أثر الانزياح في تشكيل قصيدة التفعيلة عند أحمد مطر – مقاربة أسلوبية في قصيدة أنا إرهابي –
صفحة 1 من اصل 1
أثر الانزياح في تشكيل قصيدة التفعيلة عند أحمد مطر – مقاربة أسلوبية في قصيدة أنا إرهابي –
أثر الانزياح في تشكيل قصيدة التفعيلة عند أحمد مطر
– مقاربة أسلوبية في قصيدة أنا إرهابي –
أ.منى جميات
جامعة ابن خلدون - تيارت
الملخص:
[يعتبر الانزياح ظاهرة أسلوبية قد أضافت للنصوص الأدبية الشعرية منها أو النثرية خصوصية تشكيلية ورؤية جمالية، ودلالية تتوخى ممارسة القول الأدبي بأسلوب ينحو للتجديد ومواكبة عصر التطور الأدبي، لحيازة العالم شعوريا وجماليا، أين تصبح للغة سلطتها وقوتها التي تبقيها هي العلامة الإبداعية الأبرز، والتي تتشكل وفقها البنيات الأسلوبية والبلاغية، ولأن القصيدة العربية المعاصرة قد عُرفت بتميزها ومكانتها الخاصة داخل متون الشعر العربي، جاءت مقالتنا هذه لتحليل ظاهرة الانزياح عند "أحمد مطر"]
Abstract :
] Displacement is a stylistic phenomenon which has added to the literary texts (poetry or prose) plastic privacy, aesthetic vision and tag. These avoid the exercise of literary speech with a style that tend store newal and keep up with the age of literary development, topossess the world emotionally and a esthetically, where the language maintains its power and strength that keep it the most prominent creative mark, and according to which are formed the stylistic and rhetorical structures.
And because contemporary Arabic poem was known for its excellence within Arabic poetry, our article aims at analyzing this phenomenon of displacement for "Ahmed Matar” [ .
تمهيد:
مما لاشك فيه أن الشعر العربي المعاصر قد كشف عن قدرة فنية كبيرة في إعادة تشكيل وبناء معمارية الشعر العربي، وفق مقولة رفض نموذج القصيدة التقليدية ومعانقة عوالم التجديد والتجريب في رحاب اللغة والكلمة الشعرية، فتعددت مسميات القصيدة، وتباينت فيما بينها بين (قصيدة الشعر الحر، وقصيدة النثر، وقصيدة التفعيلة...) وتعددت وظائف اللغة حتى باتت هي الملمح البارز، والإشكالية التي يتعامل معها الشاعر تعاملا إبداعيا ينم عن كثير من الحذر والحرص على توليد الطاقات البلاغية والأسلوبية الجمالية والفنية، وذلك لأن الشاعر العربي المعاصر لا يتعاط مع اللغة بوصفها أداة تقوم بتوصيل رسالة إبلا غية فحسب، بل إنه يتعاط معها بوصفها هدفا يتوخى من خلالها تحقيق الغاية الجمالية.
انطلاقا من هذه الفكرة جاءت مقالتنا هذه بعنوان أثر الانزياح في تشكيل قصيدة التفعيلة عند أحمد مطر – مقاربة أسلوبية في قصيدة أنا إرهابي – وقد اخترنا الخوض في دراسة ظاهرة الانزياح عند هذا الشاعر نظرا لأهميتها وكثرة تواجدها في هذه القصيدة محاولين الإجابة عن الإشكاليات التالية:
ما هي مظاهر الانزياح في قصيدة أنا إرهابي؟ وما هي الوظائف الأسلوبية والبلاغية التي يحققها الانزياح في القصيدة؟ والى مدى أسهمت ظاهرة الانزياح في بلورة السمات الجمالية والفنية للقصيدة ؟
في مفهوم الانزياح:
يعتبر مصطلح الانزياح من أكثر المصطلحات النقدية شيوعا وتداولا في الدارسات الأسلوبية والنقدية الحديثة التي تعتني بالنص الأدبي وطرائق استخدام اللغة فيه، والانزياح بوصفه ظاهرة أسلوبية فقد استحوذ على اهتمام الباحثين والنقاد، غير إن جُل الأبحاث قد جعلت من الانزياح مفهوما يقوم على دلالات الخرق، والانتهاك لنمط الكتابة السائدة والعادية بحيث باتت " نظرية الانزياح تتجلى في خرق الشعر لقانون اللغة "1، وهذا لبناء دلالات جديدة تمنح النص الأدبي شيئا من المغايرة، والجمال الذي يصبح معه النص الشعري"يرنو إلى اللاعقلانية أو اللامألوف أو اللاعادي "2، إذ لا يعمل على إحداث الغرابة ولا يصبح عنصرا دخيلا مادام أنه " يثير الدهشة ويكشف عن عملية إبداعية تجسد قدراتها التأثيرية في المتلقي"3.
ولئن كان جون كوهين من بين أبرز النقاد الغربيين المهتمين بظاهرة الانزياح، بحيث جعله شرطا ضروريا لتحقق الشعر كخطاب أدبي، فالشعر بحسب رأيه هو" انزياح عن معيار هو قانون اللغة، فكل صورة تخرق قاعدة من قواعد اللغة أو مبدأ من مبادئها "4، لهذا فإن كوهن قد كان يعني "بالانزياح خرق القواعد اللغوية، أي خرق قواعد داخلية تكمن في النص الشعري نفسه"5، فلا وجود للشعر ما لم يكن حاضرا الانزياح فيه ؛ذلك أن لغة الشعر لا تنبني إلا على أسس من الفرادة والجمال التي يصبح معهما النص الشعري " خطابا مختلفا عما اعتاده الناس من خطابات متعددة"6، والنقد العربي الحديث قد أقام دراسته لظاهرة الانزياح على تعدد مسمياته ومصطلحاته لدرجة بات الانزياحl’ecrat) ( في النقد الحديث يعبر عن "التشويش" و"البعد" "الفارق" و"الخروج" و"الخرق" و"الابتعاد" و"الشذوذ" و"التشويه" و"المجاوزة" و"الانتهاك" "النشاز" "الاتساع..."7، وهذا التعدد بقدر ما أبعد الانزياح عن التأطير ضمن مسمى واحد ومشترك ، بقدر مع دعا إلى الاتفاق على شمول كل هذه التسميات معنى واحد هو الانزياح أو العدول والانحراف -كما يفضل البعض تسميته - التي تتجه كلها للتدليل على ظاهرة أسلوبية واحدة، ترافق لغة الشعر في جمال بنائها وتركيبها .
فالانزياح بهذا التصور هو اشتغال على اللغة التي تصبح مخالفة ومغايرة للاستعمال العادي والمألوف لأجل توليد الطاقة الجمالية، والبلاغية التي تأتي من تغيير دلالات الكلمات وفق تركيب جديد، وهنا يصبح اللجوء لاستخدام الانزياح من قبل الشاعر ليس "عفويا وإنما قصد إليه صاحب الخطاب قصدا"8، وهذا القصد إنما جاء - بالأساس- كوسيلة لـــ"إثراء اللغة الشعرية وإغناء التحولات الإسنادية التركيبية في النص الشعري مما يجعله أكثر حيوية ويبعث في نفس القارئ الحرص على مداومة النظر في التركيب بغية الوصول إلى الدلالة، بل الدلالات الكامنة وراء هذا الاختلاف أو الانتهاك والشذوذ"9.
قصيدة التفعيلة أي قصيدة؟:
شهدت الحركة الشعرية العربية تحولا كبيرا على مستوى البناء والشكل، تحول قد مهد لظهور تجارب شعرية جديدة عديدة حملت لواء التجديد والرفض لشكل القصيدة العمودية التي عرفها الشعر العربي القديم فيما سبق، فبات الشاعر المعاصر "يفتش عن طريقة تخلصه من الشكل الصارم في القصيدة والموشح"10، فحدث أن تعددت مسميات القصيدة التي لم تعد تحمل شكلا أو اسما واحدا، فبين قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة وقصيدة الشعر الحر حدث النقاش، والجدل الذي أثار إشكاليات نقدية عديدة انصبت كلها في دلالات المصطلح، والبحث في طرائق تشكل القصيدة الحديثة من حيث الرؤية والبناء الشكلي وتقنيات التوظيف للغة والإيقاع.
وبالحديث عن قصيدة التفعيلة التي تعد شكلا من أشكال التطور الشعري، فإننا نجد أن هذه القصيدة قد ارتبط وجودها بأسماء شعرية معروفة وهذا من قبيل نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي هؤلاء الذي يبدو أنهم هم من كانوا "رسل هذه الثورة بتأثير من الشعر الانجليزي "11، بحيث كان للأعمال الشعرية الغربية لأليوت وجون كيتس، ولوركا وإيديث ستيويل أثر كبير في توجيه الشعراء المعاصرين لكتابة هذا النوع من القصيدة .
وإذا كانت القصيدة العمودية قد التزمت بشكل واحد جعل منها تحتفظ بقافية، ووزن عروضي واحد فإن قصيدة التفعيلة قد جاءت لتمثل "تخلصا من رتابة القافية الواحدة (دون الاستغناء عن القافية تماما) وتنويعا في عدد التفعيلات في السطر الواحد (دون مبارحة الإيقاع المنظم )"12، وهذا يعني أنها لا تلتزم بوحدة القافية والروي وتأتي بتشكيل إيقاعي متعدد يصبح هو "الشرط الضروري والجوهري في الخطاب الشعري، وليس الوزن العروضي الذي يمثل إحدى التشكيلات الإيقاعية الممكنة للشعر العربي "13.
مظاهر الانزياح في قصيدة أنا إرهابي للشاعر أحمد مطر:
يعتبر أحمد مطر أحد الشعراء المعاصرين الذين شغفوا بالكتابة عن الوطن والسياسة هذه الأخيرة التي شكلت رمزا للكتابة الشعرية عند هذا الشاعر أين باتت القصيدة عنده "تحمل رؤيا القلق، وتستدني الأفق وتستشرف الرؤية في أسئلة تستجلي يقينا طريقة غير مذلل، وتتهيأ في تشكيلات لا تقنع بسدر الشكل ورتابته، وتنبجس من لغة الاحتمال والرمز والسؤال"14، فالمتتبع للأعمال الشعرية للشاعر أحمد مطر سيجد ذلك التمازج بين الموضوعية الصريحة في طرح قضايا السياسة والأرض والواقع العربي بطريقة تحمل هاجس السؤال والسخرية، وبين والتركيب الفني في توظيف البنيات الأسلوبية والبلاغية .
يعمد أحمد مطر في استعماله الفني للغة إلى مخالفة الاستعمال العادي بالخروج على قواعد الاستخدام اللغوي المعتاد، ويميل ميلاً شديداً إلى كسر رتابة النظام اللغوي على مستوييه النحوي والصرفي، وهو بحسه الشعري ينـزع إلى تشكيل اللغة حسبما تقتضيه حاجته لتقديم رؤاه وأحاسيسه بالطريقة التي يراها أكثر تأثيراً من غيرها، ولو أدى ذلك إلى الإخلال ببنية الكلمة أو نظام الجملة، حيث استطاع الشاعر"أحمد مطر"أن يخلق انزياحاً دلالياً غاية في الروعة مما يولد لدى المتلقي إحساساً بالدهشة والمفاجأة ويشحنه بطاقة انفعالية قوية، لذا سنتعرّض الآن إلى مقولات التحليل لقصيدة"أنا إرهابي"من زاوية عدولها عن الكلام الشائع، وانحرافها عن المألوف.
- العنوان:
إذا كان العنوان "مفتاحا أساسيا يتسلح به الدارس للولوج إلى أغوار النص العميقة قصد استنطاقها وتأويلها عبر تفكيكها وإعادة تركيبها "15، فإن عنوان قصيدتنا هذه"أنا إرهابي"يحمل بذور السخط والتمرد، يتناقض مع ذاته بما يسوده من تبعثر لفظي ودلالي، إذ اتحد في صلبه الضمير والذات، بشكل يثير انفعال القارئ وفضوله حين يفاجأ في أول لقاء له بالنص بهذا الانزياح الأسلوبي، والخروج عن النمط التعبيري المتعارف عليه مما يضعف من دور الوظيفة المرجعية، ويجعل المعنى مشوشا، مبهما، وزاده غموضا توالي الإقرار في صيغة العنوان"أنا"وكأن أحمد مطر يصرّ على قطع جسور التواصل بين نصه وقارئه، فالضمير(أنا) وكلمة(إرهابي) تجسّدان المظهر المعنوي لفعل السخط والتمرد أو حالة تجاوزية للثوابت يباح فيها كلّ شيء بما في ذلك التناقض والتشويش والانزياح والعدول، كأن كلمة "إرهابي"هي شفرة خاصة تحمل "القدرة على البث المتواصل للمعاني والمشاعر بظلالها وإيحاءاتها"16 .
أنا إقرار الضمير(أنا)يجسد الانتماء والهوية(عربي).
إرهابي زارع الرعب/لا يخاف منبوذ(عربي)
أنا عربي =إرهابي عربي أنا=أنا المتمرد =السخرية والاستهزاء من الغرب المتغطرس.
حيث يأتي العنوان كظاهرة جمالية تتسم بالقصدية التواصلية، وما تحتمه هذه السمة على المتلقي من تحفيز ثقافته في فك شفرات العنوان وإنتاج دلالته، والشاعر"أحمد مطر" أثقل عنوان قصيدتة"أنا إرهابي" إذ يمتاز في المستوى النصي بكثافة الدلالات التي لا يمكن الولوج إلى مدلولاتها إلا في مستوى القصيدة، الأمر الذي يؤشر قوة ارتباط العنوان بالقصيدة عنده حيث يعتبر العنوان علامة دالة على النص، تتصدّره، وتعرّفه، وتؤطّر كيانه اللغوي والدلالي:
وطغيان الشاعر وتمرده على الغرب يمكن أن نسجله في ابتلاءه بقضايا أمته وعروبته، فاستحضر الضمير"أنا"على مستوى العنوان كوجه يقر به طغيانه وتمرده على الأمر الحاصل(سيطرة الغرب) في إثبات إيمانه وانتماءه وهويته التي يراها الغرب فعلا إرهابيا.
أنا إبليس استعلاء كفر انزياح
أنا الشاعر سخط إيمان
يأتي الانزياح في التوزيع تالياً في الاختيار بعد إسقاط محور الاختيار"العلاقات الاستبدالية"على محور التوزيع"العلاقات الركنية"، حيث يتم توزيع الكلمات التي تم اختيارها من رصيده اللغوي توزيعاً يخرج بها عن المألوف، فتتوزع الكلمات فيما بينها داخل الجملة، والجمل فيما بينها داخل المقاطع، ويكون لذلك تأثير دلالي وتركيبـي...، ويتصرف"أحمد مطر"في تشكيل أساليبه، فهو لا يخضع لقواعد ثابتة مستقرة، وهذه هي نواة أدبية الخطاب في شعره، لذا تجده يتصرف في أدائه الفني والأسلوبي، ولا يعبأ أحياناً بنظام ترتيب الكلمات وتوزيعها على النمط المعهود، وفي ما يلي بيان ذلك.
1-التقديم والتأخير:
تشكل ظاهرة التقديم والتأخير انزياحا في التركيب، لأنه لا تظهر إلا من خلال التركيب، والانزياحات التركيبية في الشعر تتمثل أكثر من خلال ما يعرف بـ:"التقديم والتأخير"، فالبنيات النحوية في اللغة عامة ومطردة، إذ نجد في اللغة العربية أن الفاعل يأتي تاليا لفعله، وسابقا لمفعوله هذا في الغالب إن كان الفعل متعديا، لكن الشاعر قد عمد إلى قلب هذه القاعدة حتى يحقق الانزياح في قصيدته، ومن أمثلة ذلك قول الشاعر:
الغربُ يبكي خيفـةً
إذا صَنعتُ لُعبـةً
من عُلبـةِ الثُقابِ
والغربُ يلتـاعُ إذا
عَبـدتُ ربّـاً واحِـداً
في هـدأةِ المِحـرابِ.17
إن موضع التقديم في هذين المقطعين هو في قول الشاعر:"الغرب يبكي"و"الغرب يلتاع"والشاعر في هدين التركيبين قدم المسند إليه على المسند لغرض معنوي...تقديم الغرب بوقعها وكل ما تحمله من دلالات الغطرسة والقوة والسيطرة لتبعها بفعل (يبكي/يلتاع)ي كسر به أفق توقع المتلقي ويكشف فيه الأسطورة المزيفة بسخرية وتهكم، فيحدث بذلك المفاجأة، ويتحقق بذلك مظهر من مظاهر الانزياح الدلالي، ومعنى هذا أن التقديم انزياح عن أصل الرتبة ومؤشر أسلوبي يكون لغايات تتصل بالمعنى، وهو شأن الأسلوب العدولي مع جميع القرائن، فكلمة"الغرب"في بداية القصيدة تعني"الأخر"ولو كتب النص بالكلمات الأصلية لفقد شاعريته وجماله، ولهذا عندما عمد"أحمد مطر" لتوظيف الاستعارة المفردة تزايدت شاعرية المقطع أكثر
وهنا يصبح للتقديم والتأخير"الأثر البالغ في تشكيل الانزياح التركيبي الذي يولد الشاعرية في النص فقد أتت كلمة الغرب"الفاعل"متقدمة(استصغارا وتحقيرا) عن الفعل"يبكي"(شماتة وسخرية)، وكأنه يريد أن يقول هذا الذي تحسبونه قويا وتقدسونه ما هو إلا جبان صغير وضيع خائف، حيث نلحظ تصرفا في مواقع الكلمات أي التصرف في البناء النحوي للجملة، ومثل هذا التصرف في البناء النحوي لا يعني مخالفة القواعد وإنما يعني العدول عن الأصل:
الغرب الأخر (الأسطورة المزيفة)
يبكي خيفة التستر/عدم إعلان (الذعر والخوف)
يلتاع يحترق فؤادُه من الهَمٍّ أو الحزن (بؤس وشقاء)
وكما نلاحظ فإن عبارة (يبكي خيفة) انعطفت بالمقطع الأول في القصيدة انعطافا حادا وكذلك لفظة (يلتاع) في المقطع الثاني، إذ جاءتا في سياقهما الظاهري بصورة غير متوقعة تأسيسا على ما قيل قبليهما(الغرب=القوة والسيطرة) وما بعدها (إذا صَنعتُ لُعبةً مِن عُلبـةِ الثُقابِ/إذا عَبدتُ ربّاً واحِداً في هـدأةِ المِحرابِ =السخرية) ما أسهم في توتر اطمئنان القارئ الذي فوجئ بهذا التنامي اللامنتظر للفعل الشعري الذي ساهم جماليا في تعميق الإحساس لدى المتلقي بالاستغراب والدهشة والتعجب، إذ ساهم أسلوب الشرط في المقطعين في تعميق دلالة السخرية والتهكم، حيث أصبح يمثل فعل السيطرة والغطرسة والترصد الذي يتفنن فيه الغرب.
2- الذكر(الزيادة):
لا يخلو الشعر العربي من الزيادة، إذ يتخطى الشاعر المعنى الوظيفي للجملة إلى وظائف أسلوبية لا يمكن تحقيقها إلا باستحضار العناصر الزائدة على مجرد النمط التركيبي في المعنى الوظيفي.
وَهْـوَ الذي يعجِـنُ لي
مِـنْ شَعَـراتِ ذيلِـهِ
ومِـنْ تُرابِ نَعلِـهِ
ألفـاً مِـنَ الأربابِ
ينصُبُهـمْ فـوقَ ذُرا
مَزابِـلِ الألقابِ18
كان بإمكان الشاعر أن يقول"وهو يعجن لي"غير أنه لجأ إلى زيادة الاسم الموصول"الذي"، وأحمد مطر قد أضافها كتأكيد للفاعل(الغرب) يحمل سخطا، وقد أضاف"الاسم الموصول"(الذي)عبر به عن سخطه وتمرده، وهذا ما زاد من تأكيد المعنى وقوته، والزيادة هنا عدول عن المألوف والشائع .
كما كان بإمكان الشاعر أن يقول: وَهْـوَ الذي يعجِـنُ لي من شَعَـراتِ ذيلِـهِ وتُرابِ نَعلِـهِ آلاف الأربابِ.غير أن الشاعر لجأ إلى تكرار (من/حرف الجر)وهذا ما جعل مقاطع القصيدة مترابطة، وسر هذا التكرار، إذا دل على شيء إنما يدل على خروج الشاعر عن أصل الكلام من تحقيق الجمالية الشعرية من خلال إحداث رنة ونغمة موسيقية تسر السامع، وهذا ما يعرف بالانزياح، وهو ما يسهم في ثراء الأسلوب بالجمال والإشراق.
والغَـربُ يرتاعُ إذا
أذعتُ، يومـاً، أَنّـهُ
مَـزّقَ لي جلبابـي.
أنصَـحُ كُلّ مُخْبـرٍ
ينبـحُ، بعـدَ اليـومِ، في أعقابـي
أن يرتـدي دَبّـابـةً
لأنّني.. سـوفَ أدقُّ رأسَـهُ
إنْ دَقَّ، يومـاً، بابـي! 19
في هذا البيت يقول الشاعر "والغَـربُ يرتاعُ إذا أذعتُ، يومـاً، أَنّـهُ مَـزّقَ لي جلبابـي"، فالارتياع هنا غير مقترن بزمن معين أو بيوم معين، ولذلك فان لفظة"يوما"هي ظرف زمان مفعول فيه، وهي زائدة يمكن الاستغناء عنها، وبهذا يمكن القول أن الشاعر قد أضافها لغرض دلالي وجمالي يؤكد من خلاله ملازمة فعل"الارتياع"في المقطع لفعل "الإذعان"في حركة تلازمية يتجذاب فيها السبب مع ما يترتب عنه.
3-الحذف:
إذا صَنعتُ لُعبـةً
مِـن عُلبـةِ الثُقابِ
والغَـربُ يرتاعُ إذا
أذعتُ، يومـاً، أَنّـهُ
مَـزّقَ لي جلبابـي. 20
نجد في قول الشاعر"إذا صنعت لعبة"حذف الفاعل وجوبا لأنه لا يمكن أن يحل محله اسما ظاهرا إنما ينوب عنه ضمير مستتر تقديره"أنا"وتقدير الكلام"وإذا صنعت أنا لعبة"والانزياح عن هذا الأصل جاء لتخفيف الكلام فعندما نقول"إذا صنعت لعبة"نلمس خفة النطق، وهذا ما أسهم بإحلال لمسة جمالية لم نلحظها في الكلام الصريح"إذا أنا صنعت لعبة".
-الانزياح الإضافي في قصيدة أنا إرهابي:
هي المفاجئة التي ينتجها حصول اللامنتظر من خلال المنتظر؛ أي أن يتوقع المتلقي مضافاً إليه يتلاءم والمضاف. كأن تتوقع بعد كلمة طعنة الرمح أو السيف، لكن أن يضاف لها كلمة طعنة الريح أو الخوف، هكذا يصبح لدينا انزياح اضافي شعري بحت، وهو من الحيل المقصودة للفت انتباه القارئ حتى لا تفتر حماسته لمتابعة القراءة، ونقف على ذلك في قول الشاعر أحمد مطر.
الغربُ يبكي خيفـةً
إذا صَنعتُ لُعبـةً
مِـن عُلبـةِ الثُقابِ
ففي هذا المقطع نقف على الابتكار الذي صنعه الشاعر، حيث كان غاية في الروعة والجمال بحيث زاوج بين البكاء/الخيفة ولعبة/عود الثقاب.
البكاء خيفة لعبة عود الثقاب
وكأن الهلع يدب في الغرب بمجرد أن يفكر العربي في مسك عود الثقاب الذي يعتبر مصدرا وشرارة لفعل يخشاه الغرب لتأصل الخديعة والمكر في ذاته.
لقد حرك الشاعر أحمد مطر على نحو ما المجال التقريري ساعياً إلى دائرة الشعر رغم كونهما لا يتفقان"إضافة"في بينهما، فالبكاء خيفة يجسد حالة الرهب والخوف الشديد (النتيجة سبقت السبب)، فيحين جسد (السبب)في صورة تهكمية تحمل سخرية (لعبة من عود ثقاب)وصلت إلى زعزعة قوة وأسطورة في النهاية جعل من هذا التزاوج قيمة شعرية وفنية مميزة.
الغرب تلاشي الأسطورة وانكشاف الزيف تحقير (لعبة/عود ثقاب)
وهناك ما يمكن أن نسميه شعرية الكلمة وتطورها، ومنها التحولات في هذا الجانب، إذ إن التناسب بين الكلمة/المعنى وبين الغرض/الموضوع كان هو الأساس الذي يتم به قياس شعرية/شاعرية الكلمة إلا أن الشعر الحداثي بداية من الرومانطيقية أو الرومانسية أخذ في التحول بهذا المقياس إلى آفاق أخرى مبرزا الانزياح في المعنى، حيث يأتي الشعر مبرزا قدرته على الانزياح بمعنى الكلمة إلى معنى ذات دلالة جديدة (تجديد اللغة).
- توظيف أدوات الربط(بين الحضور والغياب):
هذه التقنية الأسلوبية ظهرت بشكل جليّ في شعر أحمد مطر، حيث أسهمت باعتبارها تشكيل أسلوبي فني يمكن أن يفيد منه النص، ويحقق له مستوى جمالياً فريدا، وقد صنف هذا النوع قديماً من الأسلوب تحت مسمى (الوصل والفصل) بمعنى أن الوصل هو عطف جملة على أخرى، وعكسه الفصل، وهذا مألوف ومتبع في الجملة النثرية التواصلية.
أما على مستوى الشعر فيصبح الأمر مختلفا، إذ يكتفي الشاعر بربط جزئيات السطر الشعري بتجاوز دواليه. مع احتمالية ترك العطف بفعل أنه أبلغ من ذكره، ومن الأمثلة على تصدر أداة العطف كل السطر الشعري في المقطع الواحد قول الشاعر أحمد مطر:
وَكَـيْ أؤدّي عِنـدَهُـمْ
شعائرَ الذُبابِ !
وَهْـوَ .. وَهُـمْ
سيَضرِبونني إذا
أعلنتُ عن إضـرابي .
وإنْ ذَكَـرتُ عِنـدَهُـمْ
رائِحـةَ الأزهـارِ والأعشـابِ
سيصلبونني علـى
لائحـةِ الإرهـابِ ! 21
وكي/وهو/وهم/وإن هذا التكرار خطر جداً في أغلب الأحيان، فكون التكرار وخاصة أحرف العطف يؤثر في كون المعنى منطلقاً مع كل جملة شعرية، إلا أنه قد لا يبعث على الملل، ومبدأ عطف الجملة على سابقتها كدلالة رجعية للمعنى المترابط المتراص مع بعضه.
أما التقنية الثانية هو خلو المقطع من أدوات الربط، وهذا أبلغ من الأول، وقد يكون الاستغناء عنه بتوالي أفعال الأمر أو الماضية أو المضارعة. ونقف على ذلك في قول الشاعر أحمد مطر:
هـا أنَـذا أقولُهـا.
أكتُبُهـا .. أرسُمُهـا ..
أَطبعُهـا على جبينِ الغـرْبِ
بالقُبقـابِ :
نَعَـمْ .. أنا إرهابـي!22
أقولها...أكتبها...أرسمها...أطبعها كلها أفعال مضارعة استغني معها عن أحرف العطف تقديراً من الشاعر ورغبة منها لتوسيع نطاق المعنى، وتركه بلا ركيزة معطوفة؛ليظل المعنى محلقاً على نحوٍ مستقل تتناثر معه العديد من الإيحاءات والدلالات، حيث يصبح الشعر في ظل العبث بالجملة الشعرية أكثر ملائمة وأقرب من التفكر والتبصر والإغراق، وهذا بطبيعة الحال يتطلب استدعاءات تاريخية وأسطرة العمل وموروثا ثقافيا واجتماعيا، كذلك إحداث اللبس في المعنى بإفضاء رموز متشابكة متداخلة، واستعمال جمل مركبة بلغة قريبة من المجتمع مفهومة غير مبتذلة، والأهم الصورة بدلاً من الإطباق على المعنى والتركيز على الفكرة.
أقولُهـا للإعلان
نَعَـمْ .. أنا إرهابـي! أكتُبُهـا للإقرار السخط والتمرد
أرسُمُهـا للعيان
أطبعُهـا للتاريخ
يتدرج الشاعر أحمد مطر من خلال الأفعال إلى الغلو والمغالاة في إثبات انتماءه وهويته مع حالة من السخط والثورة، فلم يقف عند الإعلان الشفهي، بل تجاوزها إلى فعل الكتابي الذي اتبعه بفعل رسمي يدعم سخطه ورفضه، إلى فعل طباعي يبقي آماله ملتهبة تبحث عمن يساير دربه في النضال والثورة، وقد تمظهرت جليا في آهات وشحنات ساعد على تلاشيها المقطع الطويل=الهاء +صائت الألف)متواصلة اضطرّ الشاعر إلى لإيقافها بترك فضاء نصي فارغ/ فراغ مطبعي تتخلله نقطتين فقط (..) لعله إشارة إلى استغراق زمني وجيز استغرقه الشاعر ليستعيد أنفاسه، وفي رسم نقطتين إشارة إلى الوقت الراهن، وتشخيص الحالة الراهنة.
نَعَـمْ .. أنا إرهابـي !
زلزَلـةُ الأرضِ لهـا أسبابُها
إنْ تُدرِكوهـا تُدرِكـوا أسبابي .
لـنْ أحمِـلَ الأقـلامَ
بلْ مخالِبـي !
لَنْ أشحَـذَ الأفكـارَ
بـلْ أنيابـي !
وَلـنْ أعـودَ طيّباً
حـتّى أرى
شـريعـةَ الغابِ بِكُلِّ أهلِها
عائـدةً للغابِ .
نَعَـمْ .. أنا إرهابـي 23.
وكما نلاحظ فقد تكررت الجملة (نعم.. أنا إرهابي)مرتين على طول القصيدة، فهذا الأسلوب أو تلك الجملة ذات محمول توصيلي، إلا أن الشاعر وظفها في موقف تهكمي؛لتأخذ معنى دلاليا ساخرا (أعلن عن تبنيه من الوهلة الأولى أي على مستوى العنوان كعتبة للنص الشعري ككل) غاضبا تعجبيا مقترنا بالحزن معا، وهنا يبدو لنا تحول بين المعنى المعجمي السطحي للكلمة، والجملة إلى آفاق أخرى دلالية أعطت لها صفة الشاعرية ما يعني انفتاح جميع الكلمات، وقدرتها على أن تعطي ذات الصفة شريطة أن يجيد الشاعر بقدرته على توظيفها في الموقف؛ لتأخذ المعنى الدلالي المراد الجديد.
المعنى المعجمي(السطحي) المعنى الجديد
نعم =الإقرار =الجرأة =المواجهة
أنا =الذات = تحديد الانتماء =إبراز الهوية
إرهابي =زارع الرعب= الذي يخشاه الغرب =مزعزع الأسطورة المزيفة.
وكما نلاحظ فإن قوة المعنى الدلالي تكمن في حسن الهوة والمسافة الفاصلة بين المعنى المعجمي/السطحي، وبين المعنى الدلالي الجديد والموظف في الموقف الشعري، وكلما اتسعت هذه المسافة كانت الكلمة/الجملة ذات شعرية أكثر من غيرها، وكلما وصلت المسافة بين المعنيين حد التطابق كلما غاب الانزياح، وتحولت الكلمة للصفة السطحية المعجمية العلمية وابتعدت عن الشاعرية.
تفضح هذه المفارقات الأجواء العبثية التي يعيشها"أحمد مطر"، حيث يختلط الشك باليقين، وتنفجر الذات المنكسرة بهلوسات تخترق هذا الواقع الضبابي الكثيف، كما تكشف هذه المفارقات ولع أحمد مطر بكسر النمط المنطقي للمعاني، وتجاوزه النظرة الأحادية للأشياء والمفاهيم متخذا من الانزياح وسيلة لإثراء تجربته الإبداعية، وتلك خاصية يطلق عليها جاكبسون"تكامل الأضداد"أو"تولّد اللامنتظر من خلال المنتظر"24 مما يسهم في خلق نص مشحون بالإيحاءات والرموز"، وينطوي على شحنات دلالية لا تتوفر على أكثر من أطياف المعاني أشبه بالأطياف الحلمية الشفافة غير قابلة للتحديد لكنها تستطيع أن تشغّل حيزا زمكانيا من خيال القارئ بما يسهم به من إثارة الوعي"25 يصل النص"المطري"إلى تمرّده واجتياحه اللامتناهي حين يخترق الشاعر طابوهات المقدّس المفتعل والمتوارث، ونقف على ذلك في قوله:
زلزَلـةُ الأرضِ لهـا أسبابُها
إنْ تُدرِكوهـا تُدرِكـوا أسبابي .
لـنْ أحمِـلَ الأقـلامَ
بلْ مخالِبـي !26
يناور هذا المقطع الآيات الكريمة﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾﴿ وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا﴾﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾27التي تحضر حضورا غيابيا في هذا النص بعد أن جرّدت من دلالاتها الحقيقية كرمز لمعاني الحساب، والعقاب، والجزاء..لتدلّ في سياقها الراهن عن معاني الثأر، الثورة، التمرد...إلخ.
-زلزلة الأرض لها أسبابها القيامة الحساب والعقاب=الجزاء آثام العباد
-زلزلة الأرض لها أسبابها الثورة السخط/الثأر/التمرد= التحرر (جور وطغيان الغرب)
لقد حقق هذا الاختلاف بين البنية اللغوية الماثلة أمام القارئ والبنية اللغوية القائمة في حسّه اللغوي مقام المرجع النموذجي انزياحا دلاليا خلّاقا دفع بالنص"المطري"إلى فضاءات السكون، حيث يتقلب صمته وتكتمه، فلعلّ في تجرّأ"أحمد مطر"على النص الشرعي إشارة غير مباشرة لإدانته القاسية لممارسات .
يقول أحمد مطر:
والغربُ يلتـاعُ إذا
عَبـدتُ ربّـاً واحِـداً
في هـدأةِ المِحـرابِ .
وَهْـوَ الذي يعجِـنُ لي
مِـنْ شَعَـراتِ ذيلِـهِ
ومِـنْ تُرابِ نَعلِـهِ
ألفـاً مِـنَ الأربابِ
ينصُبُهـمْ فـوقَ ذُرا
مَزابِـلِ الألقابِ
لِكي أكـونَ عَبـدَهُـمْ
وَكَـيْ أؤدّي عِنـدَهُـمْ
شعائرَ الذُبابِ !28
نلمس بعضا من تلك الإدانة، إذ يتخذ الغرب من الشرع والدين ذريعة لتضييق الخناق على الرعية وسلبهم حريتهم في أمور دينهم ودنياهم.وتكمن شعرية هذه المقاطع في انحرافها عن سياق النص إذ نلمس مفارقة بين أول المقطع وآخره، حيث انعطفت الدلالات بالقصيدة انعطافا حادا، إذ جاءت في سياقها الظاهري بصورة غير متوقعة تأسيسا على ما قيل قبلها مما أسهم في توتر اطمئنان القارئ الذي فوجئ بهذا التنامي اللامنتظر للفعل الشعري الذي ساهم جماليا في تعميق الإحساس لدى المتلقي بالمرارة واليأس والاغتراب.
وما يؤصل هذا الإحساس طغيان حرف متميز هو حرف"الياء"من خلال تجليه كحرف(بصريا وصوتيا) أو كرنة تعقب الوقوف على الكسر في أخر الكلمة، فهذا الصوت السحري العجيب الذي طالما دخل في تركيب كلمات تحمل دلالة الحزن والألم والحسرة...كهيْهات، أيْ، وايْ، ويْلتاه، يهْ..وغيرها.
يتضح لنا مما سبق أهمية الرنة الحزينة المديدة في طرف الصوت الأخير في بعض الألفاظ على مستوى مقاطع القصيدة"الياء"(ياء المخاطب)في تحزن وتحسر.."وهي جزء من ظلال الموقف الموحية بالحسرة والأسى إيحاءً عميقًا.. بليغًا"29، مع ما يفيده جرس الكلمات وإيقاع العبارات في إطالة الموقف للعبرة. وإنه لمن الجمال الدلالي الفني ومن التأثير الوجداني ومن الغرض عند أحمد مطر، ما يجعل لطول الموقف غايته المقصودة.
خاتمة:
عموما يمكن القول إن الفعل/الحدث الشعري في هذه القصيدة ينمو بشكل تصاعدي منطلقا من مجموعة تساؤلات صيغت في قوالب لغوية محايدة ذات الدرجة الصفر من التعبير المجازي لتصل إلى بنى لغوية مشحونة بطاقات مكثفة الدلالات تكشف محاولة"أحمد مطر"في الانعتاق من فعل التشرنق في فضاء المألوفية/العادية، وامتلاكه قدرة على الزيغ والمخاتلة، فلغته تعمد إلى الانزياح، فتتخلى عن بذاختها وعليائها؛لتصبح أقرب إلى السخرية والتهكم بإيقاعها وقاموسها ومفرداتها"30.
وبعد هذه الرحلة العجلى بين مقاطع قصيدة"أنا إرهابي"يمكن استخلاص أبرز النتائج التي توصلت إليها هذه الدراسة فيما يلي:
- إن أحمد مطر ينـزع إلى تشكيل اللغة حسبما تقتضيه حاجته لتقديم رؤاه وأحاسيسه بالطريقة التي يراها أكثر تأثيرا من غيرها، ولو أدى ذلك إلى الإخلال بنظام الجملة، مما ولد لدى المتلقي إحساساً بالدهشة والمفاجأة، نتيجة تصرف الشاعر في أداته اللغوية بوعي تنامت معه الرغبة في البوح والكشف عن ما يختلج في صدره.
- إن أحمد مطر ينحرف عندما يختار من الألفاظ المستقرة في قاموسه المعجمي انزياحا يسبب للمتلقي هزة غير متوقعة، وينحرف في توزيع الكلمات، وترتيب أجزاء الجملة لغايات دلالية وفنية وجمالية تتطاير معها مختلف التوجهات الثقافية والفكرية.
- نلمس في القصيدة جنوح المطري إلى الانحراف نحو ألفاظ وأساليب معينة، وتفضيلها على غيرها من البدائل المتاحة لتحقيق دلالات جمالية، إذ يعد ذلك إحدى السمات الأسلوبية لشعر المطري، فهي بمثابة البصمة الأسلوبية التي تساعد في كشف شخصيته الساخرة المتهكمة المختفية خلف قناع اللغة .
- لقد نجح أحمد مطر في توزيع الكلمات وصياغتها بشكل يجعل المتلقي يري الشاعر، وهو يواجه الحياة والكون من خلال اللغة بنفس كبيرة فتعب وتعبت أيامه وأتعب متلقيه، لذا تصرف في أداته الفنية وانحرف بها عن النمط المعهود بحثا عن تركيب غير عادي يعكس ذاته ونمط تفكيره وأحاسيسه وانفعالاته ويعكس مقاصده على سطح خطابه الشعري.
الاحالات :
– مقاربة أسلوبية في قصيدة أنا إرهابي –
أ.منى جميات
جامعة ابن خلدون - تيارت
الملخص:
[يعتبر الانزياح ظاهرة أسلوبية قد أضافت للنصوص الأدبية الشعرية منها أو النثرية خصوصية تشكيلية ورؤية جمالية، ودلالية تتوخى ممارسة القول الأدبي بأسلوب ينحو للتجديد ومواكبة عصر التطور الأدبي، لحيازة العالم شعوريا وجماليا، أين تصبح للغة سلطتها وقوتها التي تبقيها هي العلامة الإبداعية الأبرز، والتي تتشكل وفقها البنيات الأسلوبية والبلاغية، ولأن القصيدة العربية المعاصرة قد عُرفت بتميزها ومكانتها الخاصة داخل متون الشعر العربي، جاءت مقالتنا هذه لتحليل ظاهرة الانزياح عند "أحمد مطر"]
Abstract :
] Displacement is a stylistic phenomenon which has added to the literary texts (poetry or prose) plastic privacy, aesthetic vision and tag. These avoid the exercise of literary speech with a style that tend store newal and keep up with the age of literary development, topossess the world emotionally and a esthetically, where the language maintains its power and strength that keep it the most prominent creative mark, and according to which are formed the stylistic and rhetorical structures.
And because contemporary Arabic poem was known for its excellence within Arabic poetry, our article aims at analyzing this phenomenon of displacement for "Ahmed Matar” [ .
تمهيد:
مما لاشك فيه أن الشعر العربي المعاصر قد كشف عن قدرة فنية كبيرة في إعادة تشكيل وبناء معمارية الشعر العربي، وفق مقولة رفض نموذج القصيدة التقليدية ومعانقة عوالم التجديد والتجريب في رحاب اللغة والكلمة الشعرية، فتعددت مسميات القصيدة، وتباينت فيما بينها بين (قصيدة الشعر الحر، وقصيدة النثر، وقصيدة التفعيلة...) وتعددت وظائف اللغة حتى باتت هي الملمح البارز، والإشكالية التي يتعامل معها الشاعر تعاملا إبداعيا ينم عن كثير من الحذر والحرص على توليد الطاقات البلاغية والأسلوبية الجمالية والفنية، وذلك لأن الشاعر العربي المعاصر لا يتعاط مع اللغة بوصفها أداة تقوم بتوصيل رسالة إبلا غية فحسب، بل إنه يتعاط معها بوصفها هدفا يتوخى من خلالها تحقيق الغاية الجمالية.
انطلاقا من هذه الفكرة جاءت مقالتنا هذه بعنوان أثر الانزياح في تشكيل قصيدة التفعيلة عند أحمد مطر – مقاربة أسلوبية في قصيدة أنا إرهابي – وقد اخترنا الخوض في دراسة ظاهرة الانزياح عند هذا الشاعر نظرا لأهميتها وكثرة تواجدها في هذه القصيدة محاولين الإجابة عن الإشكاليات التالية:
ما هي مظاهر الانزياح في قصيدة أنا إرهابي؟ وما هي الوظائف الأسلوبية والبلاغية التي يحققها الانزياح في القصيدة؟ والى مدى أسهمت ظاهرة الانزياح في بلورة السمات الجمالية والفنية للقصيدة ؟
في مفهوم الانزياح:
يعتبر مصطلح الانزياح من أكثر المصطلحات النقدية شيوعا وتداولا في الدارسات الأسلوبية والنقدية الحديثة التي تعتني بالنص الأدبي وطرائق استخدام اللغة فيه، والانزياح بوصفه ظاهرة أسلوبية فقد استحوذ على اهتمام الباحثين والنقاد، غير إن جُل الأبحاث قد جعلت من الانزياح مفهوما يقوم على دلالات الخرق، والانتهاك لنمط الكتابة السائدة والعادية بحيث باتت " نظرية الانزياح تتجلى في خرق الشعر لقانون اللغة "1، وهذا لبناء دلالات جديدة تمنح النص الأدبي شيئا من المغايرة، والجمال الذي يصبح معه النص الشعري"يرنو إلى اللاعقلانية أو اللامألوف أو اللاعادي "2، إذ لا يعمل على إحداث الغرابة ولا يصبح عنصرا دخيلا مادام أنه " يثير الدهشة ويكشف عن عملية إبداعية تجسد قدراتها التأثيرية في المتلقي"3.
ولئن كان جون كوهين من بين أبرز النقاد الغربيين المهتمين بظاهرة الانزياح، بحيث جعله شرطا ضروريا لتحقق الشعر كخطاب أدبي، فالشعر بحسب رأيه هو" انزياح عن معيار هو قانون اللغة، فكل صورة تخرق قاعدة من قواعد اللغة أو مبدأ من مبادئها "4، لهذا فإن كوهن قد كان يعني "بالانزياح خرق القواعد اللغوية، أي خرق قواعد داخلية تكمن في النص الشعري نفسه"5، فلا وجود للشعر ما لم يكن حاضرا الانزياح فيه ؛ذلك أن لغة الشعر لا تنبني إلا على أسس من الفرادة والجمال التي يصبح معهما النص الشعري " خطابا مختلفا عما اعتاده الناس من خطابات متعددة"6، والنقد العربي الحديث قد أقام دراسته لظاهرة الانزياح على تعدد مسمياته ومصطلحاته لدرجة بات الانزياحl’ecrat) ( في النقد الحديث يعبر عن "التشويش" و"البعد" "الفارق" و"الخروج" و"الخرق" و"الابتعاد" و"الشذوذ" و"التشويه" و"المجاوزة" و"الانتهاك" "النشاز" "الاتساع..."7، وهذا التعدد بقدر ما أبعد الانزياح عن التأطير ضمن مسمى واحد ومشترك ، بقدر مع دعا إلى الاتفاق على شمول كل هذه التسميات معنى واحد هو الانزياح أو العدول والانحراف -كما يفضل البعض تسميته - التي تتجه كلها للتدليل على ظاهرة أسلوبية واحدة، ترافق لغة الشعر في جمال بنائها وتركيبها .
فالانزياح بهذا التصور هو اشتغال على اللغة التي تصبح مخالفة ومغايرة للاستعمال العادي والمألوف لأجل توليد الطاقة الجمالية، والبلاغية التي تأتي من تغيير دلالات الكلمات وفق تركيب جديد، وهنا يصبح اللجوء لاستخدام الانزياح من قبل الشاعر ليس "عفويا وإنما قصد إليه صاحب الخطاب قصدا"8، وهذا القصد إنما جاء - بالأساس- كوسيلة لـــ"إثراء اللغة الشعرية وإغناء التحولات الإسنادية التركيبية في النص الشعري مما يجعله أكثر حيوية ويبعث في نفس القارئ الحرص على مداومة النظر في التركيب بغية الوصول إلى الدلالة، بل الدلالات الكامنة وراء هذا الاختلاف أو الانتهاك والشذوذ"9.
قصيدة التفعيلة أي قصيدة؟:
شهدت الحركة الشعرية العربية تحولا كبيرا على مستوى البناء والشكل، تحول قد مهد لظهور تجارب شعرية جديدة عديدة حملت لواء التجديد والرفض لشكل القصيدة العمودية التي عرفها الشعر العربي القديم فيما سبق، فبات الشاعر المعاصر "يفتش عن طريقة تخلصه من الشكل الصارم في القصيدة والموشح"10، فحدث أن تعددت مسميات القصيدة التي لم تعد تحمل شكلا أو اسما واحدا، فبين قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة وقصيدة الشعر الحر حدث النقاش، والجدل الذي أثار إشكاليات نقدية عديدة انصبت كلها في دلالات المصطلح، والبحث في طرائق تشكل القصيدة الحديثة من حيث الرؤية والبناء الشكلي وتقنيات التوظيف للغة والإيقاع.
وبالحديث عن قصيدة التفعيلة التي تعد شكلا من أشكال التطور الشعري، فإننا نجد أن هذه القصيدة قد ارتبط وجودها بأسماء شعرية معروفة وهذا من قبيل نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي هؤلاء الذي يبدو أنهم هم من كانوا "رسل هذه الثورة بتأثير من الشعر الانجليزي "11، بحيث كان للأعمال الشعرية الغربية لأليوت وجون كيتس، ولوركا وإيديث ستيويل أثر كبير في توجيه الشعراء المعاصرين لكتابة هذا النوع من القصيدة .
وإذا كانت القصيدة العمودية قد التزمت بشكل واحد جعل منها تحتفظ بقافية، ووزن عروضي واحد فإن قصيدة التفعيلة قد جاءت لتمثل "تخلصا من رتابة القافية الواحدة (دون الاستغناء عن القافية تماما) وتنويعا في عدد التفعيلات في السطر الواحد (دون مبارحة الإيقاع المنظم )"12، وهذا يعني أنها لا تلتزم بوحدة القافية والروي وتأتي بتشكيل إيقاعي متعدد يصبح هو "الشرط الضروري والجوهري في الخطاب الشعري، وليس الوزن العروضي الذي يمثل إحدى التشكيلات الإيقاعية الممكنة للشعر العربي "13.
مظاهر الانزياح في قصيدة أنا إرهابي للشاعر أحمد مطر:
يعتبر أحمد مطر أحد الشعراء المعاصرين الذين شغفوا بالكتابة عن الوطن والسياسة هذه الأخيرة التي شكلت رمزا للكتابة الشعرية عند هذا الشاعر أين باتت القصيدة عنده "تحمل رؤيا القلق، وتستدني الأفق وتستشرف الرؤية في أسئلة تستجلي يقينا طريقة غير مذلل، وتتهيأ في تشكيلات لا تقنع بسدر الشكل ورتابته، وتنبجس من لغة الاحتمال والرمز والسؤال"14، فالمتتبع للأعمال الشعرية للشاعر أحمد مطر سيجد ذلك التمازج بين الموضوعية الصريحة في طرح قضايا السياسة والأرض والواقع العربي بطريقة تحمل هاجس السؤال والسخرية، وبين والتركيب الفني في توظيف البنيات الأسلوبية والبلاغية .
يعمد أحمد مطر في استعماله الفني للغة إلى مخالفة الاستعمال العادي بالخروج على قواعد الاستخدام اللغوي المعتاد، ويميل ميلاً شديداً إلى كسر رتابة النظام اللغوي على مستوييه النحوي والصرفي، وهو بحسه الشعري ينـزع إلى تشكيل اللغة حسبما تقتضيه حاجته لتقديم رؤاه وأحاسيسه بالطريقة التي يراها أكثر تأثيراً من غيرها، ولو أدى ذلك إلى الإخلال ببنية الكلمة أو نظام الجملة، حيث استطاع الشاعر"أحمد مطر"أن يخلق انزياحاً دلالياً غاية في الروعة مما يولد لدى المتلقي إحساساً بالدهشة والمفاجأة ويشحنه بطاقة انفعالية قوية، لذا سنتعرّض الآن إلى مقولات التحليل لقصيدة"أنا إرهابي"من زاوية عدولها عن الكلام الشائع، وانحرافها عن المألوف.
- العنوان:
إذا كان العنوان "مفتاحا أساسيا يتسلح به الدارس للولوج إلى أغوار النص العميقة قصد استنطاقها وتأويلها عبر تفكيكها وإعادة تركيبها "15، فإن عنوان قصيدتنا هذه"أنا إرهابي"يحمل بذور السخط والتمرد، يتناقض مع ذاته بما يسوده من تبعثر لفظي ودلالي، إذ اتحد في صلبه الضمير والذات، بشكل يثير انفعال القارئ وفضوله حين يفاجأ في أول لقاء له بالنص بهذا الانزياح الأسلوبي، والخروج عن النمط التعبيري المتعارف عليه مما يضعف من دور الوظيفة المرجعية، ويجعل المعنى مشوشا، مبهما، وزاده غموضا توالي الإقرار في صيغة العنوان"أنا"وكأن أحمد مطر يصرّ على قطع جسور التواصل بين نصه وقارئه، فالضمير(أنا) وكلمة(إرهابي) تجسّدان المظهر المعنوي لفعل السخط والتمرد أو حالة تجاوزية للثوابت يباح فيها كلّ شيء بما في ذلك التناقض والتشويش والانزياح والعدول، كأن كلمة "إرهابي"هي شفرة خاصة تحمل "القدرة على البث المتواصل للمعاني والمشاعر بظلالها وإيحاءاتها"16 .
أنا إقرار الضمير(أنا)يجسد الانتماء والهوية(عربي).
إرهابي زارع الرعب/لا يخاف منبوذ(عربي)
أنا عربي =إرهابي عربي أنا=أنا المتمرد =السخرية والاستهزاء من الغرب المتغطرس.
حيث يأتي العنوان كظاهرة جمالية تتسم بالقصدية التواصلية، وما تحتمه هذه السمة على المتلقي من تحفيز ثقافته في فك شفرات العنوان وإنتاج دلالته، والشاعر"أحمد مطر" أثقل عنوان قصيدتة"أنا إرهابي" إذ يمتاز في المستوى النصي بكثافة الدلالات التي لا يمكن الولوج إلى مدلولاتها إلا في مستوى القصيدة، الأمر الذي يؤشر قوة ارتباط العنوان بالقصيدة عنده حيث يعتبر العنوان علامة دالة على النص، تتصدّره، وتعرّفه، وتؤطّر كيانه اللغوي والدلالي:
وطغيان الشاعر وتمرده على الغرب يمكن أن نسجله في ابتلاءه بقضايا أمته وعروبته، فاستحضر الضمير"أنا"على مستوى العنوان كوجه يقر به طغيانه وتمرده على الأمر الحاصل(سيطرة الغرب) في إثبات إيمانه وانتماءه وهويته التي يراها الغرب فعلا إرهابيا.
أنا إبليس استعلاء كفر انزياح
أنا الشاعر سخط إيمان
يأتي الانزياح في التوزيع تالياً في الاختيار بعد إسقاط محور الاختيار"العلاقات الاستبدالية"على محور التوزيع"العلاقات الركنية"، حيث يتم توزيع الكلمات التي تم اختيارها من رصيده اللغوي توزيعاً يخرج بها عن المألوف، فتتوزع الكلمات فيما بينها داخل الجملة، والجمل فيما بينها داخل المقاطع، ويكون لذلك تأثير دلالي وتركيبـي...، ويتصرف"أحمد مطر"في تشكيل أساليبه، فهو لا يخضع لقواعد ثابتة مستقرة، وهذه هي نواة أدبية الخطاب في شعره، لذا تجده يتصرف في أدائه الفني والأسلوبي، ولا يعبأ أحياناً بنظام ترتيب الكلمات وتوزيعها على النمط المعهود، وفي ما يلي بيان ذلك.
1-التقديم والتأخير:
تشكل ظاهرة التقديم والتأخير انزياحا في التركيب، لأنه لا تظهر إلا من خلال التركيب، والانزياحات التركيبية في الشعر تتمثل أكثر من خلال ما يعرف بـ:"التقديم والتأخير"، فالبنيات النحوية في اللغة عامة ومطردة، إذ نجد في اللغة العربية أن الفاعل يأتي تاليا لفعله، وسابقا لمفعوله هذا في الغالب إن كان الفعل متعديا، لكن الشاعر قد عمد إلى قلب هذه القاعدة حتى يحقق الانزياح في قصيدته، ومن أمثلة ذلك قول الشاعر:
الغربُ يبكي خيفـةً
إذا صَنعتُ لُعبـةً
من عُلبـةِ الثُقابِ
والغربُ يلتـاعُ إذا
عَبـدتُ ربّـاً واحِـداً
في هـدأةِ المِحـرابِ.17
إن موضع التقديم في هذين المقطعين هو في قول الشاعر:"الغرب يبكي"و"الغرب يلتاع"والشاعر في هدين التركيبين قدم المسند إليه على المسند لغرض معنوي...تقديم الغرب بوقعها وكل ما تحمله من دلالات الغطرسة والقوة والسيطرة لتبعها بفعل (يبكي/يلتاع)ي كسر به أفق توقع المتلقي ويكشف فيه الأسطورة المزيفة بسخرية وتهكم، فيحدث بذلك المفاجأة، ويتحقق بذلك مظهر من مظاهر الانزياح الدلالي، ومعنى هذا أن التقديم انزياح عن أصل الرتبة ومؤشر أسلوبي يكون لغايات تتصل بالمعنى، وهو شأن الأسلوب العدولي مع جميع القرائن، فكلمة"الغرب"في بداية القصيدة تعني"الأخر"ولو كتب النص بالكلمات الأصلية لفقد شاعريته وجماله، ولهذا عندما عمد"أحمد مطر" لتوظيف الاستعارة المفردة تزايدت شاعرية المقطع أكثر
وهنا يصبح للتقديم والتأخير"الأثر البالغ في تشكيل الانزياح التركيبي الذي يولد الشاعرية في النص فقد أتت كلمة الغرب"الفاعل"متقدمة(استصغارا وتحقيرا) عن الفعل"يبكي"(شماتة وسخرية)، وكأنه يريد أن يقول هذا الذي تحسبونه قويا وتقدسونه ما هو إلا جبان صغير وضيع خائف، حيث نلحظ تصرفا في مواقع الكلمات أي التصرف في البناء النحوي للجملة، ومثل هذا التصرف في البناء النحوي لا يعني مخالفة القواعد وإنما يعني العدول عن الأصل:
الغرب الأخر (الأسطورة المزيفة)
يبكي خيفة التستر/عدم إعلان (الذعر والخوف)
يلتاع يحترق فؤادُه من الهَمٍّ أو الحزن (بؤس وشقاء)
وكما نلاحظ فإن عبارة (يبكي خيفة) انعطفت بالمقطع الأول في القصيدة انعطافا حادا وكذلك لفظة (يلتاع) في المقطع الثاني، إذ جاءتا في سياقهما الظاهري بصورة غير متوقعة تأسيسا على ما قيل قبليهما(الغرب=القوة والسيطرة) وما بعدها (إذا صَنعتُ لُعبةً مِن عُلبـةِ الثُقابِ/إذا عَبدتُ ربّاً واحِداً في هـدأةِ المِحرابِ =السخرية) ما أسهم في توتر اطمئنان القارئ الذي فوجئ بهذا التنامي اللامنتظر للفعل الشعري الذي ساهم جماليا في تعميق الإحساس لدى المتلقي بالاستغراب والدهشة والتعجب، إذ ساهم أسلوب الشرط في المقطعين في تعميق دلالة السخرية والتهكم، حيث أصبح يمثل فعل السيطرة والغطرسة والترصد الذي يتفنن فيه الغرب.
2- الذكر(الزيادة):
لا يخلو الشعر العربي من الزيادة، إذ يتخطى الشاعر المعنى الوظيفي للجملة إلى وظائف أسلوبية لا يمكن تحقيقها إلا باستحضار العناصر الزائدة على مجرد النمط التركيبي في المعنى الوظيفي.
وَهْـوَ الذي يعجِـنُ لي
مِـنْ شَعَـراتِ ذيلِـهِ
ومِـنْ تُرابِ نَعلِـهِ
ألفـاً مِـنَ الأربابِ
ينصُبُهـمْ فـوقَ ذُرا
مَزابِـلِ الألقابِ18
كان بإمكان الشاعر أن يقول"وهو يعجن لي"غير أنه لجأ إلى زيادة الاسم الموصول"الذي"، وأحمد مطر قد أضافها كتأكيد للفاعل(الغرب) يحمل سخطا، وقد أضاف"الاسم الموصول"(الذي)عبر به عن سخطه وتمرده، وهذا ما زاد من تأكيد المعنى وقوته، والزيادة هنا عدول عن المألوف والشائع .
كما كان بإمكان الشاعر أن يقول: وَهْـوَ الذي يعجِـنُ لي من شَعَـراتِ ذيلِـهِ وتُرابِ نَعلِـهِ آلاف الأربابِ.غير أن الشاعر لجأ إلى تكرار (من/حرف الجر)وهذا ما جعل مقاطع القصيدة مترابطة، وسر هذا التكرار، إذا دل على شيء إنما يدل على خروج الشاعر عن أصل الكلام من تحقيق الجمالية الشعرية من خلال إحداث رنة ونغمة موسيقية تسر السامع، وهذا ما يعرف بالانزياح، وهو ما يسهم في ثراء الأسلوب بالجمال والإشراق.
والغَـربُ يرتاعُ إذا
أذعتُ، يومـاً، أَنّـهُ
مَـزّقَ لي جلبابـي.
أنصَـحُ كُلّ مُخْبـرٍ
ينبـحُ، بعـدَ اليـومِ، في أعقابـي
أن يرتـدي دَبّـابـةً
لأنّني.. سـوفَ أدقُّ رأسَـهُ
إنْ دَقَّ، يومـاً، بابـي! 19
في هذا البيت يقول الشاعر "والغَـربُ يرتاعُ إذا أذعتُ، يومـاً، أَنّـهُ مَـزّقَ لي جلبابـي"، فالارتياع هنا غير مقترن بزمن معين أو بيوم معين، ولذلك فان لفظة"يوما"هي ظرف زمان مفعول فيه، وهي زائدة يمكن الاستغناء عنها، وبهذا يمكن القول أن الشاعر قد أضافها لغرض دلالي وجمالي يؤكد من خلاله ملازمة فعل"الارتياع"في المقطع لفعل "الإذعان"في حركة تلازمية يتجذاب فيها السبب مع ما يترتب عنه.
3-الحذف:
إذا صَنعتُ لُعبـةً
مِـن عُلبـةِ الثُقابِ
والغَـربُ يرتاعُ إذا
أذعتُ، يومـاً، أَنّـهُ
مَـزّقَ لي جلبابـي. 20
نجد في قول الشاعر"إذا صنعت لعبة"حذف الفاعل وجوبا لأنه لا يمكن أن يحل محله اسما ظاهرا إنما ينوب عنه ضمير مستتر تقديره"أنا"وتقدير الكلام"وإذا صنعت أنا لعبة"والانزياح عن هذا الأصل جاء لتخفيف الكلام فعندما نقول"إذا صنعت لعبة"نلمس خفة النطق، وهذا ما أسهم بإحلال لمسة جمالية لم نلحظها في الكلام الصريح"إذا أنا صنعت لعبة".
-الانزياح الإضافي في قصيدة أنا إرهابي:
هي المفاجئة التي ينتجها حصول اللامنتظر من خلال المنتظر؛ أي أن يتوقع المتلقي مضافاً إليه يتلاءم والمضاف. كأن تتوقع بعد كلمة طعنة الرمح أو السيف، لكن أن يضاف لها كلمة طعنة الريح أو الخوف، هكذا يصبح لدينا انزياح اضافي شعري بحت، وهو من الحيل المقصودة للفت انتباه القارئ حتى لا تفتر حماسته لمتابعة القراءة، ونقف على ذلك في قول الشاعر أحمد مطر.
الغربُ يبكي خيفـةً
إذا صَنعتُ لُعبـةً
مِـن عُلبـةِ الثُقابِ
ففي هذا المقطع نقف على الابتكار الذي صنعه الشاعر، حيث كان غاية في الروعة والجمال بحيث زاوج بين البكاء/الخيفة ولعبة/عود الثقاب.
البكاء خيفة لعبة عود الثقاب
وكأن الهلع يدب في الغرب بمجرد أن يفكر العربي في مسك عود الثقاب الذي يعتبر مصدرا وشرارة لفعل يخشاه الغرب لتأصل الخديعة والمكر في ذاته.
لقد حرك الشاعر أحمد مطر على نحو ما المجال التقريري ساعياً إلى دائرة الشعر رغم كونهما لا يتفقان"إضافة"في بينهما، فالبكاء خيفة يجسد حالة الرهب والخوف الشديد (النتيجة سبقت السبب)، فيحين جسد (السبب)في صورة تهكمية تحمل سخرية (لعبة من عود ثقاب)وصلت إلى زعزعة قوة وأسطورة في النهاية جعل من هذا التزاوج قيمة شعرية وفنية مميزة.
الغرب تلاشي الأسطورة وانكشاف الزيف تحقير (لعبة/عود ثقاب)
وهناك ما يمكن أن نسميه شعرية الكلمة وتطورها، ومنها التحولات في هذا الجانب، إذ إن التناسب بين الكلمة/المعنى وبين الغرض/الموضوع كان هو الأساس الذي يتم به قياس شعرية/شاعرية الكلمة إلا أن الشعر الحداثي بداية من الرومانطيقية أو الرومانسية أخذ في التحول بهذا المقياس إلى آفاق أخرى مبرزا الانزياح في المعنى، حيث يأتي الشعر مبرزا قدرته على الانزياح بمعنى الكلمة إلى معنى ذات دلالة جديدة (تجديد اللغة).
- توظيف أدوات الربط(بين الحضور والغياب):
هذه التقنية الأسلوبية ظهرت بشكل جليّ في شعر أحمد مطر، حيث أسهمت باعتبارها تشكيل أسلوبي فني يمكن أن يفيد منه النص، ويحقق له مستوى جمالياً فريدا، وقد صنف هذا النوع قديماً من الأسلوب تحت مسمى (الوصل والفصل) بمعنى أن الوصل هو عطف جملة على أخرى، وعكسه الفصل، وهذا مألوف ومتبع في الجملة النثرية التواصلية.
أما على مستوى الشعر فيصبح الأمر مختلفا، إذ يكتفي الشاعر بربط جزئيات السطر الشعري بتجاوز دواليه. مع احتمالية ترك العطف بفعل أنه أبلغ من ذكره، ومن الأمثلة على تصدر أداة العطف كل السطر الشعري في المقطع الواحد قول الشاعر أحمد مطر:
وَكَـيْ أؤدّي عِنـدَهُـمْ
شعائرَ الذُبابِ !
وَهْـوَ .. وَهُـمْ
سيَضرِبونني إذا
أعلنتُ عن إضـرابي .
وإنْ ذَكَـرتُ عِنـدَهُـمْ
رائِحـةَ الأزهـارِ والأعشـابِ
سيصلبونني علـى
لائحـةِ الإرهـابِ ! 21
وكي/وهو/وهم/وإن هذا التكرار خطر جداً في أغلب الأحيان، فكون التكرار وخاصة أحرف العطف يؤثر في كون المعنى منطلقاً مع كل جملة شعرية، إلا أنه قد لا يبعث على الملل، ومبدأ عطف الجملة على سابقتها كدلالة رجعية للمعنى المترابط المتراص مع بعضه.
أما التقنية الثانية هو خلو المقطع من أدوات الربط، وهذا أبلغ من الأول، وقد يكون الاستغناء عنه بتوالي أفعال الأمر أو الماضية أو المضارعة. ونقف على ذلك في قول الشاعر أحمد مطر:
هـا أنَـذا أقولُهـا.
أكتُبُهـا .. أرسُمُهـا ..
أَطبعُهـا على جبينِ الغـرْبِ
بالقُبقـابِ :
نَعَـمْ .. أنا إرهابـي!22
أقولها...أكتبها...أرسمها...أطبعها كلها أفعال مضارعة استغني معها عن أحرف العطف تقديراً من الشاعر ورغبة منها لتوسيع نطاق المعنى، وتركه بلا ركيزة معطوفة؛ليظل المعنى محلقاً على نحوٍ مستقل تتناثر معه العديد من الإيحاءات والدلالات، حيث يصبح الشعر في ظل العبث بالجملة الشعرية أكثر ملائمة وأقرب من التفكر والتبصر والإغراق، وهذا بطبيعة الحال يتطلب استدعاءات تاريخية وأسطرة العمل وموروثا ثقافيا واجتماعيا، كذلك إحداث اللبس في المعنى بإفضاء رموز متشابكة متداخلة، واستعمال جمل مركبة بلغة قريبة من المجتمع مفهومة غير مبتذلة، والأهم الصورة بدلاً من الإطباق على المعنى والتركيز على الفكرة.
أقولُهـا للإعلان
نَعَـمْ .. أنا إرهابـي! أكتُبُهـا للإقرار السخط والتمرد
أرسُمُهـا للعيان
أطبعُهـا للتاريخ
يتدرج الشاعر أحمد مطر من خلال الأفعال إلى الغلو والمغالاة في إثبات انتماءه وهويته مع حالة من السخط والثورة، فلم يقف عند الإعلان الشفهي، بل تجاوزها إلى فعل الكتابي الذي اتبعه بفعل رسمي يدعم سخطه ورفضه، إلى فعل طباعي يبقي آماله ملتهبة تبحث عمن يساير دربه في النضال والثورة، وقد تمظهرت جليا في آهات وشحنات ساعد على تلاشيها المقطع الطويل=الهاء +صائت الألف)متواصلة اضطرّ الشاعر إلى لإيقافها بترك فضاء نصي فارغ/ فراغ مطبعي تتخلله نقطتين فقط (..) لعله إشارة إلى استغراق زمني وجيز استغرقه الشاعر ليستعيد أنفاسه، وفي رسم نقطتين إشارة إلى الوقت الراهن، وتشخيص الحالة الراهنة.
نَعَـمْ .. أنا إرهابـي !
زلزَلـةُ الأرضِ لهـا أسبابُها
إنْ تُدرِكوهـا تُدرِكـوا أسبابي .
لـنْ أحمِـلَ الأقـلامَ
بلْ مخالِبـي !
لَنْ أشحَـذَ الأفكـارَ
بـلْ أنيابـي !
وَلـنْ أعـودَ طيّباً
حـتّى أرى
شـريعـةَ الغابِ بِكُلِّ أهلِها
عائـدةً للغابِ .
نَعَـمْ .. أنا إرهابـي 23.
وكما نلاحظ فقد تكررت الجملة (نعم.. أنا إرهابي)مرتين على طول القصيدة، فهذا الأسلوب أو تلك الجملة ذات محمول توصيلي، إلا أن الشاعر وظفها في موقف تهكمي؛لتأخذ معنى دلاليا ساخرا (أعلن عن تبنيه من الوهلة الأولى أي على مستوى العنوان كعتبة للنص الشعري ككل) غاضبا تعجبيا مقترنا بالحزن معا، وهنا يبدو لنا تحول بين المعنى المعجمي السطحي للكلمة، والجملة إلى آفاق أخرى دلالية أعطت لها صفة الشاعرية ما يعني انفتاح جميع الكلمات، وقدرتها على أن تعطي ذات الصفة شريطة أن يجيد الشاعر بقدرته على توظيفها في الموقف؛ لتأخذ المعنى الدلالي المراد الجديد.
المعنى المعجمي(السطحي) المعنى الجديد
نعم =الإقرار =الجرأة =المواجهة
أنا =الذات = تحديد الانتماء =إبراز الهوية
إرهابي =زارع الرعب= الذي يخشاه الغرب =مزعزع الأسطورة المزيفة.
وكما نلاحظ فإن قوة المعنى الدلالي تكمن في حسن الهوة والمسافة الفاصلة بين المعنى المعجمي/السطحي، وبين المعنى الدلالي الجديد والموظف في الموقف الشعري، وكلما اتسعت هذه المسافة كانت الكلمة/الجملة ذات شعرية أكثر من غيرها، وكلما وصلت المسافة بين المعنيين حد التطابق كلما غاب الانزياح، وتحولت الكلمة للصفة السطحية المعجمية العلمية وابتعدت عن الشاعرية.
تفضح هذه المفارقات الأجواء العبثية التي يعيشها"أحمد مطر"، حيث يختلط الشك باليقين، وتنفجر الذات المنكسرة بهلوسات تخترق هذا الواقع الضبابي الكثيف، كما تكشف هذه المفارقات ولع أحمد مطر بكسر النمط المنطقي للمعاني، وتجاوزه النظرة الأحادية للأشياء والمفاهيم متخذا من الانزياح وسيلة لإثراء تجربته الإبداعية، وتلك خاصية يطلق عليها جاكبسون"تكامل الأضداد"أو"تولّد اللامنتظر من خلال المنتظر"24 مما يسهم في خلق نص مشحون بالإيحاءات والرموز"، وينطوي على شحنات دلالية لا تتوفر على أكثر من أطياف المعاني أشبه بالأطياف الحلمية الشفافة غير قابلة للتحديد لكنها تستطيع أن تشغّل حيزا زمكانيا من خيال القارئ بما يسهم به من إثارة الوعي"25 يصل النص"المطري"إلى تمرّده واجتياحه اللامتناهي حين يخترق الشاعر طابوهات المقدّس المفتعل والمتوارث، ونقف على ذلك في قوله:
زلزَلـةُ الأرضِ لهـا أسبابُها
إنْ تُدرِكوهـا تُدرِكـوا أسبابي .
لـنْ أحمِـلَ الأقـلامَ
بلْ مخالِبـي !26
يناور هذا المقطع الآيات الكريمة﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾﴿ وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا﴾﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾27التي تحضر حضورا غيابيا في هذا النص بعد أن جرّدت من دلالاتها الحقيقية كرمز لمعاني الحساب، والعقاب، والجزاء..لتدلّ في سياقها الراهن عن معاني الثأر، الثورة، التمرد...إلخ.
-زلزلة الأرض لها أسبابها القيامة الحساب والعقاب=الجزاء آثام العباد
-زلزلة الأرض لها أسبابها الثورة السخط/الثأر/التمرد= التحرر (جور وطغيان الغرب)
لقد حقق هذا الاختلاف بين البنية اللغوية الماثلة أمام القارئ والبنية اللغوية القائمة في حسّه اللغوي مقام المرجع النموذجي انزياحا دلاليا خلّاقا دفع بالنص"المطري"إلى فضاءات السكون، حيث يتقلب صمته وتكتمه، فلعلّ في تجرّأ"أحمد مطر"على النص الشرعي إشارة غير مباشرة لإدانته القاسية لممارسات .
يقول أحمد مطر:
والغربُ يلتـاعُ إذا
عَبـدتُ ربّـاً واحِـداً
في هـدأةِ المِحـرابِ .
وَهْـوَ الذي يعجِـنُ لي
مِـنْ شَعَـراتِ ذيلِـهِ
ومِـنْ تُرابِ نَعلِـهِ
ألفـاً مِـنَ الأربابِ
ينصُبُهـمْ فـوقَ ذُرا
مَزابِـلِ الألقابِ
لِكي أكـونَ عَبـدَهُـمْ
وَكَـيْ أؤدّي عِنـدَهُـمْ
شعائرَ الذُبابِ !28
نلمس بعضا من تلك الإدانة، إذ يتخذ الغرب من الشرع والدين ذريعة لتضييق الخناق على الرعية وسلبهم حريتهم في أمور دينهم ودنياهم.وتكمن شعرية هذه المقاطع في انحرافها عن سياق النص إذ نلمس مفارقة بين أول المقطع وآخره، حيث انعطفت الدلالات بالقصيدة انعطافا حادا، إذ جاءت في سياقها الظاهري بصورة غير متوقعة تأسيسا على ما قيل قبلها مما أسهم في توتر اطمئنان القارئ الذي فوجئ بهذا التنامي اللامنتظر للفعل الشعري الذي ساهم جماليا في تعميق الإحساس لدى المتلقي بالمرارة واليأس والاغتراب.
وما يؤصل هذا الإحساس طغيان حرف متميز هو حرف"الياء"من خلال تجليه كحرف(بصريا وصوتيا) أو كرنة تعقب الوقوف على الكسر في أخر الكلمة، فهذا الصوت السحري العجيب الذي طالما دخل في تركيب كلمات تحمل دلالة الحزن والألم والحسرة...كهيْهات، أيْ، وايْ، ويْلتاه، يهْ..وغيرها.
يتضح لنا مما سبق أهمية الرنة الحزينة المديدة في طرف الصوت الأخير في بعض الألفاظ على مستوى مقاطع القصيدة"الياء"(ياء المخاطب)في تحزن وتحسر.."وهي جزء من ظلال الموقف الموحية بالحسرة والأسى إيحاءً عميقًا.. بليغًا"29، مع ما يفيده جرس الكلمات وإيقاع العبارات في إطالة الموقف للعبرة. وإنه لمن الجمال الدلالي الفني ومن التأثير الوجداني ومن الغرض عند أحمد مطر، ما يجعل لطول الموقف غايته المقصودة.
خاتمة:
عموما يمكن القول إن الفعل/الحدث الشعري في هذه القصيدة ينمو بشكل تصاعدي منطلقا من مجموعة تساؤلات صيغت في قوالب لغوية محايدة ذات الدرجة الصفر من التعبير المجازي لتصل إلى بنى لغوية مشحونة بطاقات مكثفة الدلالات تكشف محاولة"أحمد مطر"في الانعتاق من فعل التشرنق في فضاء المألوفية/العادية، وامتلاكه قدرة على الزيغ والمخاتلة، فلغته تعمد إلى الانزياح، فتتخلى عن بذاختها وعليائها؛لتصبح أقرب إلى السخرية والتهكم بإيقاعها وقاموسها ومفرداتها"30.
وبعد هذه الرحلة العجلى بين مقاطع قصيدة"أنا إرهابي"يمكن استخلاص أبرز النتائج التي توصلت إليها هذه الدراسة فيما يلي:
- إن أحمد مطر ينـزع إلى تشكيل اللغة حسبما تقتضيه حاجته لتقديم رؤاه وأحاسيسه بالطريقة التي يراها أكثر تأثيرا من غيرها، ولو أدى ذلك إلى الإخلال بنظام الجملة، مما ولد لدى المتلقي إحساساً بالدهشة والمفاجأة، نتيجة تصرف الشاعر في أداته اللغوية بوعي تنامت معه الرغبة في البوح والكشف عن ما يختلج في صدره.
- إن أحمد مطر ينحرف عندما يختار من الألفاظ المستقرة في قاموسه المعجمي انزياحا يسبب للمتلقي هزة غير متوقعة، وينحرف في توزيع الكلمات، وترتيب أجزاء الجملة لغايات دلالية وفنية وجمالية تتطاير معها مختلف التوجهات الثقافية والفكرية.
- نلمس في القصيدة جنوح المطري إلى الانحراف نحو ألفاظ وأساليب معينة، وتفضيلها على غيرها من البدائل المتاحة لتحقيق دلالات جمالية، إذ يعد ذلك إحدى السمات الأسلوبية لشعر المطري، فهي بمثابة البصمة الأسلوبية التي تساعد في كشف شخصيته الساخرة المتهكمة المختفية خلف قناع اللغة .
- لقد نجح أحمد مطر في توزيع الكلمات وصياغتها بشكل يجعل المتلقي يري الشاعر، وهو يواجه الحياة والكون من خلال اللغة بنفس كبيرة فتعب وتعبت أيامه وأتعب متلقيه، لذا تصرف في أداته الفنية وانحرف بها عن النمط المعهود بحثا عن تركيب غير عادي يعكس ذاته ونمط تفكيره وأحاسيسه وانفعالاته ويعكس مقاصده على سطح خطابه الشعري.
الاحالات :
مواضيع مماثلة
» الصراع الأيديولوجي الدولي ودوره في تشكيل أسس ومفاهيم علم الأدب المقارن د. محمد بكادي
» جمالية الانزياح التركيبي في الشعر المغربي القديم أسلوب الحذف في شعر الحصري الضرير
» المقال السادس:التشكيل اللغوي في شعر أحمد معاش
» الجهود المعجمية للدكتور أحمد مختار عمر(دراسة وصفية)
» المـــــديح الديني في الشعــــــر الشعـــــبي الجزائري في تبسة (أحمد بن سعد أنموذجا)
» جمالية الانزياح التركيبي في الشعر المغربي القديم أسلوب الحذف في شعر الحصري الضرير
» المقال السادس:التشكيل اللغوي في شعر أحمد معاش
» الجهود المعجمية للدكتور أحمد مختار عمر(دراسة وصفية)
» المـــــديح الديني في الشعــــــر الشعـــــبي الجزائري في تبسة (أحمد بن سعد أنموذجا)
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى