس آخر، غير الذي عرفناه سابقا عند المالكية والشافعية؛ حجتهم في ذلك أن القصد من العدة استبراء الرحم، والعلامة أو السمة الدالة على الرحم في العدة إنما على الحيض لا الطهر؛ بدليل أن الحامل والحائل يشتركان في الطهر، بينما الحيض في الغالب مختص بالحائل. ومنه وجب حمل القروء في الآية استنادا إلى القياس على الحيض لا على الطهر .
ج-3- موافقته لعمل الصحابة: وهو الخلاف القائم حول غسل الرجلين أو عدم الغسل في الوضوء والاكتفاء بمجرد المسح فقط؛ وذلك كاحتجاج العلماء على وجوب غسل الرجلين استنادا لقوله تعالى:] يَآأَيُّهَا الذِينَ ءّامَنُواْ إِذَا قُمْتُمُ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمُ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمُ إِلَى الكَعْبَيْنِ [ ؛ لأنه معطوف على اليدين والوجه بالفتح. بينما المعترضون يؤكدون على احتمالية الرأي الول، ولكن يضعون احتمالا آخر وهو العطف على الرأس استنادا لقول الشاعر:
مُعُاوِيَ إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ * فَلَسْنَا بِالجِبَالِ وِلاَ الحَدِيدَا
أما الجواب الثاني عند العلماء فمفاده أنه لم ينقل عن الصحابة والتابعين -رضوان الله عليهم- إلاّ الغسل، لا المسح .
ومن خلال ما سبق نجد تقسيم التلمساني للقرائن واضحا؛ اعتبار أن المقسم فيه كما يرى كريم الزنكي هو كون القرينة متعلقة بلفظ الشيء، أو بما هو في سياقه، أو بما هو خارج عنه، غير أن السياق الذي ألحق به الحال قد يتداخل الجانب الحالي منه مع القرينة الخارجية؛ إذ كل من القرينة الخارجية والحالية قرينة من خارج اللفظ إفرادا وتركيباً .
وبالتالي فإن القرائن حسب التلمساني هي ثلاثة أقسام: لفظية وسياقية وخارجية، وكل واحدة منها إلاّ ولها مجال للاستدلال أو لاستنباط الأحكام من النص القرآني أو السني؛ وهذا ما يدل دلالة واضحة على ما للسياق وقرائنه من أثر في الدلالة عند التلمساني، وهو بهذا يلتقي مع نظرية السياق في الدراسات اللغوية الحديثة التي تعد من أهم نتائج البحث الدلالي في العصر الحديث.
رأيه حول دلالتي الأمر والنهي:
وإذا ما حاولنا قراءة تلك المصطلحات الدلالية لوجدنا أن العالم الشريف التلمساني هو عالم دلالي شأنه شأن علماء التراث العربي، وبالخصوص كعلماء أصول الفقه الذين وقفوا على الدلالات محاولين في ذلك تصنيفها التصنيف العلمي الدقيق.
وإذا عدنا إلى الجهة الأولى التي وسمها بالمنطوق لا تضح أن هذه الدلالة من حيث المفهوم اللغوي هي من نَطَقَ النَاطِقُ ينطقُ نُطقاً: تكلم. والمَنطِق: الكلام. ويقال: قد أنطقه الله واسْتنطَقَه؛ أي كلَّمه وناطقه، وكتاب ناطِق بَيِّن .
وأما في اصطلاح المتكلمين أمثال الشوكاني (ت1255هـ): "مادل عليه اللفظ في محل النطق؛ أي يكون حكما للمذكور وحالاً من أحواله" ، وهو المفهوم نفسه نجده مسبوقاً عند ابن الحاجب (ت646هـ) في قوله: "ما دل عليه اللفظ في محل النطق" .
ومن جهة الشريف التلمساني يرى أن النظر في جهة دلالة المنطوق لابد أن يشمل الدلالة على الحكم، والدلالة على متعلق الحكم، وأن ضمه للمنطوق ضمن القسم الأول دلالة على أنه ذهب إلى ما ذهب إليه ابن الحاجب في أن المنطوق هو مادل عليه اللفظ في محل النطق.
ويقول في الأمر: "هو القول الدال على طلب الفعل، على جهة الاستعلاء" ، وهو نفسه نجده عند جماعة من العلماء أنه: "هو طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء" .
ثم تطرق إلى الأمر والنهي والتخيير؛ باعتبار أن الأمر والنهي يقوم عليهما مدار التكليف، فلا بد من معرفة أحكامها ودلالتها، يقول السرخسي (ت490هـ) في هذا الشأن: أحق ما يبدأ به البيان الأمر والنهي؛ لأن معظم الابتلاء يقع بهما، وبمعرفتهما تتم معرفة الأحكام، ويتميز الحلال من الحرام" .
وأما صيغته: فيرى الشريف أنها على صيغة: (افعل)، وهي مستعملة في اللغة في خمسة عشر موضعا حسب رأيه، وهي كالآتي:
-الأمر: كقوله تعالى: وأقيموا الصلاة .
-الإذن: كقوله تعالى: وإذا حللتم فاصطادوا .
-الإرشاد: كقوله تعالى: وأشهدوا إذا تبايعتم .
-التأديب: كقول الرسول i: كل مما يليك .
-التهديد: كقوله تعالى: اعملوا ما شئتم .
-التسوية: كقوله تعالى: فاصبروا أو لا تصبروا .
-الإهانة: كقوله تعالى: ذق إنك أنت العزيز الكريم .
-الاحتقار: كقوله تعالى: فاقض ما أنت قاض .
-الامتنان: كقوله تعالى: كلوا من طيبات ما رزقناكم .
-الإكرام: كقوله تعالى: ادخلوها بسلام ءامنين .
-التعجيز: كقوله تعالى: فأتوا بسورة من مثله .
-الدعاء: كقوله تعالى: واغفر لنا .
-التكوين: كقوله تعالى: كونوا قردة خاسئين .
-التمني: كقول امرئ القيس: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي .
-الإنذار: كقوله تعالى: فأذنوا بحرب من الله ورسوله .
إلا أننا لوعدنا إلى تراثنا العربي لوجدنا أن هذا التقسيم الدلالي لصيغة الأمر موجود، بل هناك من أضاف على هذه الصيغ صيغ أخرى لتصل إلى ثمان وعشرين صيغة، وهي :
-الوجوب: كقوله تعالى: أقيموا الصلاة .
-الندب: كقوله تعالى: فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا .
-الإباحة: كقوله تعالى: وإذا حللتم فاصطادوا .
-الإرشاد: كقوله تعالى: وأشهدوا إذا تبايعتم .
-إرادة الامتثال: كقول السيد عند عطشه لعبده اسقيني ماء.
-التسخير: كقوله تعالى: كونوا قردة خاسئين .
-الخبر: كقوله تعالى: ولنحمل خطاياكم .
-الإنعام: كقوله تعالى: كلوا من طيبات ما رزقناكم .
-التفويض: نحو قول المرأة لوليها "زوجني ممن أحبت"
-التعجب: كقوله تعالى: انظر كيف ضربوا لك الأمثال .
-التكذيب: كقوله تعالى: قل فاتوا بالتوراة .
-المشاورة: كقوله تعالى: فانظر ماذا ترى .
-الاعتبار: كقوله تعالى: انظروا كيف كان عاقبة المكذبين .
وأما دلالة النهي لغة المنع: يقال عن الشيء أَنْهَاهُ نَهْيًا فَانْتَهَى عنه، ونَهَوْتُهُ نَهْوًا، ونَهَى الله تعالى؛ أي حرم، النُّهْيَةُ العقل؛ لأنها تنهى عن القبيح، ويمنع صاحبه من الوقوع فيما يخالف الصواب، والجمع نُهًى .
وأما من حيث الاصطلاح نجد الغزالي (ت505هـ) ينص على أنه "القول الطالب للترك دلالة أولية" ، أو هو طلب الكف عن فعل على جهة الاستعلاء ، وهو ما عدّه الشريف نفسه بقوله: "القول الدال على طلب الامتناع من الفعل على جهة الاستعلاء" .
وأما صيغته فهي (لا تفعل) عند الشريف التلمساني، والرأي نفسه عند العلماء الأصوليين الذين سبقوه في هذا الجانب.
وأما هذه الصيغة فقد استعملت في اللغة في ستة معان حسب رأي التلمساني :
-النهي: كقوله تعالى: لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى .
-الدعاء: كقوله تعالى: ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به .
-بيان العاقبة: كقوله تعالى: ولا تحسبن الله غفلا عما يعمل الظالمون .
-اليأس: كقوله تعالى: لا تعتذروا .
-الإرشاد: كقوله تعالى: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم .
-التحقير: كقوله تعالى: ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا .
وإذا استقرأنا تراثنا العربي لوجدنا التقسيم نفسه لمعاني النهي، وهو ما جاء به الغزالي نفسه :
-النهي: كقوله تعالى: ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم .
-التحريم والكراهية والتحقير: كقوله تعالى: لا تمدن عينيك .
-بيان العاقبة: كقوله تعالى: ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون .
-الدعاء: كقوله تعالى: ربنا لا تزغ قلوبنا .
-اليأس: كقوله تعالى: لا تعتذروا اليوم .
-الإرشاد: كقوله تعالى: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم .
وعالج التلمساني في الطرف الثاني ضمن المنطوق ما يسمى بالدلالة على متعلق الحكم؛ الذي اشتمل بدوره على أربعة أقسام هي: النص، الظاهر، المجمل، المؤول. وهو في قوله: "إن اللفظ إما أن يحتمل معنيين أو لا يحتمل إلاّ معنى واحداً، فإن لم يحتمل بالوضع إلاّ معنى واحدا فهو النص، وإن احتمل معنيين؛ فإما أن يكون راجحا في أحد المعنيين أو لا يكون راجحاً، فإن لم يكن راجحاً في أحد المعنيين فهو المجمل، وهو غير متضح الدلالة، وإن كان راجحا في أحد المعنيين فإما أن يكون رجحانه من جهة اللفظ، أو من جهة دليل منفصل، فإن كان من جهة اللفظ فهو الظاهر، وإن كان من جهة دليل منفصل فهو المؤول" .
الدلالة بين الغموض والوضوح:
يرى نصر حامد أبو زيد أن اللغة بحكم طبيعتها تعتمد على طاقتي التجريد والتعميم، وعلى إثر ذلك قسم العلماء التركيب اللغوي إلى أربعة أنماط طبقا لآليات العلاقة بين المنطوق اللفظي والمفهوم الذهني؛ أي أن هذه الأنواع الأربعة هي نتيجة لإدراك القدماء على آليات النص في إنتاج الدلالة من خلال جدلية "الغموض والوضوح"؛ التي تشمل كل من "النص" و"الظاهر" ،"المجمل" و"المؤول"، وهذه الأقسام الربعة كلها خاصة بالعلاقة بين منطوق التركيب اللغوي وبين الدلالة؛ أي أن "النص" أقرب إلى "الظاهر" من حيث إن المعنى الراجح فيه هو المعنى القريب، بينما "المجمل" أقرب إلى "المؤول" من حيث إن المعنى الراجح فيه هو المعنى البعيد . إلاّ أن إدراك"الدارسين الأقدمين لثنائية الوضوح والغموض، كان دعما قويا لحصر المجال الإدراكي للحدث الدلالي في كل مستوياته الظاهرة والباطنة، وهو الأمر الذي أدى إلى آليات كافية لتغطية جميع أنماط التلقي، سواء كان ذلك بالوقوف على الظاهرة بآلية التفسير، أو الوقوف على الخفي بآلية التأويل" .
ومن خلال ما سبق يمكننا إجمال تلك الأنواع في الترسيمة الآتية:
• من حيث الوضوح الدلالي:
1- النص:
إن النص لغة هو "الكشف والظهور،...ونص الشيء رفعه. ونص الحديث إلى فلان: رفعه إليه" .
وأما من حيث المفهوم الاصطلاحي فهو" أن إفادته ظاهرة بنفسه...لا يحتمل التأويل" ، وهو ما نص عليه ابن الحاجب بقوله: "بأنه ما دل على معناه دلالة قطعية" .
وبذلك نجد أن الشريف التلمساني قد اقتفى أثر المتكلمين في تحديده لمفهوم النص بقوله: "وهو لا يقبل الاعتراض إلاّ من غير جهة دلالته على ما هو نص فيه" . واستشهد بالحديث النبوي الشريف قول الرسول i:" إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعاً على أن غسل الإناء من ولوغ الكلب سبع لا ثلاث، فرد على الحنفية الذي أوجبوا الغسل ثلاثا، لكنهم لا ينازعون في دلالة لفظ السبع على العدد المعلوم، بل يقولون: كان أبو هريرة يفتي بغسل الإناء ثلاثا وهو راوي الحديث، فدل على أن الحديث غير معمول به . وهو بذلك يقتفي أثر المتكلمين في أن النص يحتمل دلالة قطعية، ولا يحتمل التأويل.
2- الظاهر:
لغة بمعنى الواضح، والوضوح: الظهور، والظهور الظفر بالشيء والاطلاع عليه، وظهر الشيءُ ظهوراً: تبيّنَ، وأظهرت الشيء: بيّنْتُهُ، وهو ضد الباطن .
وأما من حيث الاصطلاح فقد عرّفه الآمدي (ت631هـ) بقوله: "ما دل على معنى بالوضع الأصلي أو العرفي، ويحتمل غيره احتمالا مرجوحاً" .
ولذلك يقول التلمساني: "الظاهر هو اللفظ الذي يحتمل معنيين، وهو راجح في أحدهما من حيث الوضع، فلذلك كان متضح الدلالة" . فهو بهذا التعريف تنبيه بما جاء به الآمدي على سبيل الذكر لا الحصر.
وأن أمثلة الظاهر ما نجده شائعا عند العلماء في أن الظاهر بحكم عرف الاستعمال إطلاق لفظ "الأسد" على الحيوان المعروف، ومن الظاهر بحكم عرف الاستعمال إطلاق لفظ "الغائط" بإزاء الخارج المخصوص من الإنسان .
ولاتضاح الدلالة من جهة الوضع ثمانية مسائل جعلها التلمساني على شاكلة الثنائيات، ومنها الآتي:
1-دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز: الحقيقة لغة" من حق الشيء إذا وجب، واشتقاقه من الشيء المحقق، وهو الحكم. يقال: ثوب محقق النسج؛ أي محكمه" . وهي "فعيلة من حقَّ الشيء بمعنى ثبت" .
وأما من حيث الاصطلاح فهي عند أبي حامد الغزالي اللفظ المستعمل في موضوعه ، هو نفسه ما صرّح به التلمساني قائلاً: "الحقيقة اللفظ المستعمل فيما وضع له؛ كإطلاق لفظ الأسد على الحيوان المفترس" .
وأما المجاز فهو لغة من جاز الموضع أو المكان، يجوزه إذا تعداه، والكلمة إذا وضعت في غير موضعها الأصلي فقد تعدته إلى غيره .
وفي الاصطلاح يرى الغزالي أن المجاز "قد يطلق على اللفظ الذي تجوز به عن موضعه" ، وعند الآمدي: "اللفظ المتواضع على استعماله، أو المستعمل في غير ما وضع له أولاً في الاصطلاح الذي به المخاطبة لما بينهما من التعلق" .
ويأتي التلمساني مسايرا لسابقيه في تحديد مفهوم هذا النوع الدلالي بقوله: "المجاز اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بينه وبين ما وضع له؛ كإطلاق لفظ الأسد على الرجل الشجاع" ؛ ويتضح من كلام التلمساني أن هذه العلاقة هي ما يربط بين الاستعمال المجازي للفظ، والاستعمال الذي وُضع له أصلاً، إلاّ أنه يرجّح استعمال اللفظ لحقيقة بدلا من مجازه في حالة ما إذا احتمل معنيين بقوله: "فإذا كان اللفظ محتملا لحقيقته ومجازه، فإنه راجح في الحقيقة" .
نجد تحديد التلمساني لثنائية الحقيقة والمجاز من أجل أن يبيّن لنا التقسيم الثلاثي للحقيقة ومقابله في المجاز، ليؤكد في الأخير على استعمال الحقيقة بدلاً من المجاز في حال احتمال معنيين للفظ، هذا التقسيم يظهر لنا في الترسيمة الآتية:
لقد ركز التلمساني في تقسيمه على طبيعة الواضع؛ إذا كان صاحب الوضع هو اللغوي كانت الحقيقة لغوية، وإذا كان الواضع هو الشارع فإن الحقيقة هي حقيقة شرعية، وإذا تعارض الناس واصطلحوا على طبيعة اقتران الدال والمدلول كانت الحقيقة عرفية.
أ- الحقيقة اللغوية: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولاً في اللغة؛ كالصلاة دلالة على الدعاء. وهو مثال ما احتج به أصحاب الشافعي وغيره أن خيار المجلس مشروع، وذلك بقول الرسول i: المُتَبَايعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا فالمراد عند المالكية وأصحاب أبي حنيفة إنما المراد بذلك المتساومان، وافتراقهما بالقول؛ أي هما في حال تساومهما بالخيار ما لم يبرما العقد ويمضياه، فإذا أمضياه فقد افترقا، ولزمهما العقد. وقد يطلق اسم الشيء على ما يقاربه كقول الرسول i: لا يبيع أحدكم على بيع أخيه ولا ينكح على نكاحه ؛ وإنما المقصود بالبيع السوم، والنكاح الخطبة؛ باعتبار أن السوم وسيلة للبيع، والخطبة وسيلة للنكاح. وجاء رد الشافعي حسب التلمساني أن إطلاق المتبايعين على المتساومين مجاز، وإطلاق التفرق على تمام العقد مجاز، ولكن الأصل في الكلام الحقيقة .
ب- الحقيقة الشرعية: فهي اللفظ المستعمل فيما وضع له في الشرع؛ كالزكاة التي تتمثل حقيقتها الشرعية في إخراج حق واجب معيّن شرعا من الأغنياء وتسليمه للفقراء.
وينص التلمساني على الرغم من الخلاف الواقع بين الأصوليين في إمكانية وقوعها، إلاّ أن الجمهور يحتجون بها ويعترفون بوقوعها؛ وهو ظاهر في احتجاجهم على أن المُحرم لا يتجوز في حال إحرامه استنادا لقول الـرسول i: لاَ يَنْكِحُ المُحْرِمُ وَلاَ يُنْكَحُ . وأجاب الأحناف أنه يحتمل أن يريد بالنكاح الوطء، ولكن إذا كان المراد به الوطء دل الخبر على حرمة الوطء على المحرم لا على حرمة العقد، والجواب كما يرى التلمساني وعند أصحابه أن إطلاق النكاح على الوطء مجاز شرعي، وعلى العقد حقيقة شرعية، وحمل اللفظ الشرعي على حقيقته الشرعية أولى من حمله على المجاز الشرعي .
ج- الحقيقة العرفية: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له في العرف؛ كالدابة التي تطلق في اللغة على كل ما يدُّب على الأرض، وفي العرف تستعمل في بعض ما يدب دون بعض؛ فالنوع الأول الذي تستعمل فيه عرفا يسمى دلالة عرفية، ومثاله إذا قال الزوج لزوجته "أنت طالق"، وقال: أردت من وَثاقٍ، فإن الطلاق بمعنى الإطلاق، وهو حقيقة لغوية في الحل من وثاق غيره، فيقال: هذا اللفظ حقيقة عرفية في حل عصمة النكاح مجاز في الوَثاق، وحمل اللفظ على حقيقته العرفية أولى من حمله على المجاز العرفي .
2-دوران اللفظ بين الانفراد والاشتراك: يرى التلمساني أن الاشتراك على خلاف الأصل؛ باعتبار أن الأصل في الألفاظ الانفراد لا الاشتراك، واحتج الجمهور على أن أمر النبي i محمول على الوجوب، وهو قوله تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ، وتأتي حجة المخالفين لهذا الأمر هو أن المراد في ذلك يحتمل الأمر القولي، وأيضا يراد به الشأن والفعل، كقوله تعالى: وما أمر فرعون برشيد ، وأنه إذا صح إطلاق لفظ الأمر على القول المخصوص لزم اشتراك لفظ الأمر بين المعنيين، وبالتالي يبطل الاستدلال مجرد الاشتراك، لكنه سبب غير مقنع ودليل غير دامغ في حد ذاته؛ لأنه كما يرى التلمساني وغيره الأصل في الألفاظ هو الانفراد لا الاشتراك، فوجب انفراد لفظ الأمر بأحد المعنيين بالوضع، وأن تكون دلالته على المعنى الآخر بالمجاز، وأنه حقيقة في القول ومجاز في الفعل، واللفظ حمله في حقيقته دون مجازه.
وبالتالي يخرج التلمساني في حل هذا الإشكال برأي جامع منطقي، أو ربما جعله كقاعدة يقف عندها المستنبط؛ وهي أنه إذا تعارض المجاز والاشتراك، كان الأخذ بالمجاز أولى من الاشتراك .
وبالتال يمكننا القول إن التلمساني يعد عالما لغويا ودلاليا بلا منازع، وإن برع في مجال الدلالة فذلك سبيل لأجل الوصول إلى استنباط الأحكام الشرعية من النصوص الدينية، ولا يأتى ذلك إلا بالاحتكام لقواعد اللغة، وللتوظيف السليم للنوع الدلالي الخاص في النصوص.
هوامش:
مواضيع مماثلة
» الجهود المعجمية للدكتور أحمد مختار عمر(دراسة وصفية)
» الازدواجية اللغوية في الواقع اللغوي الجزائري وفعالية التخطيط اللغوي في مواجهتها
» الازدواجية اللغوية في الواقع اللغوي الجزائري وفعالية التخطيط اللغوي في مواجهتها
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى